حجاب العقل والوطن
الياس خوري
في احد مقالات كتابه ‘ابناء رفاعة’، (دار الشروق)، يحلل الروائي المصري الكبير بهاء طاهر ظاهرة صعود حركة الاخوان المسلمين في المجتمع المصري، متوقفا عند مسألة الحجاب، حيث يشير الى مرحلتين متميزتين في الدعوة الى الحجاب. مرحلة اولى تميزت بالنضال من اجل حرية لبس الحجاب، ومرحلة ثانية صار فيها الحجاب مفروضا، بقوة العادة وسطوة الفكر الديني.
يكتب بهاء طاهر: ‘اذكر هنا مقالا لواحد من مفكري الاخوان المسلمين يعتب فيه على منتقدي الحجاب بقوله: نحن لا نعترض على سفور السافرات فلماذا تعترضون انتم على حرية المرأة في ارتداء الحجاب؟ ذلك قولهم في مرحلة الاستضعاف. اما الآن في مرحلة التمكين فيعلو الصوت الى درجة تكفير المرأة غير المحجبة. ولم لا؟ انظر حولك. لقد غزت ثقافتهم الشارع باكتساح، فمن يجرؤ على فتح فمه؟’.
المسألة التي يثيرها فرض الجلباب في غزة ليست فقهية بل سياسية- اجتماعية. فعندما خاض رواد النهضة العربية وعلى رأسهم قاسم امين معركة تحرير المرأة، فانهم لم يخوضوا معركة فقهية او دينية مع اصحاب الدعوة الى البقاء في اسر الحجاب، بل خاضوا معركة سياسية فكرية، استندت الى الفكر الاصلاحي الاسلامي الذي بلوره جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ودعت عبر فكرتها عن الوطن والمواطنة الى المساواة: مساواة المرأة بالرجل، ومساواة المواطنين مهما اختلفت عقائدهم الدينية امام القانون. الدين لله، كان شعارهم، ووحدة الهلال والصليب كانت منطق الحركة الوطنية المصرية، كي تواجه الاستعمار البريطاني عبر رفض التفرقة بين ابناء الوطن الواحد، بحيث لا يتمكن المستعمر من تحويل الانقسام اداة لاستمرار تسلطه.
النقاش يجب ان يبدأ من هنا، اي من قضيتي الحرية والمساواة، في اطار المعركة الوطنية الفلسطينية من اجل طرد الاحتلال عن ارض فلسطين.
وقضية الحرية لا تتجزأ، لذا رفض الكثير من المثقفين العلمانيين العرب، القرار الذي اتخذته الحكومة الفرنسية بمنع الحجاب في المدارس الفرنسية العامة. لم يكن هذا الموقف حبا بالحجاب، او اقتناعا بضرورته، بل كان حبا بالحرية، وتعبيرا عن احترام العقائد الأخرى، مهما اختلفنا معها، وعن حقها في التعبير الحر عن نفسها بالطريقة التي تشاء.
ففي النهاية الانسان هو من يصنع حياته ويقرر مصيره، ولا اكراه في العلمانية كما لا اكراه في الدين.
تتخذ المسألة في قطاع غزة اهميتها من منطلقي الحرية والدفاع عن الوطن عبر مقاومة المحتل. ولا يمكن لأي نقاش ان يكون مثمرا الا اذا اخذ في الاعتبار هاتين المسألتين. من هنا لن نصدق ان قرار فرض الجلباب اتخذ بمبادرات فردية- جماعية من مديرات المدارس. كما ان قرار تأنيث التعليم للبنات، اي جعل كل العاملين في مدارس البنات من مدرسين واداريين اناثا، لا يمكن ان ينفذ من دون قرار مركزي. نحن اذا امام قرار سياسي بفرض الحجاب، وهو قرار يشق وحدة المجتمع الفلسطيني من جهة، كما يقيم حاجزا بين الضفة وغزة، مصيره التفاقم بحيث نكون امام مجتمعين فلسطينيين.
هل هذا ما تريده حركة حماس؟
قد يأتي الجواب الجاهز من حيث نتوقع، فيدور الكلام عن فرض الحجاب والجلباب والتشادور في دولتين اسلاميتين كبريين هما السعودية وايران.
هل هذا هو النموذج؟ فرض الحجاب والجلباب في المملكة العربية السعودية، لم يمنع المملكة من استقبال مئات الوف الجنود الامريكيين على اراضيها في حرب ‘عاصفة الصحراء’، ومن كونها الحليف الأكبر للامبراطورية الامريكية.
كما ان فرض التشادور في ايران، لم يمنع الحرس الثوري والباسيج من الانقلاب على الحرية والديموقراطية، في الانتخابات الرئاسية التي اعادت احمدي نجاد الى السلطة.
من جهة اخرى، لا يقلل عدم الفرض الرسمي للحجاب في تركيا، من اسلامية حكومة اردوغان، ومن موقفها النبيل والشجاع خلال الحرب الهمجية على غزة.
مسألة الحجاب والجلباب ليست جزءا لا يتجزأ من المقاومة. دلال المغربي سجلت اروع صفحة بطولية في تاريخ النضال الفلسطيني، وكانت سافرة، تضع كوفية الثورة على عنقها.
المسألة تتعلق بمشروع قديم، يهدف الى الانقلاب الجذري على النهضة العربية التي صنعها احمد فارس الشدياق وناصيف اليازجي وجمال الدين الافغاني ومحمد عبده وجبران وجرجي زيدان… وصولا الى قتل روحي ثورتي 1919 و1952، ووأد المشرق العربي في اسار البنى القديمة التي اهترأت خلال قرون الهيمنة العثمانية.
ليس الجلباب هو الموضوع، فالمسألة تتعلق بمشروع تحجيب للعقل، عبر تحجيب الفكرة الوطنية، ووأدها.
بدلا من هذا الاهتمام بالزي وتغطية الرؤوس والفروج، لماذا لا يفتح النقاش عن المصير الفلسطيني، وعن المشروع السياسي الملائم من اجل دحر الاحتلال؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي كنا نتمنى ان يكون على طاولة البحث اليومي في القطاع. فإذا كانت حماس لا تريد التسوية، فلتقل ماذا تريد، وكيف يمكن الوصول الى ذلك، وكيف يمكن ان نبني وحدة وطنية من اجل تحقيق هذا الهدف. اما اذا كانت تسعى الى التسوية عبر استخدام ‘لعم’ ياسر عرفات، كي ترث فتح، فإن ذلك الزمن قد ولّى الى الأبد.
غير ان من لم يستطع تحمّل الوجود الاعلامي للجبهة الشعبية في غزة، كيف يمكنه ادارة مثل هذا النقاش؟!
هل يعتقدون ان تحجيب العقل سوف يمهد لتحجيب الوطن؟
ام اننا امام امارة اسلامية صغيرة في وطن محتل؟
القدس العربي