الحقيقة والسياسة في زمن ما بعد الحداثة
د. رشيد الحاج صالح
لقد اعتادت الثقافة العربية، منذ زمن طويل، على احترام وتبجيل الحقيقة. فالحقيقة منزهة عن الأغراض والمصالح، كما أنها بحاجة إلى جهد ومعرفة وبحث مضن حتى يستطيع الإنسان الوصول إليها. والحقيقة من جهة ثانية مطلقة تصلح لكل زمان ومكان، ثابتة لا ينالها التغير والفساد، خيّرة إذ لا توجد حقيقة شريرة. ولذلك فقد أصبحت الحقيقة هدفا ساميا ونبيلا يحاول الجميع الوصول إليها، لدرجة أن كل شخص أو فئة اجتماعية، أو جماعة دينية، أو حزب سياسي، يحاول أن يصف أفعاله وسلوكياته وأفكاره بالحقيقة. حتى إن بعضهم مستعد للتضحية بحياته في سبيل نشر الحقيقة والدفاع عنها.
إن هذه النظرة المثالية للحقيقة أكل عليها الدهر وشرب، فقد اتضح للفكر الاجتماعي والفلسفي المعاصر أن لا وجود لحقيقة منزهة عن الأغراض وحسابات السياسة والاقتصاد. فالحقيقة ليست سوى مجموعة من المعارف والقيم والأخلاقيات تفرضها فئة معينة من المجتمع على الفئات الأخرى الأقل قوة. حتى العلم اليوم لا يقدم إلا الحقائق التي ترضي الفئات النافذة والفاعلة في المجتمع، وتستجيب لمصالح الفئات الاقتصادية والسياسية المهيمنة.
وهذا ما أدى إلى ربط الحقيقة بالسلطة، لأن الحقيقة ليست أكثر من الإجراءات والتقنيات التي توزع وتروج وتنتج معارف وأفعالا يطلق عليها اسم الحقيقة. ولذلك تذهب فلسفة ما بعد الحداثة إلى أن للحقيقة نظاما سياسيا واقتصاديا ومؤسساتيا، هو الذي يرعاها، ويستفيد منها، ويهيمن من خلالها. وهذا يعني أن الوعي البشري قد أخطأ عندما ظن أن للحقيقة طابعا فوقيا متعاليا نزيها، لأن الحقيقة تظهر وتنتشر داخل النسيج الواقعي والاجتماعي للبشر، وليس بطريقة مثالية.
ففي بداية العصور الغربية الحديثة انتصرت الحقيقة العلمية على الحقيقة الدينية الكنسية، لأن الفئات الاجتماعية الحاملة للثقافة العلمية أصبحت أقوى من فئات رجال الدين والإقطاع الحاملين للحقيقة الدينية.. وفي الثقافة العربية الإسلامية انتصرت حقائق الدين على حقائق الفلسفة، لأن رجال الدين تمكنوا من السيطرة على المجتمع وعزل الفلاسفة عن المجال المعرفي، إما عن طريق الاتهام بالجنون أو بالإلحاد أو بالزندقة. وفي فرنسا القرن السابع عشر اعتبر كل فقير ومتذمر وعاطل عن العمل مجنوناً، ووضع في المصحات العقلية، خوفاً من أن يثور على النظام آنذاك.
فالحقائق العلمية مثلاً تحترم في المجتمعات التي يحتل فيها العلم دوراً كبيراً، ولكنها تتحول إلى معرفة لا قيمة لها في المجتمعات المتخلفة. والحقائق الدينية تبجل في المجتمعات الدينية، غير أنها تفقد الكثير من مكانتها قي المجتمعات العلمانية والديمقراطية، والفقير يُحترم في بلاد الفقراء، ولكنه يُحتقر في بلاد الأغنياء. والحرية تقدس في بلاد الديمقراطيات، ولكن في البلاد الشمولية تلفها مشاعر الخشية والريبة، بل قد تتحول إلى بدعة وثوب لا يناسبنا، لأنها قد تجلب الخلافات والفتن وانفلات النساء أخلاقياً.
فالحقيقة صناعة لها آليات وتقنيات واستراتيجيات، غير أن هذه الأدوات تعمل بشكل خفي وموارب، وهي بحاجة إلى تحليل للكشف عنها وإظهار أسلوبها. وتحليل الحقيقة يبين لنا أنها تقدم نفسها من خلال مجموعة من القواعد التي نفرق من خلالها بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، بين الخير والشر، بين الحلال والحرام، بين الفعل الأخلاقي والفعل الذميم. غير أن هذه القواعد متغيرة متبدلة بحسب معادلات القوة داخل المجتمع، وبحسب شكل النظام السياسي والمصالح الاقتصادية التي تتفاعل داخله.
هكذا يمكن القول إن للحقيقة خصوصية سياسية في كل مجتمع، لأنها سلطة يمارسها كل طرف على الأطراف الأخرى. وهي تمارس ذاتها من خلال التدجين والتحكم والترويض والخداع والتطبيع والتخفي، وهذه تقنيات الحقيقة التي تعمل بشكل معقد ومتشابك وغير مرئي، ولكنها فاعلة وقسرية. لدرجة أن هناك من يصفها بأنها أقوى الأساليب اللاعنفية التي تستخدمها السلطة. فالحقيقة ليست أكثر من أداة لإقصاء وتسفيه كل الأفكار والقيم التي تخالفها، الأمر الذي دفع بـ (فوكو) إلى القول: إنها أرخص وسيلة هيمنة اخترعها البشر.
ما نريد قوله في النهاية إن مفاهيم الحقيقة، الخير، الشر، الباطل، الجنون، الخيانة، النجاح، البطولة.. إلخ، ليست أكثر من مفاهيم تتم صناعتها داخل المجتمع بحسب ظروف كل مجتمع وموازين القوة الاجتماعية والسياسية التي تعمل داخله.
كاتب من سورية