دايفيد هارفي: حروب في مدن أميركا والعالم
قد يتحوّل العالم في عام 2025 إلى مجموعة من بؤر النزاعات الميليشياويّة في المدن، حروب عصابات بين جيوش الحكم والمصنّفين «إرهابيّين»، فقط لأنّهم معارضون. قد يكون هذا السيناريو الأكثر تشاؤماً الذي يطرحه دايفيد هارفي. لكن حتّى إن بقيت الأمور برداً وسلاماً، فإنّ أزمات عولمة الرأسماليّة تبقى حتميّة من دون إجراءات جذريّة. أستاذ الجغرافيا الماركسيّة تحدث… فليسمع باراك أوباما!
أجراها: حسن شقراني
فلنبدأ بالأزمة الماليّة العالميّة. ما هو العامل الأساسي الذي أدّى إلى اندلاعها؟
بداية علينا أن نوضح أنّ الرأسماليّة هي نظام مليء بالأزمات. اعتقادي الخاص هو أنّ الرأسماليّة لا تواجه جذرياً ميولها إلى التأزّم، بل تحرّكها (إلى الأمام)، إذ تنتقل من نوع معيّن من الأزمات إلى نوع آخر، ما يثير سؤالاً عن نوعيّة هذه الأزمة ومن أين أتت. وحجّتي هي أنّ جذور هذه الأزمة تأتي من محاولات معالجة أزمة سبعينيّات القرن الماضي. وتلك الأزمة كان لها سببان: الأوّل هو أنّ العمل أصبح عاملاً قوياً جداً في البلدان الرأسماليّة الأساسيّة. والثاني هو ارتفاع حدّة الاحتكارات من جانب الشركات الضخمة. وكانت هناك محاولة للتخلّص من هذين العاملين الضاغطين خلال السبعينيّات من خلال مجموعة من الاستراتيجيّات. أوّلاً كان عليهم (الساسة) تأديب العمل، وذلك عبر طرق عديدة: سياسياً كان يعني ذلك سيطرة سياسيّة من قوى اليمين. ريغان في الولايات المتّحدة وتاتشر في بريطانيا.
ويمكن محاربة العمل من خلال التحوّل إلى العالميّة. أي نقل العمل من المراكز التقليديّة للإنتاج، الولايات المتّحدة وأوروبا، إلى البلدان الأخرى. وقد بدأ ذلك في نهاية الستينيّات، ومع حلول الثمانينيات بدأنا نشهد عمليّة «انتهاء التصنيع».
ودمّرت (بالمعنى المجازي) المراكز الصناعيّة التقليديّة التي كانت تضمّ منظّمات عماليّة فاعلة. وذلك لم يجرِ فقط في البلدان ـــــ المراكز. فعلى سبيل المثال في الهند، وتحديداً مومباي، دمّرت صناعة الأقمشة أيضاً، فهي كانت تحوي منظّمات عمل قويّة.
إذاً إلغاء التصنيع وتصدير الوظائف إلى الصين أو المكسيك أو الفيليبين يعكسان بشكل من الأشكال عمليّة تأديب للعمل. وإلى جانب تأديب العمل قُضي على القدرة الاحتكاريّة للعديد من الشركات ودفعها نحو التنافس. فعلى سبيل المثال، في الولايات المتّحدة، بنهاية الستينيّات، كان هناك بضع شركات سيّارات مسيطرة، وتحديداً في ديترويت. لكن مع حلول الثمانيّنيات كان يُلاحظ أنّ شركات صناعة سيّارات يابانيّة وألمانيّة بدأت تنشئ مصانع (أميركيّة). وقد أقلعت بالفعل، والآن نحن نرصد النتائج، لأنّ شركات السيّارات التي لا تزال تسجّل أعمالاً جيّدة نسبياً في الولايات المتّحدة حالياً هي Toyota وHonda وBMW، وهذه الشركات واقعة في الولايات الجنوبيّة لا في المركز التقليدي، ديترويت، بسبب انخفاض كلفة العمل وعدم وجود نقابات عماليّة. والآن نحن نشهد نهاية ديترويت (مع إفلاس الشركة الأميركيّة الأكبر General Motors وChrysler).
لكن للتحوّل إلى الكونيّة، كان يجب ابتكار طريقة لنقل الأموال عبر الحدود. والشرط الأساسيّ لتحقيق هذا الأمر كان إلغاء الرقابة (Deregulation) في هذا القطاع، وترك الرساميل تتّجه إلى حيث تريد. وهذه المسألة بدأت في الثمانينيّات وتألّقت في عام 1986، عندما حدث الـ«Big Bang» المالي، فحينها رُبط عمل بورصتي لندن ونيويورك، ومن ثمّ انضمتّ البورصات الأخرى من فرانكفورت إلى شنغهاي. وضعت جميع هذه العوامل معاً وحصلنا على نوع جديد من الرأسماليّة، ديناميّة جداً، عالميّة، مرنة.
ونحن نسمّيها الآن العولمة!
نعم نسمّيها العولمة. وهناك مقطع جميل في البيان الشيوعي يصف العولمة بالقول إنّها تلازمت مع الرأسماليّة منذ أن بدأ النظام الرأسمالي. لكن رغم أنّها بدت أنّها حلّ، إلا أنّ مشاكل كثيرة بدأت تظهر منها. وبينها مشكلة الطلب. فالرواتب عصفت بها موجة تراجع على الصعيد العالمي. وإذا كانت الأجور منخفضة، فالسؤال هو من أين سيأتي الطلب لجميع تلك السلع؟ والجواب لهذا السؤال كان يكمن لدى المؤسّسات الماليّة.
وأحبّ أن أقول دائماً إنّ الجواب لهذا السؤال هو «اختراع بطاقة الائتمان»: لديك أشخاص يقترضون الأموال لكي يبتاعوا السلع. إذاً فالرواتب كانت منخفضة، والفجوة بين ما يُنتَج وما يمكن استهلاكه كانت كبيرة. ومن الواضح أنّه إذا بقيت الأجور ثابتة فإنّ حجم المديونيّة سترتفع، وفي نقطة ما ستتحطّم. (وهذا مهمّ جداً للرأسمال)… أنا أتذكّر دائماً أنّي وصلت إلى نيويورك قبل 3 أسابيع فقط من أحداث 11 أيلول عام 2001. (وعندما حدثت الأعمال الإرهابيّة) توقّف كلّ شيء. توقّف الناس عن الشراء. ومع حلول اليوم الرابع أو الخامس، كان العمدة (عمدة نيويورك رودلف جولياني) وحتّى الرئيس الأميركي (جورج بوش الابن) يُظهران على شاشات التلفزة ويقولان (للشعب): أخرجوا بطاقاتكم الائتمانيّة واستهلكوا، وإلّا فسيكون لدينا أزمة.
خلقوا فورة اصطناعيّة؟
اللحظة التي نعيشها مهمّة جداً، لكن المقلق فقدان التحركات الشعبيّة
نعم، خرجوا وقالوا للمواطنين كونوا وطنيّين وتبضّعوا. أنقذوا الاقتصاد عبر بطاقاتكم الائتمانيّة. فبعدما توقّف الناس عن الشراء خلال ثلاثة أيّام بدأ يظهر الضغط الهائل على الاقتصاد. لذا فبعد 11 أيلول، بدأت الفورة بالفعل في قطاع المساكن. وأصبح الجميع يقترض أموالاً طائلة، فيما تأتي المؤسّسات الماليّة (المصارف التجاريّة تحديداً) إليك وتقول: «هل تريد نصف مليون دولار، سنقرضك نصف مليون دولار» من دون أن تطرح أيّ سؤال. وحين ننظر الآن، يتبيّن أنّه كان هناك العديد من الضغوط السياسيّة على المصارف والمؤسّسات الماليّة لفعل ذلك. كذلك كان هناك ضغط مالي خلال سنوات الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون.
لكن لكي تنمو الأسواق الماليّة، كان يجب خفض مستوى التقنين، وتلك العمليّة تمّت بمعظمها في عهد كلينتون. فسياسياً لا يمكن انتخابك في ظلّ أزمة اقتصاديّة. لذا كان هناك ضغوط سياسيّة على المؤسّسات للاستمرار والاستمرار والاستمرار بالإقراض. إذاً هذه العلاقة بين المؤسّسات الماليّة والاقتصاد وقدرة الاقتصاد على امتصاص ما يُصنَّع، أدّت إلى تجمّع عوامل كثيرة خلال السنوات العشر الماضية. والشيء الآخر هو أنّ الرأسمال كان يتحوّل إلى الكونيّة ليذهب إلى أماكن مثل الصين والمكسيك حيث الأجور المنخفضة. إذاً، فعوضاً عن التمركز الاحتكاري، ارتفعت حدّة المنافسة. وهنا نتج وضع مثير للغاية، فالأجور كانت متدنيّة، وفي الوقت نفسه الأرباح كانت متدنيّة والمنافسة مرتفعة، وهذا أدّى إلى مشكلة: ماذا يفعل الناس بأموالهم؟ هل يستثمرون في الأعمال حيث هوامش الأرباح منخفضة؟ لا. أعط الأموال إلى القطاع المالي الذي بدأ يخلق الأصول الماليّة.
يستثمر البعض فترتفع الأسعار، لذا ينظر آخرون إلى التطوّر ويستثمرون فترتفع الأسعار، لذا تستمرّ السوق بالارتفاع، وتتحوّل البورصة إلى سلع من دون التنبّه إلى قيمة ما تنتجه الشركات. وهذا المثل هو نفسه في ما يتعلّق بسوق العقارات…
إذاً توجّه المتموّلون والناس للاستثمار في أسواق السلع والأسهم عوضاً عن الاستثمار مباشرة في أعمال الشركات.
وخلال الـ30 سنة الماضية، معظم الأموال ذهبت إلى القطاع المالي، الذي كان يجب أن يتكوّر. لذا بدأت عمليّة خلق أنواع جديدة من المنتجات مثل المشتقات المالية (Derivatives). وأبرز مثال على ذلك هو المشتقّات الماليّة المتعلّقة بأسعار العملات.
وهنا يمكن الإشارة إلى أنّ نظام تثبيت أسعار الصرف انهار في بداية السبعينيّات، وأصبحت الأسعار عائمة، وهنا بدأ الناس يشترون «العقود المستقبلية للعملات» (Future Contracts) وتطوّر الأمر ليظهر نظام التبادل الظلّ (غير الرسمي)، وكذلك بدأ الناس يراهنون على أسعار الصرف (وأتيح ذلك على نحو واسع بعد ربط البورصات العالميّة).
وهنا يمكن ذكر صناعة السيّارات، فخلال السنوات الماضية لم تكن الشركات تحقّق الأرباح، لكن تلك الشركات تصنّع محرّكات وأكسسوارات في البرازيل والمكسيك على سبيل المثال، وهي تضطر إلى استخدام العملات الأجنبيّة لتسوية التزاماتها في هذه العمليّات والكشف عن أرباحها في هذا البلد أو ذلك. وبدا أنّ التعامل في أسواق العملات والأسواق الماليّة مربح أكثر من الإنتاج العادي. وقد تحوّلت الشركة الماليّة لـ General Motors مثلاً إلى مصرف. وللمناسبة، لقد أُنقذ من الحكومة!
مجدّداً إذا كنت مستثمراً تريد جني الأرباح تتوجّه إلى السوق الماليّة. وقد راجت ظاهرة لافتة في هذا السياق هي اقتراض واستثمار الأموال عبر الحدود بالاعتماد على أسعار الفائدة. فعلى سبيل المثال كان يمكنني أن أقترض أموالاً بفائدة صفر في المئة في اليابان ومن ثمّ استثمارها في بريطانيا حيث معدّل الفائدة 6 في المئة، وأحقّق بالتالي أرباحاً خياليّة. الخطر في هذه المسألة كان إمكان تغيّر أسعار الصرف دراماتيكياً. وهنا تحوّل المستثمرون إلى التحوّط (Hedging) عبر الأدوات المختلفة في الأسواق الماليّة ونشأت تلك المركّبات الماليّة المعقّدة.
إذاً في المحصّلة، من جهة لديك العمل الذي يُقمع ولا يشكّل سوقاً. ومن جهة أخرى المستثمرون يريدون تحقيق الأرباح الكثيرة فيوظّفون الأموال في الأسواق الماليّة، ويغدون أثرياء كباراً. وهكذا تنشأ أسواق جديدة… لكن هذا ليس سوى نتيجة للحلول التي نشأت في السبعينيّات، وحُوِّلت المعركة فقط، حيث لُجئ إلى قمع العمل. والآن ليس هناك مشكلة مع العمال، وأصبحت المشكلة كيفيّة إيجاد مكان مناسب لاستثمار الأموال.
وما حصل في الأسواق الماليّة هو نتيجة لحقيقة اعتمادها على التوقعات، وإذا نظرت إلى الأعوام الماضية تجد سلسلة من الكوارث الماليّة، هناك شبه انهيار لروسيا عام 1998 والولايات المتّحدة في الثمانينيات وجنوب شرق آسيا. والمفارقة في هذه الأزمة أنّ محورها الولايات المتّحدة.
قلت في خطة الرئيس باراك أوباما لمواجهة الأزمة إنّها «هرطقة كينزيّة» بسبب العجز الذي ستولّده.
خطّة أوباما لن تنجح، والسبب الأساسي في ذلك هو أنّها ضعيفة سياسياً. كينز كان يفترض أنّ الحلّ يكمن في زيادة الأجور الحقيقيّة. فعليك زيادة الطلب عبر تحفيز المداخيل وبالتالي التوظيف. وتمّ فعل ذلك عبر الأدوات الحكوميّة. لكن من المستحيل أن يفعل أوباما ذلك. فهو لم يفعل شيئاً واتُّهم بأنّه اشتراكي!
والمسألة الأخرى هي إذا كنت تريد تحفيز الاقتصاد، لا تقدّم خفوضات ضريبيّة. فالعائلات ترزح تحت عبء كبير، وإذا وفرت عليها الأموال فستلجأ إما إلى الادخار أو إلى تسديد ديونها.
الخطّة تفترض رزمة كبيرة من الاستثمارات في البنى التحتيّة والقطاعات الاقتصاديّة المختلفة (الاستثمارات تمثّل نصف الخطّة التي تبلغ 787 مليار دولار). ألن يخلق ذلك مزيداً من الوظائف ويحفّز سوق العمل؟
ذلك يعتمد على كيفيّة تنفيذه. فأنا لم ألحظ أيّ تخطيط هيكلي لكيفيّة سير تلك التدابير. ولنقدّم الأمور على هذا الشكل: كنت في البرازيل عندما أعلن (الرئيس) لولا دا سيلفا اتّباع خطّة تحفيز اقتصادي يبني بموجبها مليون منزل لذوي الدخل المحدود. لكن بناء المنازل حالياً وتحريك سوق العمل لا يعنيان حيويّة مستمرّة. فالمنازل تبقى فارغة. وأعرف مكاناً في الأرجنتين بنوا فيه منازل ليس فيها دورة صرف صحي ولا أحد يعيش فيها.
إذاً، فالمسألة لا تحفّز شيئاً، بل تُعَدّ ضربة واحدة. قارن ذلك مع عمليّة بناء الضواحي الأميركيّة وتطويرها، وهي عمليّة تطلّبت تغيير أنماط العيش. وذلك حفّز شراء السيّارات ومقصّات العشب. وشراء الأدوات المنزليّة المختلفة مثل البرادات.
إذاً ليس هناك قطاعات جديدة مثلما كانت الحال عليه في ثلاثينيات القرن الماضي عندما طرح الرئيس روزفلت الـNew Deal؟
نعم، تلك تحديداً هي إحدى المشاكل الكبيرة الموجودة. ففي المقابل مثلاً، تواجه الصين مشكلة الدمج في الجوانب المتعلّقة بالجغرافيا في اقتصادها. (المناطق الساحلية مع تلك الداخلية). وهم لديهم خطّة تحفيز هائلة ستخلق لديهم اقتصاداً جديداً كلياً. فالصينيّون لا تلاحقهم اتهامات بأنّهم اشتراكيون، لا بل قد يسعدون بذلك كثيراً! إذاً يمكنهم البدء برفع الأجور، ولعلّهم بحاجة إلى فعل ذلك. فهم سيحفّزون اقتصادهم الداخلي، فالاقتصاد العالمي لا يمتصّ منتجاتهم بالشكل الصحيح.
كنت تقول إنّ المستهلكبن سيُحجمون عن الإنفاق، فكيف يمكن أن تتطوّر الضغوط التضخّمية في هذه الحالة؟
نعم أعتقد في المدى القصير أنّ هذه المسألة صحيحة، والجميع يقولون إنّه ليس هناك ضغوط تضخمية في المدى القصير، وبالفعل الأمر كذلك. لكن عندما يعود النشاط الاستهلاكي عودة متينة، أعتقد أنّ الضغوط التضخمية ستعود، لأنّه سيكون هناك كميات هائلة من الأموال التي ستنفق. لذا فإمّا أن يخفض سعر صرف العملة أو يُزاد المعروض من السلع بهوامش كبيرة.
كنت تتحدّث عن الضربات الخضراء بالفعل والقطاعات الجديدة، ما هو دور قطاع الطاقة البديلة؟ هل سنراه رافعة جديدة للعولمة؟
القطاع الثوري سيكون الطب البيولوجي والهندسة الجينيّة، لا الطاقة البديلة
أعتقد أنّ تاريخ الرأسماليّة له جانب هوسي، وهو أنّ هناك حلولاً تكنولوجيّة لكلّ شيء، لذا عندما تنظر إلى الجانب البيئي تقول إنّه يجب أن يكون هناك تطوّرات تكنولوجيّة ستخلق الوظائف حتماً في المستقبل لحلّ المشكلة الاقتصاديّة.
نظرتي إلى قطاع الطاقة في الولايات المتّحدة هو أنّ الطريقة الوحيدة لفعل أي شيء في ما يتعلق بهذه المسائل هو تغيير النظام المدني بأكمله. أعني العادات الاستهلاكيّة. وذلك يعني أنّه يجب أن يكون هناك مشروع سياسي يدرس التمدّن والعيش في المراكز المحتشدة. بمعنى آخر، خرجت الولايات المتّحدة من ركود ثلاثينيّات القرن الماضي عبر التمدن (إنشاء الضواحي) وذلك ارتكز على النفط الرخيص وعلى فكرة أنّ الجميع كان لديه سيّارة ويجوب الضواحي، وذلك أنقذ الاقتصاد من الركود. لكنهم الآن يدفعون ثمن ذلك. فهم أمّة تستهلك الطاقة بمعدّلات كبيرة، والتركيبة الديموغرافيّة المدنيّة تزيد خطورة ذلك. والحلّ الوحيد بالتالي لمواجهة المكشلة الطاقويّة يكون بإعادة هندسة نمط الحياة المدنية والتخلّي عن فكرة التركّز السكاني الهائل وخفض حجم المجتمعات. ويجب بالتالي تحقيق تغيير جذري في أنماط العيش. والمشكلة في الولايات المتّحدة هي أنّ الجميع يعشقون أنماط حياتهم، ولن يقبلوا بالتغيير، وسيبقون على أنماط حياتهم ويجدون أشخاصاً يقدّمون حلولاً تكنولوجيّة لمشاكلهم البيئيّة. لا أعتقد أنّهم بإمكانهم النجاح بذلك.
لذا فلا أرى أن الاقتصاد الأخضر هو اقتصاد المستقبل بالطريقة التي يُتحدَّث بها عنه.
إذاً فالموضوع سيبقى متعلّقاً بالنفط، كما كان الأمر دائماً؟
نعم إلى حدّ بعيد. فكيف يمكن الحدّ من استهلاك النفط في الولايات المتّحدة بينما لا أحد مستعدّ للتخلّي عن نمط عيشه. لكن من وجهة نظري، فإنّ القطاع الذي يمكن أن يمثّل قطاعاً ثورياً ومثيراً للاهتمام هو قطاع الطب البيولوجي، والهندسة الجينيّة البيولوجيّة. فلهذا القطاع قدرة كبيرة، لأنّ الجميع مهتمّ به. وهنا أجد فكرة مثيرة، هي أنّ أكبر منظّمات خيريّة رأسماليّة: «جمعيّة سوروس» و«جمعيّة غايتس»، ومتموّلين كثراً مثل عمدة نيويورك مايكل بلومبرغ، منخرطون في هذا القطاع. فبلومبرغ، على سبيل المثال، قدّم 50 مليون دولار للأبحاث المتعلّقة بالخلايا الجذعيّة، وغايتس وسوروس يقومان بمبادرات ضخمة في قطاع الصحة، وتحديداً الهندسة الجينيّة.
إذاً فهنا تكمن بذور الثورة الجديدة؟
في الحقيقة لقد بدأت فعلاً، وأعتقد أنّها ستنتج الفورة المنتظرة، تماماً مثلما كان قطاع التكنولوجيا (Dot Com) (في نهاية تسعينيّات القرن الماضي وبداية الألفيّة الجديدة). وهذا القطاع سيكون قطاع النموّ المستقبلي المهمّ، لا قطاع التكنولوجيا النظيفة، فالأخير سيؤدي دوراً صغيراً.
في هذه الأوقات، من تعتقد أنه يمثّل مارغريت تاتشر ودينغ كزياوبينغ وبول فولكر ورونالد ريغان؟ من هم هؤلاء الأشخاص الآن، هؤلاء الذين تحدّثت عنهم في كتابك «تاريخ مختصر للنيوليبراليّة» (A Brief History of Neo-Liberalism)؟
لا أعتقد أنّهم موجودون حالياً. أعتقد أنّ من المثير جداً تحديد أين ستكمن القيادة. فنحن لم نصل بعد إلى الثمانينيات ولا نزال في السبعينيات (بمستوى تشبيهي) حيث لم يكن يدري أحد ما سيحدث. من كان يعرف في عام 1973 أنّ تاتشر ستصبح رئيسة وزراء وأنّ رونالد ريغان سيصبح رئيس الولايات المتّحدة؟
هذه اللحظة التي نعيشها هي مهمّة جداً سياسياً. لكن ما يزعجني هو فقدان التحركات الشعبيّة. فروزفلت لم يقرّ اتفاقه الجديد لأنّه أراد ذلك، فعل ذلك لأنّه اضطر تحت ضغط القوى السياسيّة التي تجمّعت حوله. ومن بين أحد الجوانب السلبيّة التي أحاطت بانتخاب أوباما، فكرة القضاء على التحركات الشعبيّة. فالمواطنون يرون أنّ أوباما سيفعل شيئاً جيداً، وأنا أعتقد أنّه قادر على فعل شي جيّد، لكنني لا أعتقد أنه قوي كفاية. ليس جذرياً على الإطلاق. هو من نوع السياسيّين المنتمين إلى يمين الوسط، هو قانوني ذكي جداً، أعتقد أنّه جيّد سياسياً، لكنّه لن يفعل شيئاً إلّا إذا بدأ الناس يجبرونه على ذلك.
لماذا لا نرى هذه التحرّكات الشعبيّة الاجتماعيّة والنقابيّة؟
النقابات فقدت قدرتها في الثمانينيات والتسعينيات. وحتى إذا أرادت أن تفعل شيئاً، فهي لم تعد قويّة. وعلى سبيل المثال كان هناك نقابة عمال فولاذ قويّة في الولايات المتّحدة، لكن (للمفارقة) لم يعد هناك صناعة فولاذ أميركيّة. نعم هناك نقابات عمال صناعة السيّارات، لكن الشركات اليابانية العاملة في الولايات المتّحدة لا تحوي نقابات حتّى. لذا يمكن النقابات أن تكون مشاركة في تحرّك تغييري، لكنها لن يمكنها تولّي القيادة.
المسألة الأخرى هي أنّه إذا عدت للنظر إلى بداية تسعينيات القرن الماضي، فإنّ الانهيار المالي (في البورصات) حدث في عام 1929، غير أنّ الضغوط السياسيّة لم تظهر إلا في عام 1933، لذا فإنّني أتوقّع أنّه إذا استمرّت هذه المشكلة في الولايات المتّحدة على نحو محدّد (لا أعتقد أنّ الأمور ستكون سيّان في أوروبا) لأكثر من سنتين، فعندها قد نبدأ برؤية تحرّكات جديدة وستظهر قيادة جديدة. والسرّ في اختلاف الولايات المتّحدة عن أوروبا، أنّها هشّة جداً، فلا أحد مثلاً كان يتصوّر قبل عامين أن يصبح أوباما رئيساً. وخلال عامين أو ثلاثة يمكن أن يبدأ تكوّن شيء حقيقي.
فلنتحدّث قليلاً عن «الإمبراطوريّة الأميركيّة». لقد خسرت الولايات المتّحدة عوامل المال والعسكر والاقتصاد لقيادة العالم. ما هو العامل الأساسي الذي لا يزال يرفع الولايات المتّحدة الإمبراطوريّة؟
العامل العسكري، التفوّق العسكري العالمي. وتحديداً على علو 30 ألف قدم! لا على الأرض كما لاحظنا في العراق وأفغانستان. لديها قدرة تدميريّة هائلة. وما يقلقني، مثلاً لو كان جون ماكاين قد انتُخب رئيساً، لكان بمقدوره التحكّم بكلّ تلك الطاقة. وفكرة وضعه في القيادة أزعجتني كثيراً.
وهنا تجدر الإشارة إلى الغلطة الأكبر التي ارتكبها أوباما: الاستمرار في أفغانستان. وموقفي هو أنّه ربّما جعل (أوباما) الاقتصاد مستقراً نسبياً لضمان إعادة الانتخاب بعد أربع سنوات، لكنه سيكون في وضع أسوأ في أفغانستان. كان يجدر بهم الخروج من أفغانستان، لأنّ الفشل في الخارج لا يساعد في استقرار الأمور في الداخل. يحاولون خوض تلك المعركة عبر الحكم البعيد المدى (Remote Control). وهذا سيمثّل مشكلة أوباما الحقيقيّة بعد أربع سنوات.
كيف ترى العالم في عام 2025؟ هل سنشهد حرباً عالميّة جديدة إلى حين ذاك التاريخ؟
أشكّ في إمكان حدوث صراع عظيم بين قوى عظمى، لكن من المحتمل أن نشهد تعاظم المنظمات المسلحة التي تخوض حروب العصابات. ومعظم تلك المنظّمات ستكون في المناطق المدنيّة. وأعلم أنّ القيادة العسكرية الأميركية تترقب ذلك، وتوفّر الولايات المتّحدة موارد هائلة لتحديد كيفيّة محاربة المنظمات المسلّحة في مناطق المدنيّة.
هل تتوقّع فوضى مدنيّة إذاً؟
أتوقع أنّه إذا كان هناك نزاعات عظمى في العالم فستكون صراعات مسلّحة مدنيّة. حركات سياسيّة تصنّف على أنّها إرهابيّة. فهناك ميول حالياً لتصنيف أي خطّ معارض على أنّه إرهابي. إذاً سنشهد تجريم سلوكيّات كثيرة وإطلاق صفات الإرهاب على كل أنواع الحركات المعارضة. لذا أعتقد أنّ معظم الصراعات ستخاض في المدن. وأعرف أنّ الجيوش الأميركيّة تجري محادثات عميقة جداً مع الإسرائيليّين بشأن خبرتهم في غزّة، لذا أعتقد أنّ الجيس الأميركي يرى أنّ ما حدث في غزة هو ما يجب أن يتدرب عليه.
الأخبار