لبنان مقابل الموصل
عبد الامير الركابي
الولايات المتحدة الأميركية قايضت لبنان بالموصل، هذا التطور في الحقيقة افصحت عنه تزامنات، ففي اليوم الذي تم فيه الاعلان عن اتفاق بين حكومة المالكي – وبظهرها الاميركيون طبعا – وبين التيار الصدري، تحول الموقف في لبنان. ومن هنا تم الذهاب الى العملية التي قلبت التوازنات هناك. طبعا الاميركيون لا يحبون الظهور بمظهر من “باع حلفاءه”، ومعسكر المعارضة، يمكنه ان يراعي بعض الاعتبارات الداخلية، وان يخطئ، الا انه واثق تماما من ان المعادلة تبدلت.
لماذا كانت قطر حاضرة بسرعة البرق؟ الاميركيون يعلمون بأن قطر هي اكثر الجهات معرفة بخلفيات وحقيقة ما يجري اليوم في لبنان. وهذه ليست حال السعودية التي انهار ركن قوي من اركان مكانتها. لقد اعلن امير دولة قطر منذ اليوم الاول ويدا بيد مع الرئيس السوري بشار الاسد (ما الذي اسر به الاول للاخير يا ترى غير ما اعلن وعرف؟ ان الامر الجاري في لبنان هو شأن داخلي، والبحرين أيدت هذا الموقف، اما السعوديون فلا يخفون ارتباكهم، وشعورهم العميق بالخسارة، خاصة ان الوفد الذي بعثت به الجامعة العربية الى لبنان تترأسه قطر، الدولة الغامضة، ولكن المفوضة دائما في الشؤون التي تدخل فيها بحماسة.
بوش حريص للغاية على انهاء عهده بعملية اعلان النصر على “القاعدة” في الموصل. وقواته متوقفة هناك على مشارف المدينة منذ شهرين، قبل ان يقرر تأجيل العملية الفاصلة ويذهب الى البصرة، والغريب ان السياسيين في لبنان يظلون يصرون بقوة على قراءة “شؤونهم”، انطلاقا من ساحتهم وحدها، وحين يتعرضون للمؤثرات/ التدخلات الخارجية، فانهم يحيلون تعاملهم معها الى الزاوية الدعائية والسجالية ضد خصومهم. ولا اظن أن احداً من هؤلاء قد قرأ على الاطلاق معنى ان تكون المعركة الفاصلة لبوش في مدينه مثل الموصل، حيث لا مجال للنصر من دون سوريا والقامشلي، فهنا تكمن اليوم قوة استثنائية لسوريا لم تقدرها السعودية، ولا مصر، ولا قطعا الساسة في لبنان. واقصى ما انتبه له هؤلاء هو بالون اردوغان، عن العرض الاسرائيلي بخصوص الانسحاب من الجولان. الآن بوش اطمأن الى انه قد القى القبض على ابو حمزة المهاجر قائد دولة “القاعدة” في العراق، غير ان قواته هناك تنفي هذا الخبر، لانها تريد الاحتفاظ به لحين الانتهاء من تنظيف/تدمير المدينة واعلان النصر فوق جثتها. وقتها سيكون للاعلان عن اعتقال زعيم تنظيم “القاعدة” وقع اقوى، والجمهوريون سيكونون على العموم قد اصبحوا عند خط الهجوم المضاد. اما الوقت الباقي لديهم فهو كاف لهم حتى يمارسوا حملة اعلامية مضادة، تظهر ان استراتيجية النصر البوشية لم تكن بلا معنى، وانها ليست مجرد عناد وعبث.
لا يحسن المعتدلون العرب، واللبنانيون، رؤية بؤرة المصالح الامبراطورية في الشرق الاوسط، ومن ثم فهم لا يستطيعون تصور حجم المساومات التي يمكن ان تعقد هناك، ولا شك في أنه من الصعب على هؤلاء ان يبادروا لربط القضايا العديدة والمتباينة في الظاهر، ويضعوها ضمن تسلسل معقول، فلماذا تكون الموصل اهم من لبنان ؟ وما قيمة اعلان النصر على “القاعدة” في العراق ؟ هذه بالطبع اسئلة تخطر على البال، ولكن عودة الجمهوريين الى السلطة من جديد من خلال ماكين، وفي ظل توطيد للحلف بينه وبين “المحافظين الجدد” امر يتجاوز المصالح الآنية او التكتيكية، وحتى لو افترضنا وجود قضايا أخرى مهمة في المنطقة، فان بعضها، وحتى المهم منها، يمكن ان يؤجل الى ما بعد الانتخابات. ولكي تدخل قضايا كهذه ضمن الحزمة الاكبر من المشاغل الامبراطورية، فلا بد اولا من ضمان فاعلية سلم اولويات وعناصر البعد الإستراتيجي للمخططات الامبراطورية.
الآن، ليس هنالك لدى بوش والجمهوريين ما هو اهم من ضمان عودتهم الى البيت الأبيض، لقد أخطأ بوش والمحافظون الجدد في الحسابات الاستعمارية حين طابقوا بين منطق ” غزو” العراق وهدف “احتلاله”. وبعد خمس سنوات، بدأت ملامح نهاية الغزو تلوح قوية في الافق. المقاومة الجزئية العراقيه تراجعت، بعدما أمكن اغراقها في الاصطراع الطائفي، والانهاك الذي الحق بحاضنتها الاجتماعية (تم ذلك على يد ايران والولايات المتحدة معا ويدا بيد) افرز قاعدة للسلطة التي تمثل في كل حالات الاحتلال في العالم، “الستار المحلي” للاحتلال. والصحوات، التي يراد تعميمها على الموصل، وحتى في بغداد كلها، كما في الجنوب، هي حصيلة تسليط خطة الانهاك والدفع الى حافة الفناء، او خطر التهميش الاقصى، على الكتلة الاجتماعية الحاضنة للمقاومة (الدليل هو اكثر من مليوني مهجر للخارج واكثر منهم في الداخل خلال عام 2006). وبهذه الطريقة تم كسر تلك الحاضنة الاجتماعية للمقاومة، واصبح الاطار المتعاون مع الاحتلال، قاعدة ارتكاز اجتماعي اشمل واوسع، متعدية للطوائف، في مقابل تقلص قاعدة تحرك وعمل المقاومة.
وبعد الموصل يأمل الاميركيون بأن تتوافر اسس قوية، لنظام يحول بين الاحتلال وقواته، وبين المجتمع العراقي وقوى المقاومة، ويدفع الى مؤخرة المشهد، المجابهة المباشرة بين الاميركيين وقواتهم وبين المقاومة. والامثلة اصبحت معروفة منذ مدة. فالصحوات قاتلت “القاعدة”، وضيقت على المقاومة التي تراجع اداؤها. وفي البصرة ومدينة الثورة /الصدر، قامت الحكومة والميليشيات الشيعية المندمجة بها، بحملة هجوم وحشية ضد التيار الصدري وانصاره. ومع ان الوقت يبدو قصيرا، الا ان نهاية تجربة بوش، لم تعد تشير فقط كما كانت عليه الحال قبل سنة، الى مجرد كارثة ومأزق اميركي، وما يمكن اعتباره سياقا صعبا للغاية، انما متفقا مع الاغراض العادية لكل احتلال عرفه التاريخ، قائم الان، والخطوات التي تنفذ لاستكمال وجهته تسير بايقاع متواصل ويحرز نجاحات.
قد لا يعتبر مثل هذا التقدير مقبولا، وكثرة من محبي التهريج المقاوم، سيعتبرون هذا الرأي في صالح الاحتلال، لأن العراق، كما لبنان والعالم العربي، لديه ويا للأسف، كثرة من اولئك الذين لا يفرقون بين الامنيات والحقائق. مع فارق ان هؤلاء هم الذين تسببوا في المآل الذي وصلت اليه المقاومة العراقية، وهو ما كنا ننوه به باستمرار. فما يحصل اليوم هو نهاية حقبة من تاريخ المقاومة، والمقاومات ظواهر حية وتاريخية، تتغير، وتمر بحقب ومراحل وعقبات وتحورات، قبل ان تنضج او لا تنضج. لدينا على ذلك امثلة مباشرة، منها تاريخ الثورة الجزائرية، والثورة الفلسطينية، حيث نطل على غابتين من التجارب الطويلة والتعثرات التي لا تنتهي، والانتصارات والاخفاقات. أبعد من هذا، فان حركات التحرر هي في جزء اساسي من تكوينها، حصيلة، وظاهرة لاحقة على الاحتلال. وتنبثق عادة من الصراع معه، ومن اختبارات المجتمعات لوجوده. والعراق عرف خلال السنوات الخمس المنصرمة حقبة مهمة من تاريخ المقاومة، هي حقبة “المقاومة الجزئية”، الحكومية من حيث الاصل والمحركات، لتبدأ من هنا فصاعدا، حقبة اخرى اعلى، لا تزال تتبلور وتنمو، فكرياً وسياسياً وعملياً، الى ان تأتي لحظة تبلور ظاهرة “المقاومة الشاملة”، وفي المقابل والتوازي، انتقل الاميركيون من “الغزو” الذي اخطأوا في تصور امكان تحويله بمجرد تحقيق اهدافه الاولى، الى “احتلال”، قبل ان يضطروا لخوض مواجهة رهيبة ودموية، استمرت خمس سنوات، قبل ان تظهر لهم ملامح الانتقال الجاري الآن من حالة ” الغزو” غير المستقر الى “الاحتلال“.
فشلت المقاومة العراقية الجزئية، رغم ما حققته من منجزات عسكرية، وحتى سياسية كبرى، في الوصول الى هدف طرد الاحتلال. بينما تتهيأ اسباب قيام “سلطة متعاونة” قادرة على الفصل بين المحتلين وبين المقاومة وقواها، وهذا الوضع يشبه اليوم ما حصل بعد ثورة 1920، والمعاهدة الامنية التي يريد الاميركيون عقدها مع الحكومة بعد معركة الموصل، تشبه معاهدة 1922. وبداية هذا التاريخ ستسجل، ويريد لها بوش ان تسجل من بوابة الموصل، حيث سيعلن الرئيس الاميركي نصره الباهر على “القاعدة” والمقاومة، ويتحول الخطاب الجمهوري الى الهجوم على مناهضيه الديموقراطيين، الذين سيتهمون بالتعامل بخفة مع القضايا الحيوية والاستراتيجية للولايات المتحدة، ومن هنا سيكون المدخل الارحب للعودة الى البيت الابيض، في وقت تتدامج فيه تعرجات خبرة وحضور “المحافظين الجدد” وحضورهم واصرار ماكين، مما يعطي افقا اخطر واكبر بكثير، للمشروع الامبراطوري الاميركي، المتعثر حتى الآن.
مثل هذا السيناريو، يعني في التقديرات الاميركية، مستقبلا يعيد للولايات المتحدة وسياساتها الحربية والهجومية، قوة الانبعاث واستعادة الحيوية. وماكين ضمن هذا الاطار، هو مشروع تجديد ونهوض من العثرة لتصورات بوش و”المحافظين الجدد”، قد تفتح الآفاق امام خطوات أخرى، منها الهجوم على ايران، والالتفاف على سوريا عبر تكريس الاحتلال غير المباشر في العراق، واعادة ترتيب اجمالي الوضع العربي، ومنه او في جملة قضاياه المهمة، موضوع المقاومة اللبنانية.
فهل مثل هذا السيناريو يوافق ما تريده المملكة العربية السعودية – او سعد الحريري او وليد جنبلاط ناهيك طبعا سمير جعجع؟ بالطبع لا، غير ان الولايات المتحدة تنظر صوب حافات افق تراه هي من موقعها، وهذا الموقع هو ليس موقع قريطم او كليمنصو. فالفوارق بين الافقين كبيرة، وما يعتقده وزير الخارجية السعودي حاسما بالنسبة للملكة الآن، لا يجده بوش امرا يستحق اكثر من بعض الانتباه. فبوش سمح له أخيرا بمهاجمة الموصل، بعد شهر ونصف الشهر من القتال في البصرة ومدينة الثورة / الصدر في بغداد، والتيار الصدري، واهالي مدينة الفقراء في بغداد، اضطروا بفعل الضغوط والتدخلات الايرانية الى عقد هدنة، تظهر محدودية قدرة حكومة المالكي على الحسم، وقبل هذا حاجة الاميركيين الى ضمانات بانهم لن يتلقوا طعنة في الظهر وهم على مشارف الحدباء. وتلك الضمانات استغرق الوصول اليها كل الاسابيع الماضية من القتال المتنقل من جنوب العراق الى بغداد، الى ان اضطر الاميركيون والمالكي لعقد اتفاق هو هدنة معززة ببنود غير معلنة.
فلا تسليم للسلاح، ولا حديث عن حل جيش المهدي، فماذا اذن؟ واي اتفاق هذا، يعقده جيش يعرف ان ظهره مكشوف، ولا يستطيع مطلقا، اذا قرر الصدر استغلال الفرصة وتفجير الوضع، خوض معركتين في وقت واحد؟ ما تحقق هو هدنة، ممهورة بمهر تعهد سري، بان لا يطلق الصدريون طلقة واحدة، ما دامت الموصل تحت رحمة الاميركيين والقوات الحكومية. وايضا، أن يبلع الاميركيون لسانهم اذا ماحدث اي “تطور اقليمي”، لنقل في لبنان، كما رأينا مؤخرا، حتى ولو اخذ وجهة تغيير موازين القوى، او افضي لحزمة خطوات تصب في هذا الاتجاه.
بوش يريد استراتيجيا، الوصول لاعلان النصر على حدود الحدباء، من أجل دخول ماكين الى البيت الابيض، ولا امل له بان يحقق هذا الهدف، الا اذا قيدت يد الصدريين الى الوراء. ايران عملت بكل ثقلها على تأمين المطلوب، وبوش قبل ان يدفع الثمن ويسكت.
منذ السبعينات قال كيسنجر: “من الآن فصاعدا ينبغي للانظار ان تتركز على الجهة الشرقية من الشرق الاوسط”. ومع كل الشواهد الكبرى هناك، وكل ما حدث منذ ثلاثة عقود، لم تتعود الرؤوس بعد كيف تدير ظهرها للبحر وما وراءه، والايام تمر، ومن لا يحسنون ادارة انظارهم يخسرون.
– باريس
( كاتب عراقي)