غزة: “حمسنة” مجتمع لا أسلمته
محمد جلول
لا جدال في أن ظاهرة الإسلام السياسي اليميني تطورت وأخذت أشكالاً تصاعدية وجماهيرية غير مسبوقة مع انتهاء الحرب الباردة، وهو ما حدا بقادة معظم الحركات والمنظمات الإسلامية المعتدلة منها والمتطرفة، اعتبار الإسلام السياسي أحد العوامل الرئيسة؛ إن لم يكن الأساس في انهيار تجارب دول المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي. ومن الأمثلة الدالة برأيهم هو دور ما عرف بالمجاهدين الأفغان في مواجة التدخل السوفياتي في أفغانستان والانتصار عليه، وما تعتبره الأوساط والحركات “الإسلامية” بداية الصحوة الإسلامية.
والصحوة الإسلامية هو التعبير الذي يطلقه الإسلامويون على تصاعد الدور السياسي للحركات والمنظمات الإسلامية، وبمعنى أدق الصحوة السياسية للإسلام وليس الصحوة الدينية. وهم يتباهون بأن هذه الصحوة هي نتاج الانتصار على التدخل السوفياتي لأفغانستان. وفي سياق هذا التحليل يتأكد مدى ارتباط الحركات الإسلامية بدوائر القرار الأميركي ومخابراته، كون الحرب في جوهرها كانت أميركية – سوفياتية في نطاق الحرب الباردة، وإن استخدمت التنظيمات الإسلاموية الأفغانية منها والأجنبية تحت شعار وأكاذيب الحرب الأميركية الباردة “محاربة الإلحاد الشيوعي”.
إن قراءة تاريخ ودور الحركات الإسلامية المعاصرة يؤدي بنا الى الخروج بسلة ملاحظات منهجية أبرزها:
1- التناقض الواضح بين الطرح السياسي المعلن والممارسة السياسية، وهو ما يجعلنا نطلق صفة الباطنية على المواقع القيادية للحركات الإسلامية.
2- التناقض بين براغماتية (مصلحية) القيادة وأهداف الأعضاء والجمهور ومصالحهم، ومع تطور وسائل الاتصال والإعلام؛ بدأنا نلاحظ ضمور عضوية أهالي وسكان المدن في الحركات الإسلامية مع تزايد واسع لسكان الريف والمناطق القبلية. كما بدأنا نلحظ تزايد جرعة استغلال الشعارات التي تدغدغ كلامياً وعاطفياً أفئدة المواطنين (مقاومة، عدالة … الخ)، دون أن تترجمها عملياً أي لا تحولها برامج. إن عملية غسل الدماغ للأعضاء والتي تجري تحت مبدأ الإخضاع تمكّن المراكز القيادية من الاستفادة من طاقات الأعضاء دون التعبير عن مصالحها، إنه التناقض الدائم بين القيادة والقاعدة وهو صفة ملازمة للأحزاب والحركات الإسلامية.
3- العمل الحثيث على مبدأ استلام السلطة، ومع تراجع (لأسباب عديدة) فرص السيطرة على السلطة بالوسائل السلمية، فإنها تلجأ إلى العنف. ومع غياب برنامجها الاقتصادي البديل فإنها تركز على الجانب الاجتماعي العبادي لإظهار تمايزها عن الأنظمة القائمة في رسالة موجهة أساساً الى أعضائها وجمهورها.
وبالعودة إلى “حماس” التي حصلت على غالبية المجلس التشريعي في انتخابات كانون الثاني 2006، فإن معظم المراقبين والإعلاميين رأوا أن هذا الفوز هو نتيجة عاملين أساسيين. إسرائيل وموقفها من التسوية؛ وفساد السلطة ومؤسساتها، إضافةً إلى الفساد المستشري داخل الأوساط القيادية ومؤسسات حركة “فتح” ـ ولا يعود هذا الفوز إلا بعوامل ثانوية إلى نفوذ حركة “حماس”. مثال مهم ودال على ذلك أن نجد 24 صوتاً مؤيداً لـ”حماس” من أصل 91 في قلم اقتراع المقاطعة وهو المطبخ السياسي للرئاسة الفلسطينية.
لقد شكلت المقاومة التي مارستها “حماس” في الانتفاضة الثانية إلى جانب الفصائل الأخرى بما في ذلك حركة “فتح”؛ أحد عوامل بروز “حماس” كقوة مؤثرة في العمل السياسي الفلسطيني، إضافة إلى استخدامها المفرط للمال السياسي بشكل مباشر أو عبر شبكة مؤسساتها الاجتماعية. وكانت هذه العوامل إضافة إلى ما ذكرنا سابقاً هي المداخل لوصول “حماس” إلى موقع الشريك الأكبر في السلطة السياسية الفلسطينية. ولكن مع عدم قدرة “حماس” (والأدق عدم رغبتها) في الشراكة السياسية والالتزام بالأعراف والقوانين الديموقراطية (الواعدة آنذاك) للنظام السياسي الفلسطيني انطلاقاً من خلفيتها الباطنية ورغبتها الجامحة بالاستئثار بالسلطة، قامت بالانقلاب الدموي في غزة.
ومع هذا الانقلاب، بدأ انقلاب آخر لكل منظومة أفكارها وأدائها السياسي (المقاومة، الموقف من التسوية، العلاقات مع الغرب وأميركا)، وبدا الاستعداد واضحاً لتقديم كل التنازلات المطلوبة مقابل الاستئثار بالسلطة (البراغماتية غير الخاضعة للمسائلة والنقد تحت حجة القداسة، تديين السياسة وتسييس الدين) في الوقت الذي تمارس انتقادها للآخرين على المواقف نفسها.
وانسياقاً مع هذا التحليل؛ فإننا نرى كل الإجراءات التي أخذتها “حماس” وتأخذها في الأسابيع الأخيرة (ذات طابع اجتماعي عبادي). الحجاب، اللباس، تأنيث المدارس … الخ، تحت عنوان “أسلمة” المجتمع، بمعنى أن المجتمع “غير مسلم”، والأدق “حمسنة” المجتمع، بما يحمل من حركة شعبوية واهمة، هي رسالة موجهة أساساً الى أعضائها وجمهورها، ولإظهار تمايزها عن المجتمع الآخر (الضفة الغربية) ولتكريس الانقسام المجتمعي بعد السياسي والجغرافي. وهنا نلاحظ فشل “حماس” في التحول حالة مؤثرة في الشتات ـ وتحديداً في لبنان ـ حيث العنوان الأبرز للاجئين يعود إلى وجود تنظيمات إسلامية محلية (عصبة الأنصار، الحركة الإسلامية المجاهدة … الخ) ووجود ثقافة مشيخية، حال دون قدرة “حماس” على تقديم بديل مجتمعي، وهي التي لم تستطع تقديم بديل وطني.
في الخلاصة يمكن رؤية كل إجراءات “حماس” الأخيرة في غزة في إطار عملية متواصلة لِـ “حمسنة” المجتمع هناك، وإخضاعه لمنظومة فكرية وآليات محكمة تمكنها من تطويعه واستخدامه ساعة تشاء.
وعلى هذا الأساس يمكن تلمس أبرز أهداف “حماس” بالتالي:
1- تعزيز الانقسام السياسي والجغرافي والمجتمعي وقطع الطريق عن إنجاح الحوار الوطني، والعمل على تأجيل الانتخابات على الأقل في غزة.
2- إلهاء الأعضاء والجمهور عن المواقف ذات العلاقة بالمشروع الوطني، تحت شعار بناء المجتمع المسلم والتهيئة للمعركة الكبرى، وهي للمناسبة نغمة الحركات الإسلامية مجتمعة للهروب من الاستحقاقات الوطنية والقومية (دورها في مواجهة الاستعمار الغربي ـ دورها في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة … الخ).
3- إلهاء المجتمع والسكان في غزة عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الحصار.
4- كسب أوراق جديدة يمكن أن تقدمها في المفاوضات الجارية واللاحقة، فكما قدمت تراجعات إستراتيجية وسياسية في معرض قبولها الدولي، فإنها على استعداد لتقديم أوراق مجتمعية مما يظهرها في موقع الاعتدال واحترام الديموقراطية وحقوق الإنسان.
الملاحظ أن “حماس” المعتدلة في السياسة حالياً والتي فتحت لها النوافذ الغربية والأميركية بشكل معلن أحياناً، وتحت الطاولة في غالب الأحيان، تعتمد إستراتيجية “فقدان اوراق للحصول على اخرى” في سبيل المفاوضات مع الغرب والأميركيين لتكون مقبولة على رأس السلطة.
ما يجري اليوم ليس أسلمة غزة المسلمة، ولا الحفاظ على أخلاقياتها وهي المحافظة، ما يجري هو “حمسنة” وإخضاع المجتمع للاستعمال والتوظيف خدمةً لسلطتها والاستئثار بها والمحافظة عليها.
( كاتب فلسطيني)