سورية والعراق: ثنائية الوحدة والانفصال
مطاع صفدي
في أدبيات النهضة العربية المعاصرة الموصوفة بالمغدورة مسلّماتٌ مرجعية للتحليل، قد لا يتناولها الفكر الناقد مباشرة، منها أن محور التغيير السياسي تستقطبه مصر، وأن محور الانتشار الأيديولوجي تحركه بلاد الشام إجمالاً، ومن عاصمتها التاريخية دمشق. لكن انعطافات المد والجزر التي شكلت التاريخ الواقعي للخمسين أو الستين عاماً الماضية، قد استحوذ عليها محور ثالث مكون من ثنائية القطرين الرئيسيين لمصطلح المشرق العربي، وهما سورية والعراق، فليس ثمة منعطف كبير من هذا التاريخ، لم يستقطبه محور هذه الثنائية، سواء في مرحلة موجباته الفكرية والحدثية، أو خلال تطوراته الواقعية، أو في نتائجه السلبية والإيجابية على مجمل المسيرة النهضوية. فالبلدان سورية والعراق، كانا بمثابة القاطرتين للحدث الفكري والسياسي، المتنافستين على الدور القيادي لتلك المسيرة؛ فقد يتحقق هذا الدور في حدود القطر، لكنه لا يكف عن شرعنة ذاته بالمرجعية القومية. فالمنعطفات الكبيرة في تاريخ القطرين المعاصر، كانت نابعة دائماً من ظروف صراع قطرية داخلية، لكنها طامحة إلى تسويغ عناوينها قومياً، سواء فيما يتعلق ببواعثها المباشرة، أو بأهدافها المتصورة تحت الأفكار الشمولية لثقافة النهضة.
سورية الثائرة دائماً خلال الحقبة الانتقالية ما بين فوزها بدولتها المستقلة كياناً معترفاً به عالمياً، لأول مرة منذ نهاية العصر المملوكي، وبداية الصراع على مستوى الآمال القومية، أصيبت بعقدة الانقلابات العسكرية، حتى أصبحت هي رائدة هذا النوع من التغيير العنفي الفوقي، في محيطها الإقليمي. هكذا ابتلي الحراك السياسي في فجر الاستقلال بازدواجية العمل الشعبي المنظم حزبياً من ناحية، ونقيضه التآمر الانقلابي وأداته الأولى الجيش.
لقد شرَّعت سورية هذه الازدواجيةَ الملتبسة التي سوف تسيطر على منطق المتغيرات السلطوية طيلة العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، بالنسبة لذاتها ولمعظم دول الاستقلال العربي الجديد. لا يمكن القول عن هذه الازدواجية أنها كانت واعية لما يُصطلح عليه بمفهوم التعارض بين القطبين المدني والعسكري. كلاهما كانا منخرطين تحت رايات الشعارات الشمولية المشتركة. وفي البداية كان الضباط الانقلابيون أعضاء في الأحزاب المدنية أو مناصرين لها. وبالتالي كان يأنف الانقلابُ من صفته العسكرية،إذ يعتبره أصحابه ثورة شعبية على طريق الأهداف القومية أو الطبقية الشاملة. فلم يكن الاستيلاء على الحكم غاية في ذاته يرتضيها (الثوار) العسكريون أهدافاً فعلية مضمرة أو معلنة لتحركاتهم أو مغامراتهم الجريئة السلمية، كنوايا في البداية، ثم الدموية في المحصلة الدرامية للحقبة الانقلابية بكاملها.
سورية والعراق متصاديان في معظم التحولات السابقة على مرحلة الاستقرار لنظاميْ الحزب الواحد الحاكم منذ أربعة عقود أو أكثر. دلالة التصادي هنا لا تعطي الأولوية لانبعاث الحدث من قطب، وارتجاع الصدى من القطب الآخر المقابل، لا تفترض التكامل أو التوحد فيما ينتظرهما معاً. فهما لا يكادان يتشابهان في واقعة انقلابية متناظرة الحدوث بينهما حتى يختلفا عبر مجريات الحدث إلى درجة الافتراق والتصادم. فالمتأمل في جملة هذا العصر الفوار بانكسارات الانتصارات، أكثر مما بثمراتها الايجابية النادرة، لا يسعه إلا التسليم بذلك الحكم التراجيدي، الذي يحمّل هذين القطرين المسؤولية التاريخية، كما عن ريادة النهضة المعاصرة بمنهج الخطأ والصواب، كذلك عن تبديد معظم محاولاتها الاصلاحية العامة، وذلك تحت وطأة الصراعات الشخصانية والفئوية، في القمم كما في القواعد، المتنقلة بين الحزب والدولة، والمترسبة أو المنتشرة أخيراً في رحاب المجتمع الذي عليه أن يدفع الأكلاف الباهظة وحده.
لقد انطلقت النهضة من مسلمات شعبية، كانت الطلائع المتحركة ترى من خلالها مستقبل الخطط العامة لمشاريعها، دون تدقيق موضوعي بإمكانيات الواقع الفعلي لمنظماتها المدنية أو (الثورية). كان الانفعال بالشعار يخلق قوى مادية حقيقية على الأرض. فقد دخلت الجماهير فجأة على كل الخطوط السياسية العامة، سواء المتاحة لها مباشرة للتعبير عنها، أو تلك الممنوعة أو المحجوبة. إذ فهمت الجماهير أن الاستقلال يعني لها ذهاب سلطة المنع والقمع من قبل الأجنبي وقواه القاهرة. فهي إذن قادرة على تحقيق أهدافها بإمكانياتها التي تشعر بخصبها وإن لم تحدد لها بعد قوالب الإخراج والتصنيع. كانت جماهير خمسينيات القرن الماضي تشكل في حد ذاتها قوى السيل المحجوز منذ قرون وراء سدود القهر والتخلف والجهل. إحساس الجماهير بقوى حريتها الجديدة كان هو المعادل اليومي لكلمات العروبة والوحدة والعدالة ومقاومة الصهيونية والاستعمار.
أصبح المشرق العربي (المستقل) بركاناً إنسانياً جماهيرياً لا يحسب حساباً لأية عقبات قد تستلبه حريته مجدداً. ذلك ما يفسر الشعور الشعبي العارم الذي لم يكن يفصل بين الاستقلالين الوطني (القطري) والقومي الشامل. كأنما تحقيق الأول، وقد حصل، هو المدخل الفوري إلى الثاني. كان ثمة يقين عفوي كياني بالأمة الواحدة ما فوق كل خارطة تجزئة استعمارية مصطنعة. فالوحدة الإنسانية قائمة دائماً منذ فجر الإسلام حتى اليوم، وهذه الوحدة سابقة على الشكل السياسي أو الدولاني، وهي المنوط بها تجسيد إمكانياتها الدولانية، والاقتصادية والثقافية، ليس كأسباب ودواعِ لقيام الوحدة فحسب، بقدر ما هي من خصائصها المفهومية مبدئياً. لم تكن هي الوحدة النظرية أو الشعارية أو السياسوية تلك التي عاشتها جماهير الحرية الاستقلالية المكتسبة ما بعد ألف سنة من عبودية العطالة الكينونية،من قهر التاريخ وظلمه؛ فقد كان المشرق العربي آنذاك موشكاً على اجتياح جماهيره لخارطة سايكس بيكو. ذلك أن طرد الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية من هذه المنطقة، كان له مدلوله الشعبي المباشر، وهو أن تُطرد وراءهما خارطتُهما البائسة تلك. كاد المشرق العربي أن يعود إلى خارطته الأزلية: بلاد الشام وما بين النهرين.
هكذا يعود إلى المشرق اسمه الإنساني المحجوب وراء صفته الجغرافية: بلاد عرب الشمال. هؤلاء الذين شاركوا عرب الجزيرة (الجنوب) بإنشاء الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي ما بين جناحيها الأموي في الشام، والعباسي في بغداد. لكن التاريخ لن يعيد نفسه هذه المرة إلا مختلفاً على الأقل من حيث الشكل، وليس في المضمون أو الجوهر. فالخنجر الصهيوني تغرسه الإرادة الدولية في لحم هذا المشرق قبل أن يُتاح لحضارة الوحدة أن تلمَّ جناحيها ما بين الشام وبغداد. ذلك أن الغرب مصمم على إِظلام الشرق. يخرج صليبياً قبل قرون من بعض سواحله، ليعود إليه استعمارياً، حداثياً علمانياً (؟)، ثم ليُطرد منه بفعل تناقضات قواه الدولية عينها، لكنه لا يفعل كل ذلك إلا ليرتد عليه عبْرياً صهيونياً،في موجته الثالثة الراهنة.
أحادية عرب الشمال ذاتياً ثقافياً أضحت تعبّر عنها ثنائيةُ القطرين، سورية والعراق، جيوسياسياً. فبين الصيغتين هاتين كُتبت مسيرة الفصم والخلع والتفكيك التي تمارسها الصيغة الثانية الجيوسياسية ضداً على أسبقية الأولى وجوهريتها. أمسى المشرق ملاعب الأجنبي ضداً على الأهلي فيه. بدلاً من انفجار طاقة الوحدة، المكبوتة تحت جلده، بركاناً صاعداً، قاذفاً بحمم التغيير في خرائط الهشيم من حوله، راحت تعمل نكساتُ الانقلابات (الذاتوية والشخصانية) بالتحالف مع هزائم الحروب العبرية، على فَرْقعة هذا البركان، بقلْب فوهته نحو قاعدته المجتمعية. فبعد أن أعادت أمريكا البوشية بدايات الاستعمار الغربي الهمجي للقرن التاسع عشر بأسلوب الغزو العسكري التدميري لكيان العراق كدولة وحضارة، انتكس النزوع الوحدوي المشرقي منعكساً الى نقيضه: التفتيت الأهلوي. كأنما المجتمعات المهزومة المحرومة من حرياتها الطبيعية، العاجزة عن دحر الأجنبي المتسلط بقواه التدميرية مباشرة هنا، أو بواسطة أتباعه من أصحاب أنظمة القمع المحلية، هناك، يدفعها يأسها المستديم من التغيير وأهله ونظرياته وتطلعاته المحبطة، إلى الارتداد على ذاتها، وابتعاث حمولات أحقاد فرعية دفينة ما بين مكوناتها الاتنية والمذهبية وحتى الجهوية. هكذا تطفو الطحالب العفنة على سطوح المستنقعات الراكدة، بعد أن كانت ينابيع وسيولاً هدّارة متدفّقة نحو التلاحم في الخضم الأوسع من آمال الأمم العظيمة المؤمنة بالعدالة والحرية والسلام، وقد باتت مدحورة متشظية بأحقاد أبنائها.
كانت ذروة الاندفاعة الاستقلالية، المغدورة سريعاً بالخنجر الصهيوني المغروس في خاصرة المشرق المستيقظ على وعود النهضة الجديدة الحداثية، كانت الذروة في إعلان ‘الجمهورية العربية المتحدة’، في بناء هذا الجسر التاريخي، القافز فجأة ما فوق طعنة الخنجر الصهيوني ذاك في الجنوب الشامي. فقد امتد عالم (الشآم) الأزلي إلى عمق الأرض المحروسة، إلى شواطئ النيل الخالد. كان ذلك هو برهان المدّ الوحدوي على نجاعته الواقعية عندما استطاع أن يبدع ردَّ التاريخ الحر على افتعالات الخرائط الجيوسياسية. لقد قامت جمهورية الوحدة الأولى في هذا العصر بعد عشر سنين من اصطناع إسرائيل قلعةً رامزةً لعودة موجة الاستعمار الجديد المصوّب إلى قلب العروبة، النابض آنذاك بقوة الخضم الوحدوي الذي عمَّ جميع أصقاع الوطن العربي، وما وراءه العالم الإسلامي كله، بل إنسانية النصف الثاني من القرن العشرين، إنسانيته المضطهدة تحت العسْف الغربي، المصنفة في خانة العالم الثالث. تلك هي بعض من ذاكرة ما يسمى بيقظة الجماهير العربية على مستوى الاندفاع العفوي نحو التحقيق الفوري للوحدة الاندماجية غير المشروطة. لقد فهمت الجماهير العربية في مكان تأسيس النهضة المتحررة، يعني بناء الدولة الواحدة الموعودة لجميع شعوبها. فالهدف القومي الحضاري الشامل أصبحت له حقيقته العيانية. لم يعد مثالاً مؤجلاً نحو أبعد مستقبل. أو أنه مجرد إيمان يوصف تارة بالصوفية أو المثالية وحتى الخيالية.
ذلك هو صميم الرعب الصهيوني والغربي عامة: أن ينبعث ذات يوم كيانٌ دولاني يغطي ثلثي سواحل المتوسط شرقاً وجنوباً. ويضم ثلاثمائة مليون إنسان حر، وتمتلئ أعماق أراضيه بأثمن الثروات الاستراتيجية العالمية. غير أنه خلال الخمسين عاماً الماضية لم تبق ثمة وسيلة تدميرية لحرمان الوحدة من جماهيرها، من قواعد قواها الإنسانية المتوفرة، إلا وكانت هدفاً يومياً لذلك الرعب الدهري والميتافيزيقي، كيما يتمّ استئصال أسبابه. فتنقلب حركةُ تاريخانيةِ هذه الجماهير من التكامل والتضامن بين إمكانياتها الفردية والمجتمعية والمادية عامة، إلى العكس تماماً، نحو التشظيّ والإمعان في انفراط كل عقد كانت تراهن عليه فلسفة النهضة.
ليست هي ذاكرة الماضي، بل قصة كل كارثة آنية. فمن سخرية الأقدار حقاً أن الأمة العربية الموجودة والقائمة دائماً والواحدة في كل خصائصها سلباً أو إيجاباً عجزت عن كسر حصارها تحت واقع الخارطة الجيوسياسية، صنيعة الغرب حارسها الأبدي. في حين أن أوروبا الحافلة جغرافُيتها وتاريُخها بأصناف الأمم المتقاتلة المتناقضة المتعادية بالوراثة والاكتساب، انتصرت أخيراً على سجونها القوموية والقارية، وصنعت كيانها الاتحادي بقوة المصلحة الشاملة، والحضارة المتجانسة.
لأن أوروبا هي المنتصرة باتحادها هذا، فلا تزال تقف بالمرصاد للوحدة العربية، منذ أن جعلت من ذاتها الحارسة الأمنية على الخنجر الصهيوني ضارباً في عمق الجذر الوحدوي للمشروع النهضوي العربي. لكن وجدانها قد يستيقظ قليلاً ضد (الاستيطان). ترى أين سيكون موقعها عندما يستعيد العرب مبادرة الصراع الحتمي بين التهويد الشامل الزاحف والتعريب الممنوع إعتباراً من فلسطين، كمقدمة ضرورية لمنعه عن أقطار الوطن واحداً بعد الآخر…
وللحديث صلة…
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي