الزمن المقدّس والزمن المدنّس
فالح عبد الجبار
المصادفة وحدها ألقت بي في حومة الإنصات الى نقاش ممل عن رؤية الهلال من عدمه. أفتى المتحدث المتصنع، من دون تردد، بصواب ان يبدأ شهر الصيام في أيام متباينة، وحقق اكتشافاً جغرافيا مفاده ان بلاد المسلمين متباعدة. وانتهى النقاش الى وضع عقيم تختلط فيه الجغرافيا بالفلك، والضلال بالمعرفة.
هل يؤدي تباعد بلاد المسلمين الجغرافي الى فجوة زمنية بهذا الاتساع، بحيث ان مبتدى رمضان، ورأس السنة الهجرية، والروزنامات القادمة، تتعدد بفوارق ايام. معلوم ان خطوط الطول، التي ابتكرت لتنظيم الزمن الأرضي، هي 24 خطاً، وأن كل خط، بالأحرى كل درجة، تمثل ساعة واحدة، وأن اقصى فارق زمني بين نقطتين او خطين لن يزيد عن 12 ساعة. وهو ما نراه جلياً في عيد رأس السنة الميلادية، الذي تحتفل به المعمورة في يوم واحد محدد من أيام الأسبوع، سوى ان هذا اليوم يبدأ بفوارق زمنية على عدد خطوط الطول، بقيمة ساعة واحدة لكل خط. ولن تبدأ السنة الميلادية يوم الأحد في اليابان، والإثنين في بيروت، والثلثاء في لندن، والأربعاء في نيويورك.
كان حساب الزمن، والإمساك بمعناه، ولا يزال، الشغل الشاغل للفلسفة والعلوم، وقبلها للثقافات القديمة، وحضارات الأديان السماوية. وتميزت كل هذه الانشغالات في العثور على مقياس متجانس، منتظم للزمان، لحركة الأشياء في المكان.
وبينما تتوغل الحضارة الحديثة في حساب الزمن الكوني للمجرات، وللكون الفالت في اتساعه، وتوغل في حساب النهارات المختلفة لشتى الكواكب، وتدقق في حساب الزمن الأرضي، لدرجة اختراع ساعة نووية، واكتشاف وحدات زمنية موغلة في الدقة (المكتشف عالم مصري شهير)، يجادل اصحابنا، من طراز مفتي الـ «بي بي سي» في لندن، بمنطق المزولة، والساعة الرملية، محولين الزمن من حركة موضوعية، دقيقة، وقابلة للقياس والمقارنة، الى هوى ذاتي، يتعدد بتعدد من يريد الإفتاء برأي.
وأشد ما يحير، ان هؤلاء لا يقربون علم الفلك، وعلــــم الزمان (الفيزياء)، كبرياء اوعجرفة. وهناك حقائـــق فيزيائيـــة بسيطــــة يتعلمهـــا طلبة المدارس، بأن الليل والنهار يتساويان عند خط الاســـتواء، ويتباينان طولاً في الشتاء والصيف (لجهة موقع الأرض من الشمس)، فيطول النهار صيفاً ويقصر شتاء. وهذه الأطوال محسوبة بدقة تكاد ان تكون مجهرية. ويصر بعض المتمسكين بحرفية التعبير، لا جوهره، مثلاً، على وجوب تبين النهار من الليل، وهو امر بدهي في المنطقة المعتدلة.
لكن الخيال يجمح بي الى مناطق الأسكيمو، حيث يمتد النهار نوراً وبهاء وشمساً ساطعة ستة اشهر، وتمكث العتمة ستة اشهر اخرى. وتصل نهارات بعض البلدان في اقصى الشمال، أو جنوبه، الى عشرين ساعة صيفاً، او تتقلص الى بضع سويعات شتاء.
يحدث هذا على كوكب الأرض، لا في الكواكب اللامأهولة، الغارقة في صمت زمانها الخاص.
يعرف المشتغلون بنظم المعرفة ان مقابل كل حقل من حقول العلم الوضعي، ثمة حقل من الخرافة والأساطير. فمقابل الطب ثمة الطب الشعبي، ومقابل الكيمياء ثمة الخيمياء، ومقابل التحليلات المستقبلية ثمة قراءة الكف والبخت والأبراج. هذه الثنائيات تنبت على الحواف المتثلمة بين العلوم والظاهرات المدروسة، تلك الحواف التي تمتلئ بقدر متفاوت من المجاهيل القائمة عند مستوى معين من تطور المعارف والعلوم. لكن هذا لا ينطبق على الزمن الأرضي.
فأسراره مهتوكة، وأدوات قياسه متاحة. فدورة القمر في فلكه، محسوبة بدقة رياضية، بما في ذلك ابتعاده المتصل عن الأرض بوصة او اكثر كل عام، حتى يفلت من اسرنا. ودورة الأرض حول الشمس، حركة قائمة، منتظمة، انتظاماً صارماً، قابلاً للقياس والمقارنة. وفي الحالين، سيان ان كانت الحضارة المعنية تقيس أزمانها المقدسة او المدنسة باعتماد الشهر القمري، ام الشهر الشمسي.
وقد عرفت شتى الأقوام، بصورة ما، منذ بدء الخليقــة، جوهر الزمان بوصفه حركـــة الأشياء فـــي المكان. وابتكرت وسائل بدائية في البدء لتسجيلـــه: المزولة الشمسية، او الساعة الرملية. أما عند بعضنا، فالزمان يظل شخصانياً، لجهة سلطـــة تحديده، أم لجهة وسائل هذا التحديد. رجل الديـــن بدل الفيزيائي، والعين المجردة بدل المراصد، والحساب البدائي بدل الرياضيات المعقدة. وفي الماضي كانت نهارات أوروبا تبدأ وتنتهي على ايــقاعات اجراس الكنائس، حتى جاءت الساعة الميكانيكيــة لمخترعين مبدعين، لتطرد النواقيس من سلطة تعيين الزمن الأرضي، اليومي.
الزمن يخترق الأشياء كلها. ثمة الزمن الكوني، الفارغ، المتجانس، المتماثل، اللانهائي، الذي اكتشفته الفيزياء الحديثة، وهو اكتشاف يوقع الرعب ازاء هذا الامتداد اللامتناهي. والزمن يسير في اتجاه واحد لا رجعة فيه، رغم كثرة عبدة الماضي. كما اكتشفت الفيزياء بعد رعب لانهائية الزمن، رعباً آخر هو نسبيته. امام هول الزمن اللامتناهي تقف حضارتنا، او بعض ممثليها التقليديين، هيابة، منكفئة، عائدة القهقرى الى اطمئنان المزولة، عازفة عن تقبل الأشكال الجوهرية المتباينة للزمن، وممتنعة عن تقبل قواعده الناظمة، غارقة في الأهواء البشرية للمفتي والمعمم. والعجيب ان الزمن المقدس، بوصفه تأويلاً لمعنى الزمن اللامتناهي، يتفق مع الفيزياء، في لا نهائية امتداد هذه الحركة، بصيغة الحياة السرمدية، فما الخلود سوى الرديف اللغوي لهذا اللاتناهي. ورغم اختلاف الأديان والمذاهب ثمة اتفاق على الامتداد الأزلي. لكن الصراع، في حضارتنا، قائم على اشده بين المذاهب والدول، في الدين الواحد، على تحديد مبتدى الصوم وختامه. ليس ثمة اكليروس واحد يتجرأ، في طول الأديان الأخرى وعرضها، على تأجيل بدء السنة الميلادية. فإن فعل حسبه الناس ذا جنّة. ما تشترك فيه المذاهب ان الإكليروس فيها يريدون دوام احتكارهم لتحديد حركة الزمن، والإصرار الغريب على الامتناع على النظر في الحقائق البسيطة التي تقول ان الشيء، جرماً كان ام حصاة، لا يمكن ان يكون في مكانه ولا يكون في مكانه في اية لحظة.
وبينما يحسب الفلكي والعسكري والصناعي ورجل الدولة الزمن بالأيام والســاعات والدقائق والثواني، ويوزع هذا الزمن على مختلف الأصقاع، وبينما يحمل الأطفال ساعات يد تقيس الأوقات في اكثر من رقعة جغرافية، وتطالعك الفنادق بعدد من الساعات الحائطية الموقتة على عواصم شتى، بل يعرض البعض ساعة عالمية مسطحة، تحمل خرائط القارات مقسمة الى مناطق زمنية، تحدد طلوع الشمس وغروبها، ضحى النهار، أم انبلاج الفجر، في كل زوايا المعمورة، نصادف من يدير ظهره لكل ذلك، ويرغمنا، بحكم سلطانه، على قبول رؤيته الشخصية، الفردية، للزمن، فتطلع علينا السنة الهجرية بأربعة رؤوس، متجاوزة غرابة التوأم السيامي.
الحياة