موضة المحاكم الدولية
نهلة الشهال
لتفجيرات «الأربعاء الدامي» في بغداد، كما بات يُسمّى، خاصية. ليست عدد الضحايا. ففي العديد من التفجيرات السالفة، وهي بالآلاف، أزهقت أرواح كثيرة تعادل هذه أو تفوقها. ولكن الهجوم الذي وقع يوم 19 آب / أغسطس الماضي استهدف دفعة واحدة مباني حكومية عدة لوزارات رئيسية، وليس موكباً حسينياً أو تجمعاً مدنياً. كان هجوماً على السلطة وتهديداً للحكومة وللسيد نوري المالكي. وكان منسقاً، واستخدمت فيه المدفعية والصواريخ، واستفاد من تواطؤ إجباري لضباط ومسؤولين، سهلوا للمهاجمين المرور بسياراتهم المفخخة.
وعلى الرغم من بيان تنظيم «دولة العراق الإسلامية»، الفرع العراقي لـ«القاعدة»، الذي ادعى بأنه نفذ «الغزوة» (هكذا!) في بغداد، وزلزل الأرض، فمن المرجح أن هؤلاء يستغلون يُتْم تلك العملية لتبنيها. ولعل أهم ما في هذا البيان ليس الادعاء نفسه، وهو لا يستقيم بالنظر إلى طبيعة تلك العملية، بل خاتمته ونتيجته التي تقول: «ولئن أبيد أبناء دولة الإسلام عن بكرة أبيهم خير لهم من أن يحكمهم رافضي خبيث أو أن تستظل بغداد برايات الصفويين يوماً واحداً». دعك من الكلام الطائفي. كان يفترض بكل القوى السياسية والدينية على امتداد العالمين العربي والإسلامي، وبخاصة منها تلك التي تتشارك و«القاعدة» في البيئة الاجتماعية والفكرية، أن تتوقف أمام نية الإبادة الكاملة، وهي معلنة وقطعية، وأن تدينها بحزم لا يترك مجالاً للشك. لم تفعل، مثلما تقدم كل من يشارك «المجلس الأعلى» وآل الحكيم بيئتهم الاجتماعية والفكرية بالتعازي بوفاة السيد عبد العزيز، بما يتجاوز آداب الموت ليصبح الرجل «مجاهداً» وخسارته لا تعوض. وهو ـــ رحمه الله ــــ كان من أركان ومن رموز دعم الاحتلال الأميركي وإثارة التوتير المذهبي، ناهيك عن خصال أخرى مشابهة. وهذا استطراد عن موضوعنا، ولكنه ضروري: فما دام «التضامن» يستمر على قاعدة الانتماء المذهبي قبل أي شيء، وما دامت المقاييس تضيع في لجّة «اللائق سياسياً»، ومراعاة العلاقات العليا أو تلك الوظيفية، فلن تقوم قائمة لا لمقاومة وطنية وتحريرية شاملة، ولا لأي تصور عام ذي أفق.
حسناً، لما أخذت الأمور منحى الأزمة الصاعقة مع دمشق، ولما الصراخ بأن الحكومة العراقية تصرّ، وتهيّئ لطلب تدخل مجلس الأمن، وإنشاء محكمة دولية للنظر خاصة بحادثة «الأربعاء الدامي»؟ يعلمون أن ذلك صعب وشائك، كما قال وزير الخارجية العراقي. يعلمون أنه ليست لديهم قرائن كما ردّت دمشق. يعلمون أنه لا يمكن قطع الجريمة المذكورة وعزلها، رغم تميّز خاصياتها، عن سائر الحالة القائمة في العراق الغارق بدماء أبنائه. ولكنهم بموقفهم هذا، يستفيدون من الاهتمام الإقليمي المثار، حيث هرعت طهران وأنقرة، كلتاهما، وهما باتتا مراجع هندسة الموقف في هذه المنطقة من العالم، إلى التوسط وتطييب الخواطر. أي أنه نوع من الهروب إلى الأمام، والبحث عن مخرج لائق، عوض الغرق في الدلالة الطاغية على الحادث: أنه نتاج صراع داخلي لأركان الحكم في ما بينهم. وثمة مبررات للضغط على المالكي وإبراز فشله في الإمساك بالأمور وحده، لا سيما أنه أمعن، فرفض الانضمام إلى «الائتلاف الوطني العراقي الموحد». وهذا أعيد تأليفه لخوض الانتخابات النيابية مطلع العام المقبل، بينما المالكي يرى أنه خرج المنتصر الأكبر من انتخابات مجالس المحافظات مطلع العام الجاري، وأن المجلس الأعلى، منافسه في بيئته الاجتماعية والفكرية (ها قد عدنا إلى هذه)، قد مُني بهزيمة ماحقة تجعل كابوس شبه التعادل العصيب الذي استمر وقتاً بينه (المالكي) وبين عادل عبد المهدي، لتعيين المرشح لرئاسة الحكومة، مجرد ذكرى آفلة.
يتفلت المالكي من الإطار الذي رعى وصوله إلى موقعه، ويثير امتعاض وريبة بعض الأوساط الإيرانية المعنية تقليدياً بمتابعة الموقف العراقي. وهو يعبّر عن طموح هائل، ويتصرف على هديه، في بلد تحكمه المحاصصة السياسية، العرقية والمذهبية، فيسمي لوائحه الانتخابية «دولة القانون». ولكنه لا يمتلك على الأرجح مقومات تحقيق طموحه. وهي تتطلب رؤية سياسية شاملة، واتجاهاً لاستنفار الوطنية العراقية ولترجمة الإحساس بالخطر الوجودي الذي يتهدد العراق إلى برامج فعلية. وهذه كلها، عدا صعوبتها الفائقة موضوعياً، وبخاصة في شروط العراق، تفترض تحقيق مصالحة وطنية، ليست فوقية وشكلية، وليست لفظية، بل تأسيسية. والأهم أن مدخلها ومنطقها ليس تحقيق الغلبة، بمعنى الإمساك بالسلطة، في بلد كالعراق اليوم. وكل هذا يتطلب لا علاقة للمالكي وجماعته به، وهو يخالف طبيعتهم. ولتجنب مواجهة محنة حدودهم، كما أرادت رسمها تفجيرات «الأربعاء الدامي»، جرى افتعال الأزمة وإحاطتها بكل الصخب اللائق بها. زوبعة في فنجان؟
الاخبار