في الخلافات السورية العراقية، إبحثوا عن الأستراتيجيات الخفية
صباح علي الشاهر
منذ أن شاءت مشيئة النهب الاستعماري أن تكون سوريا من حصة فرنسا، والعراق من حصة بريطانيا، والعلاقات بين الكيانين اللذين رُسمت حدودهما وفق منطق تقاسم الغنيمة بين مدّ وجزر.
كانت القطيعة وما زالت هي السمة البارزة بين الدولتين وبين النظامين والسلطتين، اي كانت هاتين السلطتين، ومما يزيد في الأمر غرابة أن ليس ثمة شعبين متقاربين كشعبي سوريا والعراق، وقد قيل إذا أنت بغداد نحبت دمشق، وإذا فرحت دمشق، زغردت بغداد، كان الأمر هكذا وما يزال، وأعتقد أنه سيبقى.
الغريب في الأمر أن العلاقة بين الدولتين إتسمت وما زالت تتسم بتلك الحقيقة المرّة، التي مفادها أن أيام الصفا بين بغداد ودمشق سحابة صيف، وأيام الاحتراب هي التأريخ الحقيقي للعلاقة بين البلدين. عُزلت سوريا عن العراق، ومُنع العراقيون من دخول سوريا طيلة خمس وثلاثين عاماً هي عمر حكم حزب البعث في العراق، وهو نفس الحزب الذي حكم وما يزال يحكم سوريا. حدثت القطيعة والحكم في البلدين لحزب واحد، ينهج نفس النهج، ويتمسك بنفس المفاهيم والقيم. يرفع نفس الشعارات ويدين بنفس الأيدلوجية، وكانت هذه المرحلة أشد مراحل العلاقة السورية العراقية صراعاً واحتراباً، وصل لحد تآمر الطرفين بعضهما على بعض.
قبل هذا التأريخ كانت ثمة علاقة متذبذبة يغلب عليها الصراع أثناء حكم القوميين (عارف الثاني تحديداً) وقبل ذالك كان الحكم الجمهوري على خلاف مع سوريا الناصرية، وقد تحسنت العلاقة بين سوريا والعراق بعد الانفصال لفترة قصيرة لتعود للاحتراب مجدداً بعد شباط 93، وبالأخص بعد استلام المرحوم عبدالسلام عارف للحكم، أما في فترة الحكم الملكي فقد أتسمت العلاقة بسمة الاحتراب والتناحر، الخفي غالباً والظاهر أحياناً، وبالأخص في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما كانت بغداد مركزاً لما عُرف بحلف بغداد، وكانت سوريا تناصب التبعية والأحلاف العداء.
لو حسبت سنوات القطيعة بين البلدين لكانت أطول قطيعة بين بلدين جارين في التأريخ المعاصر، أطول حتى من القطيعة بين كوبا وأمريكا، التي تجاوزت النصف قرن!
ألا يحتاج أمر كهذا الى وقفة تأمل؟
يُقال أن ثمة إستراتيجية خفية متفق عليها بين من تحكموا ويتحكمون بمقدرات الأمم والشعوب، تنص هذه الإستراتيجية على الحيلولة دون السماح بعلاقات سوية وسليمة بين العراق وسوريا.
كثيرة هي الأشياء التي تجمع الشعبين، وكثيرة هي المصالح المشتركة بينهما. إن شبكة المصالح المشتركة أشد وضوحاً بين سوريا والعراق مما هي بين أي بلدين آخرين في المنطقة. سوريا والعراق وطنان في وطن واحد، أو وطن واحد في وطنين، وشعبان في شعب واحد، أو شعب واحد في شعبين.
يمكن بسهولة، إذا خلصت النيات أن تكون سوريا والعراق مثالاً للتكامل الشامل في كل المجالات. هذا التكامل الذي هو ضرورة موضوعية لا مندوحة عنها لإحداث تنمية حقيقية في كل منهما.
عبر هذا التكامل المُرتجى سيصبح العراق مطلاً على المتوسط، وتصبح سوريا مطلة على الخليج. وليس أمراً من دونما مردود اقتصادي للعراق وسوريا نقل نفط العراق عبر الأراضي السورية، وتوزيعه من موانئ سوريا إلى أوربا والأمريكيتين، ولا يقل أهمية عن هذا وذاك إتفاق البلدين على كيفية استثمار مياه الفرات بينهما، وسعيهما المشترك لحفظ حقوقهما بالنهرين العظيمين، وغير هذا كثير.
فيما مضى استلزمت مصلحة الشركات الأمريكية والإنكليزية والفرنسية والهولندية التي كانت تحتكر استخراج وتسويق وتصنيع النفط إنشاء خط بانياس الناقل للنفط، وهو الخط ألأقصر، والأقل كلفة، والأكثر نجاعة. ربما يكون هذا هو العمل الوحيد منذ استقلال البلدين الذي يضع لبنة أولية على طريق التكامل وتبادل المنافع بين البلدين، وهو وإن جاء عرضياً إلا أنه يُعد إنجازاً على صعيد العمل الاقتصادي المشترك، ولكن الغرابة كل الغرابة، إنه بعد أن أصبح النفط بيدنا إستخراجاً وتسويقاً قمنا، وبسب الاختلافات السياسية بين النظامين البعثيين، بغلق هذا الخط، وبناء خط أخر، أطول وأكثر كلفة، وأعلى إنفاقاً، أسميناه ويا للسخرية الخط الاستراتيجي، ثم قمنا بعد ذلك بمد طريق صحراوي عبر صحراء الجزيرة العربية وحتى ميناء ينبع، قيل أن هذا الخط كلف العراق ملياري دولار بحسابات ذاك الزمن، وبعد فترة قصيرة، ولأسباب سياسية أيضاً تم إغلاق هذا الخط من قبل الشقيقة العربية، وتمت مصادرة ما فيه من نفط، ومن ثم مصادرته بذريعة التعويضات. كم خسر العراق من هذا؟ وكم خسرت سوريا؟ كم بددنا من المال، وكم أضعنا من الوقت؟ على الساسة في البلدين الإجابة على مثل هذه الأسئلة.
هل كتب على سوريا والعراق أن يكونا مختلفين دائماَ؟ مختلفان عندما يكون أحدهما رجعي والأخر تقدمي. ومختلفان عندما يكون كليهما رجعيين، أو تقدميين، مختلفان عندما يكونان تحت الاحتلال، ومختلفان عندما يكونان متحررين منه، ولا يكونان متفقين إلا على شيء واحد، ألا وهو أن يكونا مختلفين على طول الخط!
يا رجال السياسة في العراق وسوريا، لم يعد من المسموح به اللعب بمصائر الشعوب والأوطان، ألم تعرفوا بعد أن سوريا عصيّة على أي نوع من أنواع الهيمنة، وأن العراق أكبر من أن يُبتلع.
ميدل ايست اونلاين