صفحات مختارة

معنى \”التقدم\” وخرافة الرفض

د.خالد الحروب
في الجدل الحديث والمضطرب حول السؤال: \”لماذا لم يتقدم العرب والمسلمون؟\” تسللت مفاهيم ما بعد حداثية لتعيق الفهم وتقطع الطريق على انفتاح السجال على مصاريعه المختلفة. وأهم هذه المفاهيم القول إن فكرة \”التقدم\” هي فكرة قسرية وإكراهية، إن لم تكن شبه نازية، تستبطن فرضية أساسية مفادها أن كل المجتمعات والحضارات تسير وفق مسار \”التقدم\” الذي سار عليه الغرب. وهذا \”التقدم\” المفترض يتجه في طريق خطي صارم ينقل البشر من حالاتهم التقليدية ما قبل الحديثة إلى الحديثة بكل ما يستلزمه ذلك ويجلبه من شروط وتغييرات في المجالات المختلفة ثقافيا، واجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديا. و\”التقدم\” هو بهذا المعنى جوهر الشكل الحديث للعالم واجتماعه السياسي، وهو قلب عملية الحداثة الذي يظل ينبض علماً وابتكارات ومفاهيم وتصورات. ولـ\”التقدم\” الخطي أشكال مختلفة: قاسية وليّنة، القاسية منها هي تلك التي تسيطر فيها المادية على كل الفضاء الفردي والاجتماعي وترفض الإقرار بما هو غير مادي، وخاصة الأشواق الروحية للأفراد والجماعات. أما اللينة منها فهي الأشكال التي تأخذ في الاعتبار تلك الأشواق وتحملها معها وتراعيها، لكن تظل تخضعها للمسار العقلاني العام ولا تسمح لها بإزاحة العقلانية واحتلال موقع القيادة في توجيه المجتمعات.
سياسياً، يعني التقدم تقديم فكرة الدولة وإعلاءها في الاجتماع السياسي والدولي واعتبارها الوحدة الأساسية في تنظيم علاقات البشر ببعضهم بعضاً. فقبل الدولة كانت الوحدات المتنافسة إما العشائر أو الطوائف أو الأديان أو الإمبراطوريات، وكلها لها تواريخ دموية. ومع ذلك فإن تاريخ الدولة الحديثة ليس أقل دموية ولكنه أكثر تنظيماً وينطوي مستقبلها على احتمالات أكثر للتوصل إلى سلام عالمي، وهو ما لا تحمله أو تعد به الأشكال الأخرى من الاجتماعات البشرية. وعلاقة الأفراد بالدول تنتظمها فكرة \”المواطنة\” التي تقوم على أساس تعاقدية قانونية آليتها الأساسية تكمن في الحقوق والواجبات. والانتماء للدولة يتقدم على الانتماء للقبيلة والطائفة والدين، لأن الدولة هي التي توفر قائمة الحقوق والحماية والرعاية.
ثقافياً واجتماعياً، يعني \”التقدم\” تقديم مفاهيم الحرية الفردية والإبداع المستقبلي وسياسات الخدمات والمصالح المتبادلة على مفاهيم الهوية والماضوية والتكلس وراء وحول القيم والمفاهيم التقليدية والبالية. وليست هناك قداسة لمبادئ وقيم تتحول إلى عبء فردي واجتماعي وتعيق حركة الأفراد والجماعات باتجاه إبداع أشكال وصيغ تحسّن من شروط الحياة البشرية، وتوفر بيئات ونظماً أكثر رفاهية ورأفة بالإنسان. ويفترض \”التقدم\” بمعناه الحداثي إعمال النقد بإطلاقيته بالموروث الجماعي التقليدي والديني والنظر إليه بانتقائية مقصودة تأخذ منه ما يناسب العصر والحداثة، وتلفظ ما لا يناسبهما. وهذه الآلية هي على العكس تماماً مما تطرحه الآن كثير من الدعوات التقليدية والدينية التي تثقلها التواريخ والماضويات والانشدادات المعيقة للتراث. فما نراه فيها هو انتقائية تريد أن تأخذ من العالم الحديث ما يناسب صيغ وآليات ما قبل الاجتماع الحديث، وتركب مجتمعات نصف تقليدية ونصف حداثية، تقبل التقدم هنا وترفضه هناك.
اقتصادياً يعني \”التقدم\” إطلاق طاقات الأفراد والجماعات في اتجاه استثمار ممتلكاتهم وقدراتهم وتعظيم أرباحهم لأن ذلك سيقود إلى الاستغلال الأمثل للثروات والأموال وتحقيق رفاهيات أوسع، ويشجع على عدم \”كنز الأموال\”. ويُلخص هذا بحرية السوق والرأسمالية التي تشجع الملكية الفردية والإبداع والبحث الدائم عما هو جديد. وكل المخترعات والاتجاهات الجديدة التي نراها حولنا سواء في مجالات الطب، والزراعة، والمواصلات، والتعليم هي نتاج الانطلاق دائم التجدد لرأس المال. وقد أتيحت للبشرية فرصة تاريخية لاختبار النظرية الأكثر تنافسية وهي نظرية مُلكية الدولة لوسائل الإنتاج كما طرحتها الماركسية وكما طبقها الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية. وكانت النتيجة هي وأد المبادرة الفردية والتكلس الجماعي وتعاظم استبداد الدولة.
ولا يعني كل ما سبق أن \”التقدم\” بصوره ومجالاته المتنوعة: ثقافيًا، واجتماعياً، وسياسياً، واقتصادياً قدم الترياق التام لمشكلات البشر وأزمات البشرية، وأنه كان خلواً من النواقص والكوارث. وكانت المعضلات التي رافقت \”التقدم\” عديدة وكبيرة، لكن زاوية النظر هنا نسبية ومقارنية وليست إطلاقية ولا مؤدلجة. وتتحمل الصيغ \”القاسية\” والنازية من التقدم وزر الحروب العالمية والإبادات الإنسانية والاستعمار، كما تتحمل الصيغ البشعة من الرأسمالية وزر استغلال الشعوب الأخرى وثرواتها. وهي كلها أوزار تقر بها وتنتقدها صيغ التقدم اللين قبل أن ينتقدها الآخرون، ونقدتها الحداثة وتنقدها وتتهمها قبل أن ينقدها ما بعد الحداثة. لكن المُهم هنا هو عدم التخلص من المولود مع ماء الولادة، والتفريق بين العناصر المختلفة. وهذا ما قامت به نظريات \”نقد الحداثة\” التي رافقت المشروع الحداثوي ولم تهادن في نقده وتفكيك استطالاته غير الإنسانية وتوحش بعض جوانبه. ولكنها في الوقت ذاته لم تقبل النكوص عليه والتخلي عنه كلياً. فقد ظل التقدم أحد أهم المكونات الجوهرية للمشروع الحداثي لكن تمت أنسنته، وتتم أقلمة \”العلموية\” الباطشة التي خلقت أيديولوجيا جديدة تدور حول العلم وتقدسه بدل أن تضعه في خدمة الإنسان. واستطاع \”نقد الحداثة\” أن يتواءم مع \”الحداثة\” نفسها ويصبح الرقيب الدائم عليها والناقد لكل انحرافاتها. والتمظهرات الأهم سياسياً وثقافياً فضلا عن الفكر والكتابة تتمثل في التيار العريض لمنظمات وهيئات المجتمع المدني المعولم التي تنتقد الانحرافات السياسية والاقتصادية على الدوام، وتنتصر لحقوق الإنسان وتعدل الكثير من القوانين، وتخلق شبكة عالمية من التضامن.
بخلاف ذلك أن ما طرحته أفكار وانتقادات \”ما بعد الحداثة\” كان أقرب إلى التخلص من الولد مع ماء الولادة، والذي أنتج في كثير من الأحيان فكراً عدمياً لا يقدم بدائل. وفي مسألة التقدم كان النقد الشرس الذي قدمته مدرسة ما بعد الحداثة قد أورث نوعاً من العجز والشلل الفكري. فأمام إغراء وإغواء النقد الذي وجه إلى الحداثة (والغرب) لم يكن أمام الكثيرين من الذين لحقت بهم ويلات الغرب والحداثة إلا أن يتبعوا ذلك النقد. لكن النهاية كانت عدم تقديم البديل وتقديس التخلف بكونه خصوصيات ثقافية يجب المحافظة عليها.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى