ذكرى النكبة، هل من نكبة جديدة؟ دعوة لإستراتيجية فلسطينية جديدة
سلامة كيلة
بدا الاحتفال الذي يقام في الدولة الصهيونية في ذكرى “تأسيس الدولة العبرية” ملفتاً، حيث تميّز عن كل الأعوام السابقة، ليبدو احتفالاً عالمياً بهذه الذكرى. وكان يبدو ضرورياً أن يرعاه الرئيس جورج بوش. طبعاً نشير إلى ذلك لننبه إلى ما يرمز إليه، والذي يشير ربما إلى نكبة جديدة.
إذا كان الوضع الدولي مختلاً بشكل مريع لمصلحة الولايات المتحدة، فهو في مصلحة الدولة الصهيونية إلى أبعد الحدود بالتالي. وإذا كانت الدولة الأميركية تنفذ سياسات الشركات الاحتكارية الإمبريالية بفرض السيطرة على العالم، وخصوصاً المنطقة العربية كونها خزان النفط الأساسي والسوق الكبيرة، فإن الدولة الصهيونية جزء من هذه العملية. لهذا سيبدو الصراع ضد الدولة الصهيونية في مأزق شديد، وبالتالي يبدو أن الصيغة التي تناسب تلك الاحتكارات، وأدواتها المتمثلة في الدولة الأميركية وفرعها الذي هو الدولة الصهيونية، هي التي تتحقق.
لقد أشرنا إلى رعاية الرئيس بوش للقول بأن الدولة الصهيونية ليست حتى كبريطانيا، وليس فقط الدول الرأسمالية الأخرى، رغم الترابط الوثيق بين الاحتكارات، والتداخل العميق الذي بات يحكم الرأسمال. إنها أكثر من ذلك، ربما امتداد، أو جزء عضوي، لكنها ليست دولة قائمة بذاتها كما الدول الأخرى المتحالفة مع الولايات المتحدة. لقد تأسست بدعم مالي هائل من قبل الرأسماليات ليس حباً في اليهود، الذين كانوا يعانون الوضع الأكثر سوءاً في أوروبا، بل تأسيساً لمشروع سيطرة طويلة الأمد على الوطن العربي. وإذا كان اقتضى ذلك تقسيمه إلى دول، وتكريس نظم تابعة فيه، فقد بدا أن من الضرورة بمكان تكريس حاجز هو في الوقت ذاته قاعدة عسكرية في فلسطين. وبالتالي يجري التخلص من اليهود “الأشرار” بإبعادهم عن أوروبا، لكن عبر تحويلهم إلى جيش من “المرتزقة” (كما ارتأوا). هذه مسألة باتت واضحة، لكن الوضع الراهن ربما يشير إلى أنها سوف تصبح حقيقة “مطلقة”. فرغم أن الجيوش الإمبريالية الأميركية باتت تتوضع في العراق والخليج العربي، وتحاول الامتداد إلى المغرب العربي، إضافة إلى الأساطيل التي تقيم قرب الشواطئ العربية، تبدو الدولة الأميركية معنية بأن تكون الجيوش الصهيونية جزءاً من منظومتها للسيطرة، وتكون الدولة الصهيونية مركزاً عسكرياً في إطار هذه المنظومة.
ولقد أوضحت حرب تموز سنة 2006 على لبنان أول حقيقة، وهي أن قرار الحرب جاء أميركياً، لتكتمل التدريبات العسكرية المشتركة، وتدخَل الدولة الصهيونية في المنظومة الدفاعية وحيدة من غير دول العالم الأخرى. بعد أن أصبحت منذ الحرب الأولى على العراق سنة 1990/1991 مخزناً لأسلحة الجيوش الأميركية. وإذا كانت إستراتيجية بوش التي حددها في يناير سنة 2007، هي التحشيد ضد إيران والشيعة، وتشكيل “تحالف المعتدلين” الذي يضم معظم الدول العربية مع الدولة الصهيونية (وربما التيارات الأصولية السنية كذلك)، فقد بدا خلال الفترة الماضية معنياً بتكريس هذا التحالف عبر الفرض على النظم العربية كي تتوافق، ليس مع السياسات الأميركية فحسب، حيث أنها ملحقة هنا، بل ومع السياسات الصهيونية كذلك. ولقاء أنابوليس كان في هذا السياق. وبالتالي لكي تخاض الحرب هذه المرة باسم هذا التحالف، ولتكون الدولة الصهيونية جزءاً فاعلاً فيها. بمعنى أنها حرب أميركية صهيونية بدعم وتغطية عربيين.
ولقد بدت جولة الرئيس بوش بداية هذا العام وكأنها جولة حرب، تبعها ترتيبات مستمرة تولتها كوندا ليزا رايس، وخصوصاً ديك تشيني. هل أن هذا الحضور الاحتفالي، وهذه الجولة على مصر والسعودية، هما لوضع اللمسة الأخيرة على سياسة يشرف صاحبها على الرحيل؟ رغم أن مؤشرات الانتخابات الأميركية تشير إلى أن خلفه سوف يكملها. لكن ربما كانت الحرب ضرورة قبل الانتخابات. وبهذا فإن هذه الاحتفالية هي للتأكيد على الوضع الجديد، وضع السيطرة الأميركية الصهيونية، ووضع دور الدولة الصهيونية كامتداد للدولة الأميركية.
هنا نسأل: ما هي الصيغة التي يسعى هذا الثنائي فرضها في فلسطين؟
ربما لسنا بحاجة إلى التقدير أو التكهن، حيث يمكن مسك الوقائع. فقد أسست الدولة الصهيونية تصورها منذ هزيمة حزيران سنة 1967 على أن الضفة الغربية هي جزء من “أرض إسرائيل”، وأقامت كل الحلول على هذا الأساس. وكان همها هو الإجابة على سؤال: كيف يمكن ضم الضفة الغربية بدون سكانها؟ ولقد قامت هذه الحلول على إخراج هؤلاء السكان من بنية الدولة مع ضم الأرض، في إطار حكم ذاتي محدود. ومنذئذ عملت على السيطرة على الأرض، وبناء المستوطنات، حيث عملت على السيطرة على أخصب الأراضي، كما على المناطق الإستراتيجية في إطار سياسة تهدف إلى حصر السكان الفلسطينيين في كانتونات على أقل مساحة ممكنة. لهذا سيطرت على أكثر من نصف أراضي الضفة الغربية، وقسمتها إلى كانتونين، شمالي وجنوبي تفصل بينهما المستوطنات الممتدة من القدس إلى أريحا. وسيطرت على غور الأردن. ومن ثم عملت على بناء جدار العزل ليكرس حصر السكان الفلسطينيين في الكانتونين. إضافة إلى الطرق الالتفافية التي تخترق كل مناطق الضفة وتقع تحت سيطرة قوات الاحتلال، وأيضاً مئات الحواجز العسكرية في الطرق الرئيسية بين المدن والبلدات والقرى. وعملياً لم يعد ممكناً الحراك إلا تحت السيطرة الكاملة للقوات الصهيونية.
وبهذا تقلص حجم الأرض الزراعية التي يعتاش منها السكان الفلسطينيين إلى أبعد حد، وبات وضع الصناعة صعباً نتيجة تقلص مساحة السوق والحواجز التي تتحكم في النقل من مدينة إلى أخرى، ولهذا فهي تتدمر. ولقد استغلت الدولة الصهيونية الانتفاضة الثانية لكي تمنع العمل في “إسرائيل”، وبالتالي لتصبح نسبة كبيرة تعيش حالة بطالة.
وفي المجال السياسي يبدو أن المطلوب هو أن تتكيف السلطة مع صفتها المحددة في اتفاقات أوسلو، أي أن تكون سلطة إدارة ذاتية في إطار السيادة الصهيونية. لتخفف عبء الأمن عن الدولة الصهيونية، وهو الأمر الذي جعل بعض الإسرائيليين يطلق على الاحتلال في هذه المناطق: “احتلال ديلوكس”، لأنه يوكل كثير من مهمات الاحتلال للسلطة دون أن يقدم لها شيئاً، سوى الأموال المقدمة من قبل الدول المانحة، والتي باتت تشكل ضمانة لربط فئات السلطة بهم وبالدولة الصهيونية ذاتها. فتلك الفئات تعتاش من أموال الدول المانحة، لهذا فقد باتت معنية باستمرار السلطة من جهة، وبأن تقبل الشروط الصهيونية من جهة أخرى. ولهذا في مستمرة في مفاوضات ليس من هدف لها سوى أن تكون غطاءً لكل السياسة الصهيونية، العسكرية لتدمير المناطق وقتل المناضلين، وسياسة السيطرة على الأرض وتوسيع المستوطنات. في ظل ديماغوجيا المفاوضات والسلام.
وبالتالي لكي تقبل هذه الفئات التنازل عن حق العودة للاجئين، وأن تحله في صيغة “مرضية”، ربما عبر إكساب هؤلاء “جنسية” سلطة منقوصة، مع تعويضهم. وأن تكون “الطرف الفلسطيني” الذي يغطي على كل السياسات الصهيونية.
أما غزة فيمكن أن تلقى “في حضن مصر”، أو تحول إلى “إمارة إسلامية”، أو تعاد إلى دحلان، بعد أن تكون قوات الاحتلال قد دمرت وقتلت، وأنهكت السكان الفلسطينيين فيها.
ربما كانت المراهنة على الوضع الدولي، وخصوصاً على الولايات المتحدة، هي التي تهمش الرؤية الصهيونية، انطلاقاً من أن دعم المجتمع الدولي لـ “الشرعية الدولية” التي اتخذت القرار 242، والمطالب بانسحاب إسرائيل من الأرض التي احتلت سنة 1967، سوف يجعل الرؤية وكل الوقائع التي تقوم على أساسها ليست ذي بال. لكن كان يتوضح بأن هذه الشرعية تقف حينما يتعلق الأمر بفلسطين، وأن الولايات المتحدة ترفض كل القرارات التي تدين ممارسات الدولة الصهيونية، وبالتالي ترفض تطبيق أيٍّ من القرارات التي تضغط أو تجبر هذه الدولة على تطبيقها. ولهذا كانت تشكل الغطاء لكل تلك الرؤية، من السيطرة على الأرض إلى توسيع الاستيطان، إلى القتل والتدمير، إلى بناء جدار العزل …ألخ.
ولم تكن الممارسات الأميركية هذه خارج السياق، رغم أن المراهنات قامت على “دور أميركي فاعل في عملية السلام”، بل نبعت من رؤية أميركية لدور الدولة الصهيونية في إستراتيجيتها المتعلقة بالمنطقة. وإذا كانت كل الإدارات الأميركية تدعم الوجود الصهيوني بكل القوة الضرورية، فقد توضح بأن تفاقم أزمات الاقتصاد الأميركي، وبالتالي حاجة الولايات المتحدة للسيطرة على هذه المنطقة، فرض تبلور “تحالف إستراتيجي” علني منذ رئاسة رونالد ريغان. وهي الآن تندمج في المنظومة الأمنية العسكرية الأميركية كما أشرنا قبلاً.
ورغم “الرؤيا” التي حلت على بوش والمتعلقة بـ “قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل”، فقد تحددت الرؤية الأميركية في “وعد بوش” الذي وقعه لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ارئيل شارون، والذي ينص على إقرار الرؤية الصهيونية سواء فيما يتعلق بالسيطرة على الأرض أو باعتبار أن المستوطنات هي جزء من الدولة الصهيونية، أو أن جدار العزل هو الحدود السياسية لهذه الدولة. ويوافق على خطة الانسحاب الأحادي من قطاع غزة. وبالتالي الإقرار بحصر الفلسطينيين في كانتونات غير قابلة للحياة رغم أنه يصر على “دولة فلسطينية قابلة للحياة”، وبفصل قطاع غزة كذلك. وهو هنا يلغي إمكانية قيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويقرر الخطة الصهيونية كاملة.
ولتحقيق ذلك حدد الرئيس بوش في جولته في يناير 2008 عدة نقاط هامة، أولها الانطلاق من فشل الأمم المتحدة عن حل “النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”، وبالتالي اعتبار أن دورها لم يعد قائماً. وهو هنا يلغي كل القرارات التي أصدرتها بخصوص القضية الفلسطينية، من قرار التقسيم (القرار 181)، إلى قرار حق العودة (القرار 194)، إلى القرار 242 الخاص بالانسحاب من الأرض المحتلة سنة 1967 (وبالتالي من الضفة الغربية). وكل القرارات الأخرى ذات الشأن. لتنتهي “المرجعية الدولية”، وتكون الرؤية الصهيونية هي المرجعية الوحيدة. ولهذا فقد حسم الرئيس بوش مسألة اللاجئين بالقول بتعويضهم فقط، ملغياً حق العودة. ورغم أنه أشار إلى ضرورة الانسحاب من الأرض التي احتلت سنة 1967، إلا أنه أكد على تعديل الحدود، والإقرار ببقاء المستوطنات في الضفة الغربية. وبالتالي فقد كان، وهو يكرر بنود الوعد الذي إرتبط باسمه: “وعد بوش”، يحل هذا الوعد محل قرارات “الشرعية الدولية”، ليكون هو الحل الوحيد للقضية الفلسطينية.
إذن، الحل الوحيد المطروح هو “وعد بوش”. وهو الشرعية التي يجب أن تكون المرجعية. لكن هذا الحل يقوم على مبدأ آخر هو: “يهودية الدولة”. أي الإقرار العربي بأن هذه هي “دولة اليهود” وفق تعبير هرتزل. وهو ما يعني الإقرار بـ “الحق التاريخي”، لكنه يفتح على وضع خطر على السكان الفلسطينيين سواء في الضفة الغربية أو في الأرض المحتلة سنة 1948، لأنه يجعلهم أقلية غريبة عن أرضها، بل يقيمون على أرض ليست لهم.
والرئيس بوش لا يقرر ذلك نظرياً فقط، بل يعمل على تكريسه عبر الضغط على السلطة الفلسطينية وعلى النظم العربية لكي تقر به، وتؤسس عليه. وتقوم الإدارة الأميركية بكل الخطوات العملية لتحقيق ذلك عبر تكريس تحالف يضم هذه النظم مع الدولة الصهيونية. وبالتالي فهذه هي حدود الحل الذي يجب أن تقبل به السلطة والنظم معاً في إطار “تحالف” يجعل هؤلاء ملحقين بالسياسات الإمبريالية الأميركية الصهيونية. مع الإقرار بالدور الهيمني، ليس للإمبريالية الأميركية فقط بل وللدولة الصهيونية كونها فرعاً إمبريالياً لتلك الإمبريالية. ولقد عقد لقاء أنابوليس لتحقيق الخضوع العربي للدور الصهيوني، وتجري المفاوضات في المسار الفلسطيني لتقرير قبول السلطة بهذه الرؤية، رغم كل الحديث عمومي عن دولة فلسطينية.
وبالتالي فإن الحل في فلسطين يؤسس لنكبة جديدة. وهو نكبة للوطن العربي كله، لأنه مترابط مع الرؤية الإمبريالية لطبيعة التكوين الذي يجب أن يسوده، في ظل هذه الهيمنة. وما من شك في أن اختلال ميزان القوى (أو ربما انعدامه)، يوحي بهذه الخطورة، رغم الإرباك الأميركي في العراق، ودور المقاومة في لبنان، والنشاط المقاوم المحدود في فلسطين. حيث أن نذر الحرب تشير إلى محاولة لإكمال السيطرة لفرض التصور الإمبريالي الأميركي الذي يقوم على تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، ويجعل الدولة الصهيونية مركزها الاقتصادي والسياسي والعسكري.
لا أقول ذلك تهويلاً، وليس من أجل الإقرار بانتصار المشروع الإمبريالي، لكنني أعتقد بأنني أوصّف، وأشير إلى المخططات التي تستهدف المنطقة. والهدف هو وعي الوقائع من أجل بناء إستراتيجية جديدة تنطلق من الوقائع ولا تنطلق من الأوهام. برغم ضخامة الحدث، والتفوق الهائل في ميزان القوى. حيث أن تجاهل ميزان القوى هذا، والبناء على ميزان قوى وهمي لن يفعل سوى تأسيس إستراتيجية مضللة.
إذا كانت الإستراتيجية الفلسطينية التي أخذت تتبلور منذ سنة 1974 تنطلق من العجز عن مواجهة المشروع الصهيوني والدولة الصهيونية، الأمر الذي فرض الانطلاق من “الشرعية الدولية” كما جاءت في القرار ،242 بعد أن فرض النضال الفلسطيني بعد انطلاق المقاومة تحوّل منظمة التحرير الفلسطينية إلى ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، حيث أصبح الهدف هو الإفادة من “الضغط الدولي” من أجل انسحاب الدولة الصهيونية من الضفة الغربية وقطاع غزة، من أجل إقامة “الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس”. فقد تبيّن أن “الضغط الدولي”، حتى حينما كان الاتحاد السوفييتي قوة مهمة، يتوقف حينما تصل الأمور إلى الدولة الصهيونية. وبالتالي كانت السنوات منذئذ هي سنوات التنازلات المتتالية والتراجع العسكري والسياسي، وانهيار البنى المشكلة للمقاومة. ولأن نصل إلى حافة الهاوية التي نحن أمامها.
وإذا كان يصعب الفصل بين الدولة الصهيونية والإمبريالية (والأميركية الآن)، وبالتالي فإن كل الميل لتأسيس إستراتيجية خارج ذلك لن يؤسس إلا لأوهام، ويقوم إلى انهيارات وصدمات. فإنه يصعب كذلك الفصل بين دور الدولة الصهيونية والتصور الإمبريالي للسيطرة على الوطن العربي، وبالتالي فالدولة الصهيونية ليست حلاً للمسألة اليهودية بل هي مركز تجميعهم لتحويلهم إلى جيش في خدمة الإمبريالية.
وانطلاقاً من ذلك سوف نلمس أساس خطل الإستراتيجية التي قامت عليها المقاومة الفلسطينية منذ نشوء حركة فتح سنة 1959. حيث قررت فلسطنة الصراع، أي نقله من كونه صراع عربي ضد الإمبريالية والصهيونية إلى صراع بين الفلسطينيين والدولة الصهيونية. وربما من حق أي شعب أن يؤسس حركة تحرره، لكن مشكلة الفلسطينيين أن حركة تحررهم لم تنطلق من فلسطين، بل انطلقت من خارجها، أي من الأرض التي تحكمها دول عربية جرى الافتراض مسبقاً أن ليس لهم دور في النضال من أجل فلسطين، أو على الأقل لهم دور الداعم. فكيف يمكن أن تبنى مقاومة من أرض تحكمها نظم باتت ليست هي التي تواجه الدولة الصهيونية، رغم أن ردود الفعل الصهيونية سوف تطالها؟
ورغم انسياق مجمل منظمات المقاومة وراء هذه الإستراتيجية، حتى من كان منها قومياً، فقد بدا أن الهدف المركزي من تشكيل المقاومة هو تكتيل الشعب الفلسطيني خلف القوة المبادرة (أي حركة فتح) من أجل الضغط لكي تصبح هي الممثل الشرعي والوحيد، كما جرى سنة 1974. وبالتالي للضغط على النظم العربي وبها، وعلى المجتمع الدولي من أجل الحصول على دولة في حدود سنة 1967 فقط. فهذا أقصى ما جرى التفكير فيه، رغم كل الشعارات التي رفعت، والتطرف اللفظي الذي لف التجربة.
حيث أن تلك الإستراتيجية لا تؤسس لتحرير فلسطين لأنها تحصر النضال في الإطار الفلسطيني أولاً، وتؤسس على مراهنات خارجية، لها علاقة الوضع الدولي، وبضغوط النظم العربية.
وما من شك في أن الإستراتيجية الفلسطينية لازالت تدور في هذا الإطار. حيث يجري التمسك بـ “هدف” بان عن أنه وهمي ومستحيل (رغم أنه جزئي). وبدت قوى المنظمات الفلسطينية هشة وفاقدة الهدف ومرهقة. وتحول جزء كبير من كادرها إلى بيروقراط يعتاش على رواتب المانحين. ويخضع لسلطة فئة كومبرادورية لا ترى مصيراً سوى استمرار العلاقة مع الدولة الصهيونية. وجرى تجاهل اللاجئين، وفلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948، والبطش وممارسة كل أنواع النهب والفساد مع فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة. وبالتالي باتت الإستراتيجية الفلسطينية معلقة بإرادة المفاوض الصهيوني والداعم الأميركي.
ولقد سيطرت حركة حماس في الانتخابات الأخيرة لأنها بدت كقوة مقاومة من أجل كل فلسطين، لكنها أصبحت قوة سلطوية بلا منازع، وباتت تخضع المقاومة لأغراضها السلطوية. وتقبل ما كانت ترفضه لدى حركة فتح، أي دولة في حدود سنة 1967. الأمر الذي كرس انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية بما يخدم الرؤية الصهيونية التي كانت تعمل على التخلص من القطاع وقضم الضفة الغربية. وبدا أنها أيديولوجيتها الأصولية هي الحاكم وليس أيّ من النوازع الوطنية. ولم يعد هناك خيار للمقاومة سوى إطلاق صواريخ، لا تفيد سوى في الضغط الذي لا معنى له، أو كـ “فشة خلق”. وبالتالي دون إستراتيجية عسكرية بعد فقدان الإستراتيجية السياسية.
وضاع اليسار، حيث فقد طابعه الفكري، وتماهى هدفه مع هدف السلطة، وكذلك تقاربت سياساته. كما ضاع في اليومي، وفي التفاصيل الهامشية. لقد قلّد حركة فتح إلى أن بات ممزقاً، وأفضى فقدانه الهوية الفكرية إلى تسرّب كادره إلى السلطة أو إلى حماس. وبالتالي بات هامشاً ليس أكثر.
إستراتيجية جديدة:
هذا الوضع يفرض صياغة رؤية جديدة تنطلق من الواقع والوقائع. فلقد أثبتت سياسة سادت فشلها، وأفضت إلى نتائج مدمرة. رغم كل البطولات والتضحيات والنضال العنيد. وإذا كان الشعب الفلسطيني قد أسمع العالم صوته، فقد بدا مبحوحاً ومضطرباً. لكنه في كل الأحوال فرض القضية الفلسطينية على شعوب العالم.
ماذا يفيد ذلك إذا كانت قوى المقاومة قد انهارت؟ وإذا كانت السلطة الفلسطينية قد قدمت التنازلات باسم هذا الشعب؟ وإذا كانت لازالت تفاوض على أوهام؟
لقد أصبحت هناك قضية، لكن لم تجد من يتابع لتحقيقها. لهذا بات من الضروري بناء إستراتيجية جديدة، على الأقل على ضوء التجربة الطويلة الماضية، وانطلاقاً من وعي حقيقي بالواقع والوقائع. وإذا كانت بنى وممارسات وسياسات قوى المقاومة بدت هشة وتعاني من مشكلات عميقة، فإن أساس الرؤية كان خاطئاً، وربما أسهم ذلك في كل المشكلات الأخرى (مثلاً طبيعة العمل العسكري، والطابع البيروقراطي التي صيغت فيه كل التنظيمات، والشكلية وتخلف الوعي).
فالصراع هو صراع عربي ضد مشروع إمبريالي الدولة الصهيونية هي أداة فيه. وبالتالي يجب أن يتحدد دور الفلسطينيين ضمن هذا الإطار وليس في استقلال عنه. وهو ما يستدعي الفعل في الواقع العربي من أجل انتصار قوى مقاومة، حيث لن يثمر صراع دون القوى العربية والأرض العربية.
ويجب أن يكون واضحاً بأن هذا الصراع لا يحتمل الحل الوسط، ولا يحمل هذه الإمكانية بالأساس. فإما أن ينتصر المشروع الإمبريالي، وينهب المنطقة، ويصيغها وفق مصالحه، ويكرس النظم الملحقة به كنظم رأسمالية تابعة، أو تنتصر الطبقات الشعبية في الوطن العربي. وفي إطار هذا الصراع يمكن إنهاء الدولة الصهيونية، وإيجاد حل ديمقراطي للمسألة اليهودية في فلسطين. وحل كل أعراض القضية الفلسطينية، كقضية اللاجئين والأرض.
وإذا كان ذلك يفترض تغيير الوضع العربي، وهذا ما يحتاج إلى حوار عميق في الإطار العربي، فإن الوضع الفلسطيني يحتاج إلى تغيير كذلك، وهو يفترض إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية كحركة تحررية، وكجزء من حركة تحررية عربية، في سياق السعي لتغيير موازين القوى في الصراع ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني الكومبرادوري العربي.
هذه الإستراتيجية الجديدة يجب أن تقوم على المبادئ التالية:
1) إن إنهاء الدولة الصهيونية هو عنصر أساسي، بصفتها دولة تمثل المصالح الإمبريالية والرأسمالية العالمية، وكذلك بصفتها كيان استيطاني، ودولة تقوم على أساس الدين، وعنصرية. ويجب أن يكون واضحاً أن أي حل لا ينطلق من هذا الأساس لن يكون ممكناً، وهو وهم لأن هذه الدولة تمثل مجمل المصالح الإمبريالية في المنطقة وليست حلاً لما أسمي بـ “المسألة اليهودية”. وما دام التطور والوحدة في الوطن العربي لن يتحققا إلا في إطار هزيمة السيطرة الإمبريالية، يكون ضرورياً أن يُنهى وجود هذه الدولة.
2) إن هذا الحل يتطلب تحديد رؤية واضحة للمسألة اليهودية التي أصبحت مسألة عربية بامتياز. وهو يعني أن الحل يجب أن ينطلق من تأسيس دولة ديمقراطية علمانية، تقبل اليهود كمواطنين، ليس بصفتهم يهوداً بل بصفتهم باتوا يعيشون على هذه الأرض، و لكنه يفرض عليهم النضال من أجل إنهاء هذه الصيغة من الدولة الموصفة أعلاه، أي كونها جزء من المشروع الإمبريالي ودينية وعنصرية، لمصلحة دولة ديمقراطية علمانية.
3) إن إنهاء الدولة الصهيونية ينهي مأساة اللاجئين، الذين يجب أن يعودوا إلى أرضهم ويحصلوا على التعويض عن الضرر الكبير الذي لحق بهم. وأن تحل كل المشكلات المتعلقة بالملكية والسكن الناتجة عن ذلك من خلال مبادئ العدل، وفي إطار لا يفضي إلى نشوء أضرار جديدة. وربما تلعب الدولة الجديدة دور محوري في هذا المجال.
4) النضال يقوم على أسس وطنية طبقية، ويهدف إلى إنهاء الدولة كونها قامت على الاحتلال، وينهي سيطرة الرأسمالية كي ينقطع ارتباطها بالمشروع الإمبريالي، ولكي يكون ممكناً إعادة بناء الاقتصاد بشكل سليم، يستوعب المشكلة التي أوجدها الاستيطان. وهو جزء من النضال القومي الطبقي في الوطن العربي.
5) إن كل ذلك يفترض إعادة الترابط بين أشتات الشعب الفلسطيني، في الشتات وأرض 1948 والضفة الغربية وقطاع غزة، وأن يسعى لتوسيع الترابط مع كل السكان “اليهود” الذين هم معنيين بالصراع ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني. ونخصص هنا العرب الذين يدينون بالديانة اليهودية والذين هم جزء من تاريخ هذه المنطقة، ومن نسيجه الديموغرافي. لكن أيضاً مع الاشكناز المناضلين ضد طبيعة هذه الدولة.
6) وما من شك في أن هذا الميل لتحقيق الترابط يفترض العمل على تصعيد النضال من أجل حل “السلطة الفلسطينية” التي تتكيف مع الرؤية الصهيونية، وتحرر قوات الاحتلال من أعباء كبيرة، كما أنها –في استمرارها في المفاوضات التي هي دون جدوى- تعطي الغطاء الكامل للدولة الصهيونية لكي تستمر في السيطرة على الأرض وتوسيع الاستيطان في ظل “حياد دولي”، وربما دعم دولي كبير.
7) لقد غدت منظمة التحرير الفلسطينية بلا جدوى، وأصبحت غطاءً لسياسات السلطة، خصوصاً بعد “تعديل” برنامجها ليتوافق مع اتفاق أوسلو. وبالتالي غدت تحت سيطرة السلطة ذاتها، لهذا يجب تجاوزها لأنها لم تعد تمثل النضال الفلسطيني.
8) هذه الإستراتيجية الجديدة تستلزم قوى جديدة. وإذا كان من غير المنصف شطب الكل، والمصادرة على الجميع، يمكن التأكيد على أن فعل القوى ودورها مرتبطان بإعادة صياغة رؤاها وبناها بما يتوافق مع هذه الإستراتيجية. ولسوف ينتهي كل من سيبقى متكلساً ومتقوقعاً حول ما هو قائم. وبالتالي لا يجب المصادرة على أحد، لكن يجب التأكيد بأن الاستمرار مرتبط بالتغيير، وبالقدرة على إعادة بناء الذات بالتفاعل مع كل القوى الحية المعنية بذلك.
9) لليسار، وللقوى الماركسية دور مركزي في هذا المجال. وإذا كانت حركة فتح قد هزلت وتحول قادتها وكثير من كادرها إلى سلطة، ولم تثبت حركة حماس أنها البديل الممكن، وأن أوهامها الأيديولوجية هي أهم من المسألة الوطنية، وأنها لا تختلف من حيث المصالح والمآلات عن قيادات حركة فتح (وليس غريباً أن تكون هذه القيادات من أصول اخوانية كما حركة حماس)، فإن المبادرة يجب أن تكون من الماركسيين والقوى الماركسية. لكنها لن تكون جديرة بهذا الاسم إذا لم تنطلق من الواقع والوقائع، وبالتالي أن تؤسس على هذه الإستراتيجية. وأن تكون المبلور لها والفاعل فيها، والمؤسسة لتحالف واسع قادر على تحقيقها، والقادرة أساساً على تصعيد النضال وفق إستراتيجية حقيقية، تلحظ النضال الشعبي والطبقي دون أن تتجاهل الفعل المقاوم. تطور النضال ضد النهب والاستغلال الرأسمالي، كما النضال ضد الكيان الاستيطاني. وضد التمييز الديني والعنصري، كما ضد القتل والتدمير الذين تمارسهما الدولة الصهيونية. وتنطلق من أنها جزء من نضال الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء في الوطن العربي.
لم يعد ممكناً الاستمرار في الصيغة الراهنة للمقاومة التي فقدت فاعليتها وبات جزء مهم من كادرها كادراً لسلطة فاسدة وتزين الاحتلال. ولهذا لا بد من إعادة بناء جدية تطال الرؤية والأهداف كما تطال البنى والسياسات. وما من شك في أن الماركسيين هو المعنيون أكثر من غيرهم في هذا الإطار.