جلادون مظلومون
عبد الوهاب بدرخان
لا تزال أميركا تقرأ بذهول وقائع ما حصل تطبيقاً لـ “برنامج الاستجواب” للمعتقلين في غوانتانامو، والعالم يقرأ معها بدرجات متفاوتة من الذهول. جاء العَجَب من نظرة أميركا إلى نفسها بذهنية ما قبل 11 سبتمبر، وأيضاً من نظرة العالم إليها، وطوال سنوات الثأر البوشية كان يقال إن أميركا ما قبل الهجمات الإرهابية انتهت ويجب توديعها. باراك أوباما يريد ويحاول أن يثبت العكس، إذ لا يجوز تاريخياً ولا يُقبل واقعياً أن يتوصل تنظيم يعيش في المغاور، وتحت الأرض إلى إحداث تغيير بهذه الخطورة في طبيعة الدولة العظمى الوحيدة، بل يضعها في مواجهة مع العالم، ثم مع نفسها.
المراجعة الحالية لبرنامج الاستجواب، أو بالأحرى لكاتالوغ التعذيب، قد تبدو للبعض استعراضية أو حتى مخادعة، لكنها لا تتم بدفع إرادي من المؤسسة الحاكمة بل بضغط “مجتمع مدني” أمكن تشكيله بفعل شهادات واعترافات وخصوصاً تسريبات إعلامية لاشك أن معظم أصحابها فعلوا ذلك بدافع الاستنكار، مثلما أن بعضهم فعلها بدافع تصفية حسابات سياسية. المهم أن الفضيحة لن تمر، ولن يبلعها تقليد النسيان والتغاضي المتبادل بين السلف والخلف من الرؤساء والإدارات.
في موسم المسلسلات الرمضانية المتزاحمة لملء الأربع والعشرين ساعة على الفضائيات، يبدو المسلسل الأميركي منافساً بقوة وبعمق ولعله يتفوق بكونه مقززاً وغير مسلٍّ بل مقلقاً إلى حد الألم. كان هناك اعتقاد بأن أميركا أظهرت على شاشاتها كل أنواع الفظائع والانتهاكات، بل وضعت هوليوود الرئيس الأميركي في ظروف تعرض خلالها للإهانة، وصورت الوحشية بوجوهها كافة. غير أن “برنامج الاستجواب/ التعذيب” لم يكن فيلماً، كان واقعاً. ما لا يعرفه الأميركيون أن هناك شعوباً عديدة، في الشرق الأوسط وشرق آسيا وأفريقيا، لم تدهشها تفاصيل ما جرى، لأنها تعرفت إليها منذ زمن، ربما كان أكثرها حداثة ما سمي “الإيهام بالغرق” بصفته تقنية علمية تتحكم بضغط الدم وآلية عمل الدماغ مع القلب. أما الأساليب الأخرى فلم تكن هناك حاجة لاستيرادها.
المذهل أميركياً أن الحكومة على أعلى مستوى فيها هي التي رعت ونظمت الدعوة إلى التوحش، بل اهتمت بالتفاصيل ووضعت القواعد وحددت لوائح ولائم التعذيب. في الدول الأقل أهمية لا يشغل “الأعلى مستوى” نفسه بهذه الصغائر، بل يتركها لـ”الأدنى مستوى”. والفارق، أميركياً، أنه عندما بدأت التفاصيل تتسرب وراحت جماعات حقوق الإنسان ترفع الصوت، أدرك “الأعلى مستوى” أن هناك فضيحة في الأفق ولابد من تداركها. لكنه كان لا يزال بحاجة إلى ذلك “البرنامج” لأن الذين حوله أفتوا بأن أمن البلاد يعاني بمزيد من المعلومات التي لن تأتي إلا بمزيد من التعذيب. نائب الرئيس السابق ديك تشيني لا يزال قائد لواء الدفاع عما أصبح الجميع يعتبره لطخة عار لسمعة أميركا وصورتها في الداخل والخارج. يقول تشيني إنه لولا الاستجوابات الشديدة لكانت أميركا الآن أقل أمناً. أما المختصون بالتحقيقات فيقولون إن التعذيب لم يزد شيئاً إلى معلوماتهم، بل أدى أحياناً إلى تضليلهم.
حتى لو لم يؤد إلى نتيجة، وحتى لو كان استعراضياً، يبقى الجدل الحالي معبراً وذا مغزى. أن يقال مثلاً إن الحقائق المكتشفة تشكل “صدمة للضمير”، وإن التقنيات المتبعة “تقويض لأخلاقياتنا”، وإن التعذيب “استبداد واضح ينتهك القوانين والمعاهدات الدولية”، وإن الممارسات ترقى إلى مستوى “جرائم حرب”، وإن مراجعة ما حصل “خطوة حاسمة لإعادة السلطة المعنوية لأميركا في الخارج ولاستعادة سيادة القانون في الداخل”… كل ذلك وغيره هو ما يميّز دولة القانون عن دول العصابات.
في أي حال، لا تعني هذه المراجعة أن أميركا ستتطهر من موبقات ما فعلته، ولا تعني إطلاقاً أنها لم أو لن تقدم على ممارسات وحشية في طيات سياساتها الخارجية أو في تهافتاتها لتأكيد هيمنتها. كل ما يعنينا منها أن النموذج الذي كانت أميركا تمثله في جانب ما من تجربتها السياسية، لم يمت بعد، لأن موته هناك يقتل الآمال في كل مكان لا يزال أهله يطمحون إلى دولة الحريات والقانون. ففي إطار هذا النموذج تتواجه مثلا مقولة بوش (التعذيب ساهم في وقف هجمات “القاعدة” ضد أميركا) ومقولة أوباما (التعذيب لم يأت بالأمن وسرّع انضمام الشبان إلى “القاعدة”). ومعلوم أن مئات ممن اعتقلوا وتعرّضوا لـ “البرنامج” ثم أطلقوا ما لبثوا أن عادوا إلى نشاطاتهم السابقة.
ما الجدوى من نشر الغسيل الوسخ؟ السؤال طرحه المرشح جون ماكين. فـ “الجدوى” الملموسة قد تكون معدومة. لكن كشف الوثائق جعل الجلادين يشعرون بالظلم. كانوا يتحدثون عن الأخلاقيات. هناك من يريد محاكمتهم، لكن مع استثناء من أمرهم وشجعهم ووفّر لهم التغطية القانونية، ما يجعلهم مظلومين بامتياز، وقد يتعرضون للتعذيب بدورهم. طبعاً، لا، فحتى أوباما يريد الحفاظ على حصانتهم، إذ ليس سهلا إضعاف معنويات الجلادين والجواسيس.
الاتحاد