عن المرأة في ذكرى النكبة
أُبيّ حسن
لم يتطرق أي من الكتّاب العرب, أثناء أحاديثهم وكتاباتهم(الصحفية) عن النكبة الفلسطينية في ذكراها الستين, عن واقع المرأة العربية وراهنها بغية إجراء مقارنة, ولو بسيطة, مع واقع المرأة الإسرائيلية ودورها التاريخي في بناء دولة إسرائيل
صوّر ممدوح عدوان, في روايته الشهيرة “أعدائي” الفتاة اليهودية “سارة” التي كانت تعمل في شبكة تجسس يهودية مع شقيقها مطلع القرن العشرين, تصويراً صادقاً وحيادياً, كان من شأنه أن قدّم صورة حية ونابضة عن كفاح المرأة اليهودية ونضالها في سبيل بناء وطن قومي خاص بهم!. ومن المعروف أن “سارة” فضلت في النهاية الانتحار على الاستسلام لخصومها. وقد كان ذلك في ظل الدولة العثمانية التي كانت تعيش أيامها الأخيرة.
من جانب آخر, يروي يوسف الفيصل, رئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري, في مذكراته, أنه عندما كان في سجن المزة العسكري عام 1948, لاحظ وجود فتيات شقر كنّ يخرجن إلى “الاستراحة” وهنّ يطرزن, وقد علم في ما بعد أن هؤلاء الفتيات إسرائيليات تمّ أسرهن في إحدى الاشتباكات السورية- الإسرائيلية!.
أيضاً في كتابه “النقد الذاتي بعد الهزيمة” ينقل الدكتور صادق جلال العظم انطباع إحدى الفتيات اليهوديات السوريات اللواتي ذهبن إلى إسرائيل, وقد كان موجز انطباع إحداهن “إنها تشعر بالآسف والآسى عندما تزور سوريا لأنها ترى قريناتها مشغولات بالحديث عن الحلي والجواهر والاهتمام بالألبسة والموضة, في ما هي وقريناتها هناك (في إسرائيل) مشغولات ببناء وطن“!.
ولعل الكثيرين ممن تابعوا المسلسل الجماهيري “رأفت الهجّان”, يتذكّرون جيداً الدور الكبير الذي كانت تلعبه المرأة الإسرائيلية في الشأن العام.
من المؤكد أن المرأة لعبت في بلادنا دوراً مشرفاً في مراحل الكفاح الوطني, لكن مجرد إجراء مقارنة بسيطة بين أولئك الفتيات والنسوة اليهوديات وبين نسائنا ودورهن, سنلحظ, أن الفتيات اليهوديات لعبن دوراً كبيراً وهن في مقتبل العمر, وقد كان جهدهن يفوق بما لا يقاس الجهد الذي بذلته نساؤنا –أو بعضهن- في مراحل الكفاح الوطني ضد الانتداب الفرنسي(على سبيل المثال), ولا داعي لمزيد من التوضيح في هذا الجانب, مع الاحترام الشديد لكفاح نسائنا ونضالهن.
طبعاً, معظمنا يدرك الظروف التي تعيشها المرأة العربية ومن ضمنها السورية راهناً, وهي ظروف لا تغبط صديقاً ولا تسرّ عدواً. فكما ذكرتْ منذ فترة وجيزة إحدى الجهات الحقوقية إن ترتيب سوريا هو خامس دولة في (ما يعرف) جرائم شرف”؟!”. وهذه الجرائم, من شأنها وحدها أن تجعلنا ندرك مرارة الواقع(الاجتماعي بالحد الأدنى) الذي تعيش في ظله المرأة السورية وصعوبته في آن واحد!.
من جهة أخرى, نجد أن المرأة العربية بشكل عام, والمرأة السورية بشكل خاص, باتت تستثمر الإنجازات والتطورات التي حققتها على أكثر من مستوى طوال عقود من الزمن بغية وضع المزيد من القيود على حريتها وآلية تفكيرها!, ولعل ظاهرة الآنسات القبيسيات خير دليل على هذا!. بالمناسبة سبق أن أفادني الدكتور طيب تيزيني أن عدد القبيسيات في سوريا يربو عن المائة والخمسين ألف قبيسية! وكما يبدو هو رقم مخيف حقاً ويضع الكثير من علامات الاستفهام حول مصير المرأة السورية ومستقبلها ومستقبل أبنائها. وفي السياق ذاته, سبق أن رأيت أكثر من مرة في بعض محلاّت الألبسة النسائية في مدينة اللاذقية يافطة خلف زجاج واجهة محل مكتوب عليها العبارة التالية: “هدية حجاب مجاني لكل فتاة محجّبة أو ترغب بالتحجّب“.
ما أذكره, وإن كان لن يرضي الكثيرين, غير أنه مع الآسف يبقى عبارة عن مجرد مؤشر خطر لتوجه المرأة السورية, والمستقبل الظلامي الذي تحوكه لنفسها, ولمن حولها, بيديها.
من نافل القول إن الأجهزة الرسمية الحكومية تتحمّل جزءاً كبيراً من حالة النكوص الذي تشهده المرأة السورية راهناً, فمثلاً يعلم المتابعون للشأن العام السوري جيداً الدور السلبي الذي لعبته وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في سوريا في هذا المجال, وذلك من خلال محاربتها للكثير من الجمعيات المعنية بشأن المرأة بذرائع واهية لا تقنع عاقلاً! قبالة التسهيلات التي تلاقيها النساء المتجهات لنشر “الدعوة” الإسلامية بطريقة “سلمية“!.
وحالة النكوص التي عنيناها, هو ما كان يترجمه عملياً عزوف المرأة السورية عن المشاركة في الشأن العام(قبالة اندفاعها أو حصرها لنشاطها في اتجاه وحيد هو الاتجاه الديني المخيف), ولنتذكّر النسبة العددية المحدودة جداً لمشاركة المرأة في المنتديات والندوات التي كانت تعقد في مرحلة ما عُرف بربيع دمشق!.
لا شك أن عوامل عديدة, اقتصادية وسياسية واجتماعية ودينية الخ…, تضافرت وتشابكت كان من شأنها أن حجّمت المرأة السورية بمثل هذا النحو الذي لا نعتقد أن ثمة منصفاً راض عنه.
وإذا ما نظرنا مثلاً إلى حال الشباب الجامعي, وعزوفه شبه الكلي عن الانخراط في الحياة بمعناها الأوسع, ذلك الانخراط الذي من شأنه الارتقاء بالوطن والإنسان على حد سواء, سنشهد واقعاً جامعياً كارثياً في هذا المنحى! وهو واقع يطال الشباب والفتيات على حد سواء, ومن نافل القول إن هذا الواقع تتحمّل وزره الجهات الرسمية المعنية أكثر ما تتحملّه مؤسسات المجتمع المدني(حال وجدت في بلادنا).
وأياً يكن الأمر, سأذكر هنا ما سبق أن سمعته ذات مرة من فتاة في سنتها الجامعية الأخيرة, ذكية ومجدة ومحترمة و(تتوهم أنها) متحررة(من بقايا الطبقة الوسطى), وليقارن القارئ كلامها وآلية تفكيرها التي نخشى أن تكون ظاهرة عامة في أوساط فتياتنا في الجامعات بكفاح ونضال ما سبق أن ذكرته عن المرأة الإسرائيلية. من جملة ما قالت: “أنا فتاة لعوب, أكذب, أنانية جداً وأحب نفسي كثيراً, أجيد تصيّد الشباب.. أنا شاطرة, أعرف كيف أحصل على ما أريد من دون أن أقدّم شيئاً.. الآخرون لا يعنون لي شيئاً”,: إلى أن تستدرك: “كل ما هو خارج دائرة مصالحي لا يعنيني ولا أفكّر به.. أستطيع أن أوهم أي شخص أنه محط اهتمامي لأصل لم أريده وقد لا يكون هو يعني لي شيئاً“.
من الواضح أن الكلام السابق الذكر لتلك الفتاة, ناجم عن أمراض سلوكية عديدة ومزمنة وهو مؤشر على وجود خلل في سلم القيم لديها, وحال كان الأمر كذلك فإن هذا شأن خاص بها, لكن حال كان غير ذلك –وهذا ما نستبعده- فإنه من دون شك ناجم عن صعوبة الظروف التي تحيط بواقع المرأة السورية ككل راهناً! ومن جملة هذه الظروف التربية الذكورية السائدة في مجتمعاتنا بما يترتب على تلك التربية من إقصاء للغة الحوار في العائلة الواحدة, من دون أن نغفل بشاعة الواقع المُعاش على الصعيد الاقتصادي وانعكاساته السلبية على المجتمع ومن ضمنه المرأة. وحال كان الأمر كذلك فهذا يعني أن نسبة معتبرة من النساء السوريات –أو الفتيات السوريات باعتبارهن يشكلن نصف المجتمع”الفاعل”- هنّ في مضمونهن يفكرن وينهجن السلوك الذي عبّرت عنه تلك الفتاة بفخر واعتزاز! وأين هو من تضحيات المرأة الإسرائيلية وطريقة تفكيرها وسلوكها في عملية بنائها لوطنها؟.
من المؤكد أن أمثال سوسن زكزك ورندة بعث ومية الرحبي وفداء حوراني وسمر يزبك ورزان زيتونة وسهير الأتاسي ونوال يازجي وردينة حيدر ونجاح العطار وبثينة شعبان الخ… ومع الاحترام الشديد لفاعليتهن ونشاطهن إلا أنهن لا يمثلن المرأة السورية وراهنها, ولايعكسن في حضورهن وفاعليتهن حضور المرأة السورية وفاعليتها الحقيقية في المجتمع.
لعل فاعلية المرأة ومستقبلها في الربوع العربية يختزله موقف الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله, إذ سبق له إن قال في سياق كلمة ألقاها أثناء رعايته حفل تكليف أقامته مدارس جمعية التعليم الديني الإسلامي لمئات الفتيات من عمر التسع سنوات، لمناسبة ارتدائهن الحجاب: “قبل حوالي أربعين سنة تقريباً، كان الحجاب قد تحوَّل إلى زي وتقليد، وبدأنا نلمس تخلي البنات في عمر الصبا عن الحجاب تدريجياً، لكن في أجواء الصحوة الإسلامية، وخاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة في سنة 1979 بقيادة المسدد الإمام الخميني، بدأت الصحوة الإسلامية تأخذ مدىً مختلفاً، وبدأت العودة إلى الحجاب بشكل كثيف”. ويخبر الشيخ قاسم الفتيات من عمر تسع سنوات لماذا فرض عليهن الحجاب بالقول “البنت مخلوق إلهي جميل، أراد الله تعالى أن لا يكون هذا الجمال سبباً للفتنة والانحراف والفساد، فطلب منكِ أن تضعي هذا الجمال في إطار حجاب، فمجرد حجاب البنت تفهم أن جمالها ليس للإغواء، وأن جمالها ليس للناس، وإنما لترتاح هي بما خلقها الله تعالى عليه، فتشكر نعمته بالسجود كما شكرت نعمته بالحجاب“.
أما إذا سألت الفتيات لماذا لا يتحجب الرجال؟ فإن الجواب عند الشيخ قاسم هو “أن الرجال يمتلكون مواصفات أخرى، فالله تعالى منحهم القدرة الجسدية والقوة، لماذا؟ لأن لهم دوراً في الحياة، نرى أن الرجال يذهبون إلى الجبهة ويقاتلون”.. أما لماذا يمنعون الحجاب في بعض الدول الغربية، فإن الشيخ قاسم يجيب بالآتي: “يمنعونه لأنهم يعلمون أن هذا الحجاب نور، والنور يدخل إلى كل مكان، وبالتالي يخشون أن يؤثر الحجاب على غير المحجبات، فيمنعون الحجاب حتى لا يصل الطهر إليهم، لأنهم يتفاخرون بفسادهم”)(نقلاً عن “كلنا شركاء 6/5/2008. محمد علي الأتاسي, بتصرف).
غني عن البيان أن موقف الشيخ نعيم قاسم, لا يختلّف نهائياً عن مواقف رجال الدين الآخرين سواء أكانوا في سوريا أو مصر والسعودية في ما يتعلّق بالحجاب. ولكم أن تتصوروا أي مستقبل ينتظر هذه المرأة التي تشيّأ من خلال الحجاب, هذا إن لم نقل إن وظيفتها اختزلت –بحسب وجهة النظر الدينية الفاعلة والمهيمنة عملياً على الشارع- في الإغواء والفتنة حال رفضت الحجاب!.
خلاصة القول: عندما يريد السوريون إحياء ذكرى النكبة, فلينظروا إلى واقعهم جيداً وبتجرد, وتحديداً الواقع الذي تعيش في ظله المرأة التي تشكل, شئنا أم أبينا, نصف المجتمع, وليقارنوه بواقع المرأة الإسرائيلية. وحذار أن يعتقدن أحد أن هذه المهمة هي مهمة السلطات, إنها مهمة المجتمع أولاً وأخيراً, لأن المجتمع الذي يقوده من أرنبة أنفه الشيخ سعيد والشيخ نعيم وأمثالهما لن تكون مهمة النهوض به واقعة على عاتق السلطات الرسمية فحسب قدر ما هي مهمة منوطة بالعقول الفاعلة في هذا المجتمع الذي نخشى القول إنه بات كسيحاً.
والشيخ الذي فسّر سبب هزيمة العرب في حزيران 1967 بسبب سفور النساء في بلادنا هو الشيخ ذاته الذي يقود المجتمع راهناً إلى عصور الانحطاط من دون أن يأخذ بعين الاعتبار أن المرأة في إسرائيل سافرة ولم تتحجّب بعد ولله الحمد, وجدير بأولئك الشيوخ أن يقرأوا سيرة “سارة” تلك الفتاة الرائعة التي ساهمت في بناء وطن من دون حجاب
أُبيّ حسن: ( كلنا شركاء ) 17/5/2008 .