صفحات العالمما يحدث في لبنان

أربعة سيناريوات أمام “الحكم المستحيل”

باسم الجسر
ما كاد اللبنانيون يتنفسون الصعداء اثر الانتخابات النيابية التي اعترف الجميع بصحتها ونتائجها، حتى اطبقت على انفاسهم ازمة تأليف الحكومة الجديدة. وعادت الاسئلة الحائرة ترتفع وتتجمع تحت السؤال الكبير: لبنان، الى اين؟
ذلك ان العقبات التي انتصبت في وجه تأليف حكومة تتجسم فيها “الوحدة الوطنية” وقادرة على الحكم وتنفيذ برنامج اصلاحي وانمائي متفق عليه، تتعدى الشروط التي يضعها الجنرال عون والحصص والاسماء. بل هي، باعتراف الجميع، مرتبطة بما تريده سوريا من لبنان وما تعده طهران لـ”حزب الله” من دور، في الاشهر او السنوات المقبلة، كورقة ضغط على الولايات المتحدة وردع لاسرائيل. كما انها مرتبطة، داخليا، بالمشاريع او الاستراتيجيات السياسية للطوائف الدينية اللبنانية، ولا سيما الطائفة الشيعية التي باتت تشكل، مع قوة “حزب الله” العسكرية، الرقم الصعب في معادلات النظام السياسي اللبناني،  وتطبيقه ديموقراطيا ودستوريا  وحتى طائفيا.
ماذا تريد سوريا من لبنان؟ وماذا تريد ايران للبنان؟ وماذا ينتظر من اسرائيل ان تفعل ردا على 70 الف صاروخ موجهة من الاراضي اللبنانية الى مدنها والمرتبطة بطهران؟ والى اي حد تستطيع مصر والسعودية – والولايات المتحدة والدول الاوروبية – الدفاع عن استقلال لبنان ونظامه وعن الطوائف اللبنانية الأخرى القلقة من تضخم تسليح “حزب الله” ومن الحكم الذي تريده دمشق للبنان اليوم، او ما تعده طهران له في المدى البعيد؟ هل سيضحى بلبنان على مذبح المصالحة الاميركية – السورية؟ ام سيستريح من جرائها؟!
تلك هي الاسئلة الحقيقية التي يطرحها اللبنانيون على انفسهم، والتي تتضاءل جدا ازاءها مشكلة توزير صهر الجنرال وتوزيع الوزارات السيادية. وهي اسئلة لا يملك احد الجزم في الاجابة عليها، لأن الاوضاع الراهنة في المنطقة، لا سيما بعد وصول اوباما الى البيت الابيض، وعزمه على تغيير قواعد السياسة الاميركية في الشرق الاوسط والعالم الاسلامي أو اسلوبها، وحل النزاع العربي – الاسرائيلي، باتت “معلقة”، بين التحسن والتفاقم، بين الانفراج والتعقد. ولا عجب، اذن، ان تأثرت الاوضاع السياسية في لبنان، بهذا “التعليق” للأوضاع في المنطقة، لمدة سنة او سنتين على الاقل.
غير ان هذا التعليق او التجميد السياسي، الذي سوف تكون الحكومة اللبنانية الجديدة تجسيدا او ضحية له، لن يزيل الجراح والمخاوف العميقة التي حفرتها السنوات الثلاث الاخيرة (وحرب  1975 – 1989) وعهد الوصاية السورية، في قلوب اللبنانيين ونفوسهم وعقولهم. ولا بالاسئلة المصيرية التي باتوا يطرحونها كلما تعرض وطنهم الى ازمة سياسية او طائفية او الى عدوان اسرائيلي او الى تعطيل للحكم والمؤسسات.
ان من يقرأ سطور – وما بين سطور – المقالات والتصريحات المتبادلة على ألسنة بعض القادة السياسيين والمرجعيات الطائفية في لبنان، ولا سيما تلك التي تلمح الى “الاخطار المحدقة بلبنان” او بـ”الديموقراطية العددية” او بـ”صلاحيات رئاسة الجمهورية” وبـ”اولوية المقاومة”، يلمس لمس اليد، مدى “هشاشة” اتفاق الطائف والدستور وتوازنات الوحدة الوطنية و”نهائية الكيان اللبناني وعروبته”. اما “النظام التوافقي” الذي ارتفعت راياته أخيراً، فهو لا يطبق الا باتجاه واحد، بل وبات اداة تعطيل للدستور، لا اداة رديفة ومسهلة لحسن تطبيقه على الواقع الطائفي اللبناني.
قد تسمح انفراجات موقتة في سماء الشرق الاوسط، بتأليف الحكومة اللبنانية، ولكن هل ستتمكن هذه الحكومة من ان تحكم وتصلح الاوضاع الاقتصادية وتحسينها؟ واهم من ذلك، من ان تتنطح للقضايا المصيرية الكبيرة التي يطرحها كل لبناني على نفسه، كل يوم، وكلما اكفهرت آفاق المنطقة او تلبد الجو السياسي في لبنان؟ وفي مقدم هذه القضايا:
1 – الاستراتيجية الدفاعية وسلاح “حزب الله”.
2 – تطبيق اتفاق الطائف بكامله ولا سيما انشاء مجلس للشيوخ ولجنة تجاوز الطائفية وتعديل قانون الانتخابات.
3 – تعديل او توضيح بعض مواد الدستور ولا سيما في ما يتعلق بحل مجلس النواب ودور او صلاحيات رئيس الجمهورية وتطبيق اللامركزية الادارية؟
الرأي السائد هو ان هذه القضايا الكبيرة لا يجوز التعرض لها في الظروف والاوضاع المتوترة، اي كما هي عليه الآن. ولكن طالما ان هذه القضايا هي التي تشكل اساس التوترات الطائفية والسياسية بل والوطنية، فان تجنب معالجتها، اليوم، سيجعلنا ندور في حلقة مفرغة الى ما لا نهاية.
هل وصل لبنان، بعد سبعين عاماً من استقلاله وعشرين عاماً من اتفاق الطائف وولادة الدستور الجديد، الى الحكم المستحيل؟ الى تمكن القوى والاحزاب السياسية والمصالح الاقليمية، من شلّ مؤسساته وتعطيلها؟ وماذا ينتظر من الحكومة الجديدة في هذه الاجواء السياسية الراهنة في لبنان والمنطقة؟  وما هو الثمن الذي على لبنان والحكم اللبناني دفعه لقاء الاستمتاع بالاستقلال الجديد الذي انتزعه الشعب عام 2005؟ ماذا يجب حصوله او تلافيه او الاقدام عليه، لكي يتمكن اللبنانيون، كغيرهم من الشعوب، من ان يعيشوا بسلام واطمئنان وحرية؟ من ان ينزعوا العصبة السوداء عن اعينهم؟ من ان يبنوا وطنا منيعا ودولة حديثة؟
هناك ثلاث “سيناريوات” للمصير اللبناني في المدى القصير: الاسوأ والامثل والمراوح بينهما.
السيناريو الاسود يتلخص في بقاء تأليف الحكومة معلقا اشهرا – كما علقت اجتماعات مجلس النواب السابق – فتنتقل عملية ليّ الاذرع الى الشارع، مرة اخرى. مع فشل عملية السلام بين اسرائيل والعرب، وتأزم العلاقات بين ايران والغرب، وتصاعد الحرب على الحدود الباكستانية – الافغانية. الامر الذي قد يؤدي الى انتهاز اسرائيل الفرصة للقيام بعدوان أشد تدميرا على لبنان. وربما الى حرب سورية – اسرائيلية يدفع لبنان ثمنها حتما.
السيناريو الابيض او الامثل يلخص في التغلب على العقبات وقيام حكومة جديدة، وكسر جدار الصقيع في العلاقات اللبنانية – السورية وحلحلة الصراع بين محور ايران – سوريا، ومحور الولايات المتحدة – الغرب، ودخول عملية السلام بين العرب واسرائيل مرحلة ايجابية، وتقلص القتال والعنف في العراق وافغانستان. وهذا من شأنه اقناع “حزب الله” بالتخلي عن سلاحه ولبننة مشاريعه ومخططاته.
اما السيناريو “الرمادي” والاقرب الى الاحتمال فهو يتلخص: بقيام حكومة الاتحاد الوطني، وتأجيل البحث في سلاح “حزب الله”، والتمسك بالقرار 1701، وتليين العلاقات مع سوريا وتحسينها، والاستفادة من الدعم الغربي والعربي للبنان، وتجنب (إذا أمكن) المواقف او الخطوات التي تغضب سوريا وايران، وايضا، التي تشكل ذريعة لعدوان اسرائيلي جديد. والاكثار من الصلوات والدعاء ليعم السلام في المنطقة ويتوقف القتال والارهاب والتطرف.
ثمة سيناريو رابع يشكل، ربما، اختراقا للحلقة المفرغة التي ندور فيها، وهو يقضي بتنفيذ اتفاق الطائف بدلا من الغائه او المطالبة بتعديل بعض مواده. فما الذي يمنع تأليف الهيئة المكلفة بدراسة مشروع تجاوز النظام السياسي الطائفي؟ او انشاء مجلس للشيوخ؟ او وضع قانون جديد للانتخابات على اساس لاطائفي نسبي وتنفيذ اللامركزية الادارية الواسعة؟ ربما ساعد ذلك على حلحلة ازمة الحكم في لبنان وخلق معطيات وتوازنات سياسية جديدة.
خلاصة القول: ان لبنان، في موقعه الجغرافي بين سوريا واسرائيل، لن يعرف السلام والاستقرار طالما ان هذه الجارين في حالة حرب، واختاراه – وغيرهما من دول المنطقة والعالم – ساحة لتصفية النزاعات. وطالما بقي النظام السياسي الطائفي معطلا لقيام الدولة الحديثة ولتبلور المواطنية. ولكن الغاء هذا النظام بالقوة (اتاتورك لبناني) ليس واردا. كما ليس واردا تغلب احدى الطوائف على الطوائف الاخرى وفرض مشروعها الطائفي السياسي على كل اللبنانيين. ولكن من خلال النظام الديموقراطي وتحديث الدولة والازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، يمكن خلق “مجتمع مدني” يكون للنقابات والاحزاب العلمانية والجمعيات والهيئات الضاغطة، دور مماثل او اهم من دور المرجعيات والاحزاب والزعامات الطائفية.
إذذاك يصبح تجاوز الطائفية السياسية ممكنا بل وسهلا. اما في الحالة الراهنة، فان الحكم في لبنان بات شبه مستحيل، ولا احد يستطيع الاجابة على السؤال الرهيب: لبنان، الى اين؟!
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى