إطلاقية القومية… مرة ثانية
د. طيب تيزيني
أثارت المقالة التي نشرناها في صحيفة “الاتحاد” يوم الثلاثاء المنصرم بعنوان (أوهام القومية وأوهام ما بعد الحداثة)، ردود فعل نقدية لدى قراء حريصين على متابعة صفحات “وجهات نظر” في الصحيفة. وهؤلاء هم فئتان اثنتان، تتألف أولاهما من شابين طالبيْن في جامعة حلب، وثانيتهما عبّرت عنها طالبة ماجستير علوم اجتماعية، إضافة إلى صديق وزميل لي في جامعة دمشق. لقد عبَّر هذا الأخير بلغة رومانسية لا تخلو من بعض الخُبث المحبَّب، حين قال لي: إن مقالتك حول القومية أعادتني إلى وهج الفكر القومي في سبعينيات القرن المنصرم، بعجره وبجره، وأرجو أن تتابع ما نريد نحن كذلك، أن نفتح ملفه، يعني ملف القومية والفكر القومي والموقف النقدي التاريخي منه. أما الطالبان والطالبة المأتي على ذكرهم فقد اقتصرت ملاحظاتهم على مستقبل تينك الظاهرتين، بغض النظر عن موقف ما بعد الحداثة منهما: هل يبقى الكلام عليهما ذا جدوى بالنسبة إلى عرب القرن الحادي والعشرين، أي في عصر يكون الأوروبيون فيه قد ودعوا كياناتهم القومية -حسب الرغبة العولمية- ودخلوا عصر السوق الكونية الواحدة؟ بيد أن مثل هذا التساؤل يتراجع إلى ما وراء، إذا ما وضعنا يدنا على مواقف النقد الواسع، الذي توجهه أطراف أوروبية، مثل فرنسا، لـ “المستقبل القومي”، حسبما ينظر إليه منظّرو ما بعد الحداثة العولميون. ومن ثم، نواجه منْ يرفض الإقرار بنهاية القومية والفكر القومي ضمن أوساط غير عربية.
إن ذلك الموقف يأتي ليحفز أوساطاً ليست ضئيلة من المهتمين العرب سياسيين ومفكرين وغيرهم، للتأكيد على أن الظاهرتين المذكورتين لا تمثلان حالة تاريخية طارئة، وإنما هما لصيقتان بـ “كيان الأمة”، من حيث هي. وها هنا، يلجأ البعض إلى التمترس وراء مثل القول التالي لأحد الكتاب الإسلاميين العروبيين واسمه إسماعيل عرفي، وبلغة قاطعة كلياً: “تتمتع ماهية الأمة العربية بخصائص جوهرية مطلقة هي: التأليهية والروحانية، والمثالية، والإنسانية، والحضارية”.
وفي ذلك الطرح، تُرفع المسألة القومية المطروحة هنا إلى مستوى الجوهر المطلق، ومن ثم الثابت والصالح لكل زمان ومكان. وهنا، نضع يدنا بوضوح على اتجاه تحويل “القومية” إلى معادل “جوهري” لـ “الدين”. وقد نلاحظ أن هذه الرؤية “الإطلاقية” للقومية توضع في بعض الأوساط العربية نقداً للرؤية العولمية السوقية للقومية ونقضاً لها. وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما أعلنه باحثون غربيون من أن “السوق” هي المطلق الكوني الجديد، فإننا آنئذ نجد أنفسنا أمام مطلقيْن اثنين كلاهما يعلن أنه -بوصفه مطلقاً- فوق التاريخ والمجتمع البشري، وأنه -من ثم- خارج النقد العلمي. وعلى هذه الطريق، تتعاظم المطلقات في الفكر العربي، لتسدَّ الطريق أمام التغيير والتقدم على صعيد هذا الأخير.
ومن هنا، يجيء القول بأنه كلما كثرت المطلقات وتضاءلت النسبيات في وضعية ما كالفكر العربي وغيره، فإن حالة غياب الحراك المفتوح في الفكر المذكور تصبح واحداً من أخطر العوائق التي تواجهه. إننا نحن العرب إذن متمترسون وراء وأمام مطلقاتنا، لا تؤثر فينا الأحداث العالمية والإقليمية والمحلية: إن المرجعية القومية العربية تتحدر من خارج العرب، أي من خارج تاريخهم. وتتعاظم وتيرة “تضخم الشعور بالذات القومية” لدى هؤلاء، بحيث يُعْلمنا الكاتب إسماعيل عرفي المذكور أعلاه وبصيغة مكثفة ينضح منها هوس لا تاريخاني بالاستثنائية الكونية- العربية، يعلن الرجل: وأياً ما كان الوجود المأساوي الراهن للأمة العربية، فإن مما لا ريب فيه أن هذه الأمة هي وحدها التي ستكون تلك الأمة المنتظرة، ذلك لكونها هي وحدها التي استكملت منذ عصور بعيدة جداً جميع مقوماتها.. المثلى.
والآن، إذا استرجعنا ما أوردناه عن الأستاذ السيد ياسين في المقالة السابقة من النظر إلى القومية على أنها وهْم، وضممناه إلى آراء العرفي في هذه المقالة، برزت أمامنا معادلة مضطربة وزائفة، يتحدد طرفها الأول بما نطلق عليه “عدمية قومية”، في حين يُفصح طرفها الثاني عن نزعة “إطلاقية كلّيانية” تهيمن في الحقل القومي العربي. لكن، إذا ضبطنا ما يجمع بين الإطلاقية والعدميّة، لاحظنا أنه يتجلى في لا تاريخانية وهْمية.
الاتحاد