تسييس النهضة: السياسة والهوية، محمد رشيد رضا نموذجاً
إياد العبدالله
كانت ثلاثينات القرن المنصرم عصر صعود الإيديولوجيات الجماهيرية وسياساتها في أوروبا وعندنا. وهذا ميل طبيعي لحداثة تميزت بالقسر والانقلابات في البنى الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. ولعل مرد هذه القسرية إلى ذلك النمط التدخلي والفوقي الذي وسم الحداثة وهي تبني مؤسساتها ومشروعيتها، مما حفَّز إرادات متعددة لمقاومتها والحد من تأثيرها. وما يمكن أن نعدّه إحدى مفارقات الحداثة بحق، أن من تنطّح للسجال معها والنيل منها أو من بعض تجلياتها، كان لا بد له أثناء ذلك أن يلزم نفسه ما تطرحه هذه الحداثة من موضوعات ومشكلات، وأن يسلك ما وفّرته هي أيضاً من مسالك وطرائق لتحقيق ما يرمي إليه. ينطبق هذا على الإسلام ودياره، كما ينطبق على غيره. فبعدما سعت الإصلاحية الإسلامية مساعي الهوية، متخذةً لأجل ذلك التلفيق منهجاً، كان لهذه المساعي أن تخفق لأسباب شتى، أولها استعصاء المجتمع عليها فبقيت أسيرة النخبوية. إضافة إلى أن الوقائع الحافلة على الأرض، وخصوصاً السياسية منها، كانت تنزع نحو إذكاء مزاجية أميل إلى صفة الحسمية منها إلى التلفيق. وهو ما سنجده ظاهراً عند آخر فلول هذه الإصلاحية، الشيخ محمد رشيد رضا، الذي أخذ ينحو مناحي السجال والحسم والمواجهة، منذ الاحتلال الايطالي لليبيا 1911 ومساندة الغرب لهذا الاحتلال أو السكوت عنه؛ الحدث الذي كان علامة على بداية النهاية للدولة العثمانية “المسلمة”. وسيقتضي الأمر إعلان نهاية الخلافة وسقوطها في تركيا 1924، على يد الكماليين، حتى تتبلور عند الشيخ رضا ملامح هذا المزاج المواجِه وخطوطه وأولوياته. مع التأكيد بالطبع، أن رضا لم يغادر في سجاليته هذه ومواجهته مع الغرب والمتغربين، الأرض التي مهّدها من سبقه، وخصوصاً جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
ينتمي رشيد رضا في تطوره الفكري والسياسي إلى مستويين. يتمثل المستوى الأول في ما اصطلح على تسميته بالإصلاحية الإسلامية، التي حاولت ابتلاع صيرورة الحداثة الغربية وهضمها ضمن “كل الهوية” الإسلامي. إن هذه الصيرورة التي يحكمها التغير والتعدد والفساد، أسيرة “الجزئي” تالياً، لا ترقى إلى مستوى الهوية الكلي، ولا كذلك إيديولوجياتها وعلومها، الأمر الذي يوجب استيعابها في عالم الثبات، عالم الحضارة المؤيدة بحقائق السماء، الحضارة الإسلامية. وهذا هو مغزى “عندياتنا” التي درجت منذ أيام الطهطاوي، حيث ستجد غالبية مآثر الحداثة الأوروبية أصولها في الإسلام (العلم، الديموقراطية، الدستور،…).
والحقيقة أن آلية المواجهة التي اجترحتها النخب الإسلامية “الإصلاحية” كانت تقوم على محاولة سلب الغرب صيرورته “الحداثية”، وفصلها عن “كله” الذي انحصر في المسيحية، هذه التي زعمت النهضوية الإسلامية أنها ثابت الغرب وجوهره. بل إن هذه الحداثة الغربية (الجزء) ما كان لها أن تنحرف نحو المادية وأمثالها من المثالب، إلا بسبب أن حاضنتها (المسيحية ـ الكل) غير شرعية، وتالياً لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها. وهذا هو سر امتداح بعض جوانب الحداثة، حتى في صيغتها الغربية.
أما المستوى الثاني لتطور محمد رشيد رضا فيتمثل في تزعمه تيار الكفاحية الإسلامية. والمشترك بين كلا المستويين هو انحيازه الى السياسي، فكان في هذا أقرب إلى أستاذ أستاذه. ففي حين أن الأستاذ محمد عبده انجرّ في بداياته إلى مزاج سياسي ضارب أخذه عن أستاذه الأفغاني، فإنه لن يلبث أن يغادر مواقعه معلناً فشل السياسة والعمل بها، ليحط رحاله في مدارات الإصلاح الإسلامي والتربية والتنوير الاجتماعي. أما الأفغاني فكان مشغولاً بالسياسة، وأمام الحضور الغربي الكثيف سينحو في اتجاه تفسير عضواني للأمة، أنجزه في إطار شرحه لنظريته في التعصب، الذي هو سعي إلى بناء الأمة وكمالها وتسوير هويتها في مواجهة ذلك التسلل الغربي المدجج بالعلوم والعسكر والآداب والمطامح، والهوية. إن نظرية التعصب هي مديح للأمة ينطلق من افتراض أنها قائمة ومنجزة، ولذلك فالنظرية لا تحمل هاجساً نظرياً حقيقيا يسعى إلى تعريف الأمة وتبيان مقوماتها وعناصرها، بل هي جهد عملي يستهدف إيقاظها وصون وحدتها. فالإسلام هو هوية الأمة عند الأفغاني، و”التعصب” هو الذي يجعل أفراد هذه الأمة “خلقاً واحداً كبدن تألف من أجزاء وعناصر تديره روح واحدة”. ولهذا لن يألو الأفغاني جهداً في توثيق هذه النظرية بحيث تجد لها سنداً في الطبيعة الإنسانية وفي إرادة السماء. إن بروز السياسي كفاعلية استقطاب في عصر النهضة، هو بمثابة سعي إلى تشييد الأمة وإعادة إحيائها وترميم هويتها، وإظهار الدولة بوصفها ذلك التجسيد العقلي والوجودي لهذه الهوية، من حيث تطابقها (أي الدولة) مع الأمة.
وفي حين أن محمد عبده سيغادر رهان أستاذه على السياسة، فإن تلميذه محمد رشيد رضا لن يلبث أن يفارق أستاذه أيضاً، ولكن ليعود إلى المواقع التي شغلت بال أستاذ الأستاذ.
غير أن هناك فرقا بين الأفغاني ورضا.
فالأول لم يكن يهجس بالدولة، وقد كانت منجزة وقائمة؛ ولذلك وجّه جهده في اتجاه حثّ الأمة على أن تسلّم قيادها الى تلك الدولة بحسبانها مخزن هويتها، حيث الخطر عليها ذو مصدر واحد: الغرب المادي الدهري وبعض “المتسربلين بسرابيل الإفرنج”. أما رضا فقد كان امتداداً لذلك الجهد الذي بدأ العمل عليه سياسياً منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، والذي يصبّ في إنقاذ الدولة القائمة أو البحث عن بدائلها. ومن هنا فلم تكن الأمة فقط هي الشاغل لهذا الجيل، وإنما أيضاً الدولة. وخصوصاً أن النقائض آنذاك لم تعد تتحدد خارجياً وحسب… بل وداخلياً أيضا عبر قوى وأفكار ستكون العروبة إحداها. وهنا مربط الشعبوية التي لا تتلخص في كونها “خطابا إلى الأمة” وفي الأمة فقط، وإنما تحمل طوبى الدولة المتطابقة مع هذه الأمة أيضاً.
نسجل هنا اختلاف محمد رشيد رضا عن الصورة التي ترسمها له أدبيات أخذت على عاتقها إدراجه في سياق القطيعة مع التراث النهضوي الإسلامي الذي مثّل محمد عبده أهم أعلامه. الصورة هذه، هي ما جهد الدكتور ماهر الشريف مثلاً على إبرازه وتأكيده (كتابه “رهانات النهضة”). وبالضد من مقالة الشريف ولفيفه، نرى أن رضا لم يبرح الأراضي النهضوية، وظل ملتزماً تيمتها الأساسية، الإسلام الهوية و”دين العقل” بحسب الأفغاني. نمضي أكثر من ذلك إلى القول إن الإشكالية النهضوية ظلت كامنة وحاضرة عند خلفاء رضا، “الأخوان المسلمين”، حتى اصطدامهم مع دولة 23 تموز الناصرية (غير أنه لا مجال لتناول هذه النقطة هنا).
لم يخفَ انحياز رضا إلى السياسة في مرحلته الأولى أيام أستاذه الإمام. فموقفه الناقد، وغير المهادن، من التيار العلماني، وعلى رأسه آنذاك فرح أنطون ومجلته “الجامعة”، معروف تماماً. لقد هاجم فرح أنطون جمال الدين الأفغاني ووسمه بالعقم، فهو كطفل “… في يده فأس يحاول بها أن يهدم أساس العلم الطبيعي لردّه عن الشرق، ولكنه لا يؤثر فيه قطعياً”. قال هذا، وهو يحاول تفنيد قراءة الأفغاني لطبيعة العلم (بصيغته الغربية) ودهريته والتي كانت مستنداً له في بناء نظريته عن التعصب؛ ليصل فرح أنطون من خلال نقده إلى مفهوم مغاير لهذه النظرية سمّاه “التساهل” الذي هو أيضاً نظرة إلى الاجتماع البشري الذي لن تقوم قائمة الشرق بدونه. فإذا كان “التعصب” الأفغاني يتحدد بمضمونه الديني، فإن “التساهل” هو إقصاء الدين عن الحياة العامة، أي هو ذو مضامين علمانية كالمواطنة وحرية الاعتقاد. وهو ما سيجد فيه محمد رشيد رضا تمييعاً للهوية الإسلامية، ومدخلاً للفرنجة إلى ديار الإسلام، ولتغدو “جامعة” أنطون المسوِّقة لهذا المفهوم، أضرُّ بالمسلمين من “المجلات النصرانية الدينية التي تطعن في الإسلام طعناً صريحاً”.
ستحفل “المنار” بأدبيات المنافحة عن الإسلام بأقلام رضا وفريقه، وخصوصاً بعد نهاية “حرب المدنية الكبرى” بحسب تعبيره، وما تمخضت عنه من هزيمة العثمانيين وإخراج ما تبقّى من بلاد العرب من عهدتهم، وتزايد النفوذ الغربي الذي سينتهي إلى الاستعمار المباشر لهذه البلاد. يقسم رضا “المحاربين للإسلام” تسعة جيوش، ثلاثة أجانب (المستعمرون والمبشرون والمعلمون في المدارس) والباقي من المسلمين (الجغرافيين، بتعبيره) وهم “رجال الدين الجامدون ومشايخ الصوفية والمتفرنجون والملحدون ودعاة التجديد والمتفرنجات من النساء”. وسيرى رضا أن من بين هؤلاء الأخيرين (المتفرنجون والملاحدة والمجددون) من هو أشد خطراً وأذى من جيوش الغرب الثلاثة. ولهذا لن توفر “المنار” جهداً في ملاحقتهم والنيل منهم على امتداد بلاد الإسلام (الجغرافي، بلاد الأفغان والترك والفرس والعرب). فما يقوم به هؤلاء فيه من “الخفة الشبيهة بخفة الصبيان، فهم عاقون لأمتهم هادمون لهدايتها وتشريعها وآدابها، بل ساعون لابتلاع الإفرنج لها، ومنهم مستخدمون لذلك”.
إن ردّ “المنار”، وخصوصاً رضا، لن يبارح في السجال مع هؤلاء الأرضية التي خلّفته لها الإصلاحية الإسلامية التي وجدت تبلورها الأخير على يد أستاذه محمد عبده، ولكن بعد تسييسها. إثر عودة هذا الأخير من زيارة لفرنسا، ورداً على سؤال حول ما شاهده فيها، سيجيب مقارناً: “أنه وجد فيها إسلاماً بلا مسلمين، أما هنا فيوجد مسلمون بلا إسلام”، هذا القول يلخص إلى حد كبير الوعي الإسلامي النهضوي بالحداثة الأوربية. ففي فرنسا رأى الإمام العلم والعمل والنظام، وهي قوام المدنية الغربية، وهذا بما أنه من صميم الإسلام كما يرى، فإذاً لا اعتراض عليه في حد ذاته، بل الاعتراض على انحرافه الذي يتبدى في تعطيل القيم الدينية والروحية وإحلال القيم المادية والعلمانية مكانهما. وسبب هذا الانحراف معلوم طبعاً، إنه “المسيحية” التي ستشكل تلك القيم المادية والعلمانية شكلاً من أشكال الهروب منها. ما الحل إذاً في رأي الإمام؟ يورد رضا على لسانه أن “أوروبا لا تجد لها منقذاً من فوضى الأفكار المادية وفساد الأخلاق إلا بالإسلام الصحيح، وأنها ستنتهي إلى الاهتداء إليه في يوم من الأيام”. والحق أن الإمام في رأيه هذا إنما يتابع ما بدأه أستاذه الأفغاني، فكما يورد رضا أيضاً له، يقرر الأفغاني أن “لا حجاب يحول بين أوروبا وبين دين القرآن إلا نحن”، إذ يجدون “وراءه أقواماً غلب عليها الجهل والكسل والتواكل والخرافات، فيلقونه قائلين: لو كان كتاب إصلاح لصلح به متبعوه، فإذا أردنا أن نقنعهم بحقية الإسلام وإصلاحه وجب أن نقنعهم قبل ذلك بأننا لسنا مسلمين”. وعليه سيذهب رضا إلى أن “النبي المطلوب لإصلاح فساد المدنية الغربية هو محمد رسول الله…”. انطلاقاً من هنا، ومن مسلّمة أن الإسلام ليس مجرد كتابٍ وعبادات، بل أمة ومنهاج حياة، لذلك لا بد من السعي إلى قيام دولته التي ضيعها أولئك الذين “لا وطن لهم ولا ملة ولا أمة” من ملاحدة العرب والترك، الساعين إلى “حل جميع الروابط التي تتكوّن بها الأمة من مقومات ومشخصات”؛ سيؤلف رضا كتاباً في “مسألة الخلافة التي هي أهم المسائل الدينية والدنيوية”، يعرض فيه مبرراتها ومقوّماتها وضرورتها، وينطلق في ذلك أيضاً من الإشكالية النهضوية نفسها، وهو ما سيغدو في ما بعد الأساس الذي ستقف عليه نظرية التحديث الإسلامي. يصوغ رضا وجهة نظره بتقريره أن العلمانيين هم اختراق مسيحي من حيث أن العلمانية هي إشكالية مسيحية وتنسجم مع التاريخ الآخر، تاريخ الغرب. المقلدون الجامدون من رجال الدين المسلمين يواجهون هذا الاختراق، ولكن برؤوس مفتولة إلى الوراء بعيدة عن الواقع. والحل هو في مواجهة الاثنين عبر الاستعانة بالشرع ووضع اليد على حقيقة الحضارة الأوروبية. من هنا يذهب إلى أن الدولة الإسلامية (الخلافة) هي دولة مدنية، وحاكمها مدني، والسلطة الحقيقية فيها هي للأمة عبر ممثليها من أهل الحل والعقد؛ وإن كان الإسلام هو مرجعيتها، فإنه قادر على استيعاب المدنية، وهو ضمان عدم انحرافها وحسن سيرها في الطريق الصحيح.
إن رفض رضا لمفهوم الدولة الدينية هو مفتاح رفضه للعلمانية أيضاً. فلا مبرر لهذه الأخيرة إلا في مواجهة الأولى، وهذه غير موجودة وغريبة عن الإسلام ودياره. وهو ما ستعارضه الجهادية الإسلامية في ما بعد، فهي ترى أن رفض العلمانية لا يستوي إلا بتثبيت الدولة الدينية ورفض المدنية صراحة بوصفها جاهلية.
لقد دعا رضا في كتابه عن الخلافة، إلى قيام حزب ينهض بأعباء تشييد هذه الخلافة والذود عنها، سمّاه “حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل” الذي يستلهم تعاليم محمد عبده ومنهجيته. لذلك سيطلق عليه أيضاً “حزب الإمام”. وهو حزب معتدل لأنه يقف بين حزبين اثنين، حزب الفقهاء الجامدين، وحزب المتفرنجين. فهو أكثر قابلية ومرونة لفهم أحكام الدين الإسلامي من أهل الحزب الأول، وأيضاً أكثر استيعاباً لجوهر الحضارة الأوروبية من الحزب الثاني. لذلك فهو المؤهل لإزالة “الشقاق من الأمة”. والحقيقة، أن الاستجابة التاريخية لدعوة رضا ستكون من خلال قيام “جماعة الأخوان المسلمين” التي ستجد في الفضاء الفكري والسياسي والسجالي الذي خلّفه رضا مرجعيةً من أهم مرجعياتها. وهذا له مبحث آخر.
لقد كان رضا أحد أهم الذين مهّدوا لنهوض شعبوية سياسية حزبية، مشغولة بالجماهير وكسب ولائها، بحيث تغدو وقائع الصراع والفصل الميتافيزيقي بين الإسلام (الثابت) والغرب (المتحرك) إحدى حقائق هذه الجماهير وثوابتها. وهذا ما ستترتب عليه أثمان باهظة، سيكون الإسلام والمسلمين أول دافعيها ¶
النهار