في الذكرى الستين.. أمن إسرائيل ومستقبلها
حسين العودات
بدأ اليأس يتسرب إلى نفوس العرب حكاماً وشعوباً وأحزاباً وتيارات سياسية من إمكانية الانتصار على إسرائيل، وأخذت بعض القناعة تسيطر على وعيهم وتفكيرهم ومواقفهم من أن إسرائيل قائمة بثبات وسائرة باضطراد
نحو تحقيق الهيمنة على المنطقة واغتصاب القرار السياسي العربي والانفراد به أو على وشك الانفراد.
مثلما احتلت فلسطين منذ ستين عاماً وتحتفل في هذه الأيام باغتصابها وتأسيس دولة إسرائيل القوية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، في الوقت الذي يزداد الموقف العربي ضعفاً وهواناً، ويتراكض بعض العرب إلى إرضائها وكسب ودها وود حماتها الأميركيين، وأصبح من يقول بغير ذلك شاذ الموقف وربما محط سخرية من كثيرين في مجتمعنا سواء كانوا محللين أم سياسيين أم قادة أم حتى بعض النخبة.
ويُتهم باللاواقعية و(الطباوية) والتطرف القومي أو الديني، وبدا وكأن ليس أمام العرب سوى الاستسلام والقبول بالنفوذ الإسرائيلي وإيكال أمر حاضر العرب ومستقبلهم لإسرائيل وحلفائها والاكتفاء بالشجب والإدانة دون العمل الجدي لإيجاد ظروف جديدة وشروط جديدة تؤهلهم لاستعادة حقوقهم والاستقلال بقرارهم. وتدل ظواهر الأمور في الواقع على القدرة الخارقة لإسرائيل والضعف غير المسبوق للعرب، وبالتالي فإن قبول هذا الواقع يبدو وكأنه هو الموقف السياسي الصحيح لتجنب المزيد من الخسائر والهزائم.
عند التدقيق بطرفي المعادلة ـ حسب رأي من يزعمون الواقعية والعقلانية ـ نجد أن طرفها الأول أي إسرائيل دولة قوية متماسكة تمتلك إمكانيات عسكرية كبيرة جداً (ويقال أن جيشها هو الثالث في العالم) تخصص له نسبة من موازنتها السنوية هي الأكبر في العالم، واقتصادها متين (تصدر من منتجات التكنولوجيا المتقدمة وحدها أكثر من 14 مليار دولار سنوياً) ويزيد الدخل الفردي فيها عن عشرين ألف دولار.
وهي مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً بدون تحفظ، فضلاً عن دعمها الكبير من قبل الدول الأوروبية، بينما الطرف الثاني من المعادلة أي الدول العربية تئن معظم مجتمعاتها تحت شروط الفقر والقهر والأمية والتخلف العلمي والثقافي والاجتماعي.
ومازالت أنظمتها السياسية تدير ظهرها للحريات والديمقراطية والتعددية وتكافؤ الفرص وبالتالي فهي بعيدة عن تحقيق الوحدة الوطنية وعن صهر شعوبها في ثقافة واحدة ترتبط بمرجعية المواطنة، في الوقت الذي نجد فيه جيوشها متهالكة تهتم بشؤون الداخل أكثر من اهتمامها بالدفاع عن البلاد، كما أن الشروط الاقتصادية والمالية المحيطة بها بائسة ولا تدعو لأي تفاؤل سواء من حيث ضعف مستوياتها أو عجز موازناتها أم ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل فيها، وغير ذلك من مظاهر التخلف والضعف والتمزق الاجتماعي والانحطاط السياسي بشكل عام. ومادامت الشروط المحيطة بطرفي المعادلة هي على هذا النحو ـــ بنظر من يقولون بالواقعية ـ فكيف ننتظر النصر في إطار خلل توازن القوى هذا؟
لنحاول الآن أن نرى الأمور بمنظار آخر يدقق في الشروط المحيطة بطرفي المعادلة رؤية أخرى خلاصتها أن إسرائيل تعتمد حتى الآن على ثلاثة مصادر قوى رئيسية: أولها القوة العسكرية وهذه فضلاً عن أنها لا تكفي لحمايتها إلى مدة غير محدودة فهي مرتبطة بالمساعدات الأميركية وثانياً الدعم الأميركي المطلق لها وهذا مرتبط باستمرار هذا الدعم، وثالثها التربية الصهيونية التي جمعت معظم سكانها حول الأيديولوجية الصهيونية بالإضافة إلى مصدر آخر هو الضعف العربي المشهود.
إذا دققنا قليلاً نلاحظ أن الأيديولوجية الصهيونية تراجعت بعد أن حققت هدفها بقيام إسرائيل ولم يبق لديها من أهداف رئيسية تعمل لها سوى اللجوء إلى التطرف والعنصرية وهما هدفان ظرفيان لا يصلحان لاستمرار بقاء الدولة، كما أن الدعم الأميركي غير المحدود ظرفي أيضاً ولا يمكن أن يدوم وبالتالي لن تدوم معه القدرة العسكرية الإسرائيلية الطاغية كما هي الآن.
أما ضعف المجتمعات العربية وتهالكها وتخلفها فهي أيضاً ظرفية يستحيل أن تستمر، وبالتالي فإن أي تغير في السياسة الدولية أو في الواقع العربي سيغير المعادلة ومن يعرف فقد يقلبها، وفي الحالات كلها فإن ديمومة الخلل في ميزان القوى لصالح إسرائيل هو أمر مشكوك فيه ومثله استمرار الهيمنة الإسرائيلية إلى مدد غير محدودة.
ولعل هذا ما يفسر نمو عدم الشعور بالأمن لدى يهود إسرائيل وخوفهم من المستقبل. إن الحرب الأميركية والضعف العربي لا يقيمان وحدهما دولة مستقرة ودائمة خاصة إذا كانت هذه الدولة كإسرائيل يبلغ تعداد العرب فيها خمس سكانها وتلملم سكاناً من (125) قومية وثقافة ولم تتجاوز الرابطة بين سكانها حتى الآن رابطة الخوف من المحيط العربي أو من الهلاك يتوقف مستقبلها الوجودي على هزيمة عسكرية واحدة.
لنا تجربة مماثلة مع الإقطاعيات الفرنجية (الصليبية) التي قامت في المشرق العربي خلال الحروب الصليبية والتي لم تكن على شكل قواعد عسكرية فقط بل شهدت استيطاناً أوروبياً مماثلاً للاستيطان الإسرائيلي وكانت معظمها ذات أكثرية سكانية أوروبية، وترسّخت أسسها وقوي اقتصادها وقواتها العسكرية، وأقام بعضها علاقات ودية مع الدول العربية المجاورة ومجتمعاتها، وتحالف بعضها الآخر مع أيوبيي دمشق ضد أيوبيي القاهرة، ولكن في النهاية انهارت هذه الإقطاعيات بعد عمر وصل أحياناً إلى مئتي عام ولم يبق منها أثر، ذلك لأنها جميعها قامت على شروط ظرفية لم تصمد أمام الزمن، وقياساً فلن يكون مستقبل إسرائيل أفضل حالاً.
هل هذا وهم؟ أم رأي متطرف؟ أم مشاعر قومية ووطنية متطرفة تتجاهل الواقع؟. ربما ليس الأمر كذلك رغم ما يحيط بالصراع العربي ـــ الإسرائيلي من خلل في توازن القوى.
إن الشروط الظرفية لا تحمي الدول ولا تؤهلها للاستمرار طويلاً، ولذلك فمن غير العدل اتهام من يعتقدون بزوال إسرائيل يوماً باللامنطقية والهوس القومي والديني والتطرف.
البيان الإماراتية