قراءة في تحولات “فتح” السياسية
بقلم ماجد كيالي
لا يمكن القول إنّ حركة “فتح” ما بعد مؤتمرها السادس هي ذاتها ماقبله. والراجح أن هذا المؤتمر سيوصف مستقبلا بأنه المؤتمر التأسيسي الثاني لهذه الحركة، أرسى عملية تحولها من حركة تحرر وطني إلى سلطة، أو إلى حركة تعمل من اجل تعزيز وضعها كسلطة (قبل انجاز عملية التخلص من الاستعمار وبالتفاهم معه) ومن حركة تتوسّل المقاومة (وضمنها المقاومة المسلحة) لتحقيق أهدافها إلى حركة تتوسل المفاوضات كطريق وحيد لتحقيق هذه الأهداف (على حد قول قائدها أبو مازن)، ومن حركة تعتمد الجماهير والشرعية النضالية لتعزيز مكانتها إلى حركة ترتكز على علاقاتها السلطوية لترسيخ مكانتها وسيطرتها في المجتمع.
وما ينبغي توضيحه هنا أن هذا التغيير ليس له علاقة بالتطوير والتجديد والتفعيل، كما ليس له علاقة بالتحول من الرومنسية النضالية نحو الواقعية؛ كما قد يعتقد البعض. فليس هكذا تجري الأمور في “فتح”، التي تفتقد لعلاقات تفاعل وتواصل، كما للحياة المؤسسية والتنظيمية والفكرية. وما يؤكد ذلك غياب النقاش التنظيمي والسياسي عن مؤتمر “فتح” السادس، وتركزه حول إدارة الحركة والصراع على الهيئات القيادية فيها، إذ لم يُقْدم المؤتمر على مراجعة التجربة الفتحاوية التنظيمية والعسكرية، وتجربتها في بناء المنظمة والسلطة، أو تجربتها في المفاوضة والانتفاضة والمقاومة، ولم يحدد من المسؤول عن حال التدهور في دورها القيادي والتآكل في مكانتها في مجتمعها، والترهل في بنيتها.
أما بالنسبة لتجديد الهيئة القيادية الأولى (اللجنة المركزية) فيمكن القول (وعلى عكس ما يبدو من تغيير الأشخاص)، إن ثمة استمرارية، سواء في النهج أو في طريقة العمل، حيث معظم الوجوه الجديدة هي أصلا من أركان الحرس القديم، ولا تختلف معه البتة. وبمعنى آخر فثمة استمرارية في “فتح” من ناحية هيكليتها وإدارتها وطريقة عملها (وحتى قيادتها)، إلا أن ثمة قطيعة مع أفكارها التأسيسية الأولية.
طبعا من السذاجة بمكان إحالة عملية التغيير هذه إلى المؤتمر الاخير وحده، فقد تعرضت هذه الحركة طوال العقود الماضية لمسارات ضاغطة، ضمنها ضراوة الهجمة الإسرائيلية عليها، وقيود النظام العربي والاحتكاكات السلبية معه، وضعف البيئة الدولية المؤاتية لكفاح الفلسطينيين، والخلل الشديد في موازين القوى لمصلحة إسرائيل، وإخفاق الخيارات الوطنية الفلسطينية من التفاوض إلى الانتفاضة ومن المقاومة إلى التسوية والسلطة.
وبغض النظر عن ضغط العوامل الموضوعية على “فتح” فإن طريقة عمل قيادتها والتسيّب والمزاجية والفردية في بناها وقراراتها، ساهمت في تفكيكها وتبديد مواردها وطاقتها النضالية وفاقمت أزمتها وجعلتها قابلة للتغيير والتحول.
ويمكن التأريخ لبداية التحول في هذه الحركة بتبنيها في منتصف السبعينات هدف إقامة سلطة أو دولة فلسطينية في الأرض المحتلة عام 1967، وفي تصريح ياسر عرفات، زعيم هذه الحركة ومهندسها، في جنيف (1988) بشأن نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل والتحول نحو إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع. وقد تم التأكيد على كل ذلك عمليا بتوقيع اتفاق أوسلو (1993) وانتقال قيادة وكوادر منظمة التحرير وفصائلها الى الداخل، بعد إقامة السلطة.
لكن وعلى رغم أهمية كل هذه التحولات التي غيّرت الساحة الفلسطينية إلا أن الازدواجية في الخطاب السياسي، وفي أشكال النضال، ظلت تحكم هذه المرحلة، في ظل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
على ذلك، فإن التغيرات الحاصلة اليوم، والتي تم ارساؤها في المؤتمر السادس، ليست جديدة وهي تعود الى ياسر عرفات. ولكن الرئيس الراحل بإحساسه العالي برمزيته وبنوع إدراكه لدوره التاريخي، وبطريقته في العمل، ظل يرسل إشارات متضاربة ومزدوجة. هكذا رفض عرفات اقتراحات أو أملاءات التسوية الإسرائيلية ـ الاميركية في مفاوضات “كمب ديفيد 2” (تموز 2000)، وعمل بعدها على إشعال الانتفاضة (أواخر عام 2000)، بل إنه ذهب الى حد احتضان المقاومة المسلحة (“كتائب شهداء الأقصى” مثلا)، وضمنها العمليات التفجيرية بدعوى الضغط على إسرائيل لدفعها لتقديم المزيد من التنازلات، وبدعوى المزاوجة بين المفاوضة والانتفاضة وبين النضال السياسي والمقاومة المسلحة؛ وكان أن حصل ماحصل بعدها.
الآن، ثمة قيادة فلسطينية جديدة / قديمة، على رأسها محمود عباس (أبو مازن) لا تحمل ثقل الزعامة، ولا تلقي بالا للرموز والإشارات التاريخية والوطنية، وتتكلم لغة واحدة وواضحة، مفادها أن الهدف هو إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وأن حل قضية اللاجئين يتم وفق القرار 194، وأن العودة ستتم إلى أراضي الدولة الفلسطينية المفترضة،
وأن السبيل إلى كل ذلك يتم بالمفاوضات وفقط بالمفاوضات.
وفي الواقع فإن أبو مازن قال هذا الكلام في ظل زعامة ياسر عرفات، واختلف معه على ذلك ما أدى إلى قطيعة بينهما، وتقديمه استقالته من اللجنة المركزية لـ”فتح” ومن منصبه في رئاسة الحكومة أيضا؛ بعد أن تم التشكيك به من قبل الرئيس الراحل وأنصاره (أواخر عام 2003). وكرر أبو مازن هذه الطروحات بصراحة تامة إبان ترشحه للانتخابات الرئاسية (مطلع العام 2005)، حيث انتخب على أساسها. وها هو بعد أن استتب له الوضع ينقل هذا الخطاب لتعميمه على “فتح” كلها؛ بل إن أبو مازن يستعد لتعميم الأمر من “فتح” إلى المنظمة، ليتم التركيز عل السلطة.
على ذلك يمكن القول إن المؤتمر السادس لحركة “فتح” أعطى شرعية لمجمل التغيرات التي خضعت لها “فتح” وكرّسها، لاسيما منذ إقامة السلطة في الضفة والقطاع، وأنه كان بمثابة إعلان عن انتهاء مرحلة (أو موتها)، ببنيتها وخطاباتها وأشكال نضالها، بعد أن كان يتم التلاعب على ذلك منذ زمن (لأغراض الاستهلاك السياسي). هكذا جرى اختزال القضية الفلسطينية بمجرد إقامة دولة في الضفة والقطاع، واختزال الشعب الفلسطيني بالفلسطينيين في هذه الأراضي، واختزال المقاومة بمجرد عملية تفاوضية؛ برغم كل الأحاديث عن وحدة الشعب وعن الحق في المقاومة (وفق الشرعية والقانون الدوليين) والتمسك بحق العودة للاجئين، وعن استمرار “فتح” كحركة تحرر وطني، والتي تبدو نوعا من الفولكلور لا أكثر.
بهذا المعنى يمكن القول إن المؤتمر السادس شكّل تواصلا مع تاريخ “فتح” وتراثها، لجهة طريقة الإدارة والعمل والبنية والأشخاص، ولكنه شكّل قطيعة مع أفكارها التأسيسية الأولى، التي تمثلت، أولا، باعتبارها حركة وطنية تحررية تبغي تحرير فلسطين. وثانيا، بانتهاجها الكفاح المسلح كطريق حتمي ووحيد لتحقيق هذا الهدف. وثالثا، بتأكيدها وحدة الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، فهي الحركة التي صاغت الهوية الوطنية الفلسطينية، وبنت مداميكها الرمزية والمؤسسية. ورابعا، بحرصها على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني فهي قاتلت في سبيل ذلك.
الآن لا نريد مما تقدم القول ان حركة “فتح” يجب أن تقف أو أن تتمترس عند لحظة انطلاقها في منتصف الستينات، فثمة متغيرات يجب أخذها في الاعتبار حقا. وإذا كان ينبغي حقا مراجعة شكل المقاومة المسلحة فإن هذه المراجعة ينبغي ان تتضمن تقويم هذا الشكل، وتحديد جدواه في كل مرحلة، ومحاسبة القيادة ذاتها المسؤولة عن عثراته وعن تحوله إلى نوع من الفوضى والعسكرة. ايضا إذا كان ثمة مراجعة لخيار المقاومة المسلحة، فالأَوْلى أيضا أن تتم مراجعة نقدية ومسؤولة لخيار المفاوضة، كيف تمت وعلى أي أساس جرى توقيع اتفاق اوسلو بالاجحافات المتضمنة فيه بشأن استمرار الاستيطان وعدم تحديد المآل النهائي للمفاوضة! كما ينبغي مراجعة الخيار السياسي وعدم الانحصار بهدف الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع وطرح البدائل من إنسداد افق هذا الحل منذ 15 عاما.
المعنى من ذلك أن ثمة فرقاً بين أن تتكيف “فتح” مع المتغيرات الدولية والإقليمية وموازين القوى، وبين أن تترك للتخبط والفوضى والمزاجية في اتخاذ القرارات وتقرير الخيارات والحيرة في تحديد هويتها السياسية. وثمة فرق بين أن تجري هذه التحولات في إطار تنظيم للقوى، وضمن مراجعة نقدية جدية ومسؤولة، وفي إطار دراسة الخيارات والبدائل الممكنة، وبين أن تجري بشكل فوقي وبطريقة مفبركة.
وكانت التجربة الفلسطينية أثبتت بأن الخلل في الإدارة، وضعف البنية المؤسسية للفلسطينيين، وغياب الاجتهاد في البحث عن البدائل والخيارات، ساهمت في تبديد طاقات الفلسطينيين، وتضييع انجازاتهم، وتجويف حركتهم الوطنية؛ وهو ما حصل فعلا ويحصل لحركة “فتح” التي قادت النضال الفلسطيني طوال العقود الماضية.
(كاتب فلسطيني)
المستقبل