النظام السوري والإرهاب في العراق
عبد الرزاق عيد
سبق لنا أن كتبنا عن ما سميناه بـ” العطالة البنيوية” للنظام السوري واستحالة إصلاحه، وقد قدمنا مداخلتنا حول هذا الموضوع في محاضرة لنا بدعوة من معهد هيدسون في واشنطن،وذلك في سياق مناقشتنا لتوجهات الحزب الديموقراطي وأوباما لإعادة النظر في السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط… قدمنا مداخلتنا حول هذا الموضوع في محاضرة لنا بدعوة من معهد هيدسون في واشنطن،وذلك في سياق مناقشتنا لتوجهات الحزب الديموقراطي ورئاسة أوباما لاعادة النظر في السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط…
هذا العنوان (العطالة واستحالة الإصلاح) يشكل الأطروحة المركزية لبرنامج “إعلان دمشق” التي نسيها الكثيرون من الذين أعلنوا اتفاقهم مع الإعلان وانخرطوا في صفوفه جماعات وأحزاب وشخصيات، ومظهر هذا النسيان يتمثل بإعلان وإظهار تصديق –بغض النظر عن توفر القناعة والإيمان بذلك أو عدمه- أن النظام يمثل حالة وطنية مقاومة أو ممانعة، ولعل هذا اللبس هو مصدر ذلك الركود والتعثر والتشوش والتخثر الذي يعيشه الحراك الديموقراطي في سوريا، ولهذا كان لابد لنا من البحث عن صيغة تأصيلية نظرية تؤكد هذه العطالة وتعللها، ولعل اعتماد نظرية الثقافة عن “وحدة الأنساق” المقارنة تساعدنا في الكشف التجريبي عن (المناعة بل والممانعة الداخلية للنظام عن ممكنات التغيير من داخله) إلا بكسر النسق والمثال التجريبي على ذلك هو صنوه (النسقي / البعثي العراقي) السابق، الذي ما كان له أن ينهار دون كسر النسق، لكن كسر النسق تطلب كلفة ثقيلة كان على العراق بكليته أن يدفعها على طريق انهياره كدولة…
وعلى هذا لا بد للحراك الديموقراطي السوري من البحث عن كسر النسق: لا بالمراهنة على إصلاحه المستحيل من الداخل، ولا عبر كسره السهل من الخارج –وهو سهل لأن نسقه ليس أكثر صلابة من نسق البعث العراقي- وذلك من خلال انتاج وعي سياسي لا يرى ممكنا للتحرر الخارجي من الاسعمار بدون التحرر السياسي الداخلي من الاستبداد، حيث قيمة الحرية في ذاتها، إذ هذه القيمة توحد صورة منتهكها إن كان غازيا أجنبيا أم جلادا داخليا، فالجريمة هي الجريمة والمجرم هو المجرم بغض النظر عن هويته….
وعلى هذا فلا يحق للنظام السوري أن يبرر اعتقاله لأبناء شعبه أمام العالم، بأن إسرائيل تعتقلهم أيضا وذلك كما يفعل إعلامه دائما في مواجهة طلب الغرب لهم باحترام حقوق الانسا ن، فيحتجوا مترافعين وماذا عن حقوق الإنسان في إسرائيل؟ فهم –والأمر كذلك- أولى بأسر شعبهم من اسرائيل…أو كما يقومون اليوم بالتساؤل عبر رئيس مركز بحوث مخابراتهم على الفضائيات، لماذا يثار الحديث عن قتل المئات من العراقيين دون الحديث عن الاحتلال الأمريكي…ومن هنا دهشة الرئيس الوريث لطغيان أبيه (الأسدي) و احتجاجه على (لا أخلاقية العراقيين) الذين لا يقدرون أخلاقية (القتل القومي) الإنقاذي للشقيق العراقي من الاحتلال الأمريكي…! والدهشة (الأخلاقية) هذه تتأسس على أخلاق ثقافة النسق البعثي الذي يملك ويحكم “الدولة والمجتمع” وفق الدستور السوري…وعلى هذا فهو حر في رقاب الدولة والمجتمع..وهكذا يغدو التساؤل بدهيا…كيف تحتجون على قتل الأشقاء وهم بالمئات، بينما تموتون أيها العراقيون بالآلاف… فهل توقف الأمر على مئاتنا ونحن أشقاء…فأية لا أخلاقية هذه…! هذه الدهشة استمرار نسقي للثقافة (الثورية) البعثية، الذي سبق وأن عبر عنها (عمهم صدام) حين قال للشيوعيين العراقيين مندهشا : كيف تحتجون على إعدامنا لبضعة من رفاقكم لاالشيوعيين، بينما نحن نعدم العشرات من رفاقنا البعثيين…! وهي المدرسة ذاتها التي تخرج منها الأب (الأسدي) إذ بدأ معروفه الثوري (التصحيحي) بالأقربين من الرفاق البعثيين الذين هم الأولى بالمعروف (النضالي) الوطني سوريا، ومن ثم القومي (فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين) اعتقالا وتصفية واغتيالا…!
ولقد تلخصت مطالبنا للأمريكيين في دعوتهم للانسجام مع مشروعهم (الديموقراطي اليساري) في سياساتهم الدولية والعالمية بما فيها الشرق أوسطية،في أن تكون مسألة نشر الديموقراطية هي قضية الديموقراطيين أكثر مما هي قضية اليمين الأمريكي من خلال أداء (بوش)، ويتكثف مطلبنا من المنظور الوطني الديموقراطي كسوريين أن لا تطغى مصالح أمريكا الدولة على حساب البعد الديموقراطي والأخلاقي في سياساتها نحو حريات شعوب العالم، كما كان يؤكد أوباما في حملته الانتخابية، حيث دعونا إلى ضرورة اشتراط الحوار الأمريكي مع النظام السوري بشروط تتصل بمسألة الحريات وحقوق الانسان في سوريا التي تنتهكها العصابات الحاكمة باستهتار لايشبهه الا ما كان سائدا لدى نظامهم الشقيق البائد في العراق استنادا لوحدة النسق الكري والسياسي والإيديولوجي البعثي،طبعا ويكفي في هذا السياق تقديم مثال رياض سيف الذي يمارس عليه حكم الاعدام البطئ عندما لايسمح له بالعلاج من مرض قاتل…
طبعا نحن نعرف أن دعوتنا هذه لانتاج التطابق بين السياسة والاخلاق بين مصالح الدولة وبين القيم الكونية لحقوق الانسان، لاتعني أننا ننتظر الحرية من الآخر،لكن دون أوهام مقيته أصولية سياسية قومية أويسارية…عن صناعة ايديولوجيا التناقض الدائم بين حرية الأنا وحرية الآخر… أي أننا ليس لدينا أوهام بأن السياسات الأمريكية تشتغل تحت طلب معارضات الأنظمة الدكتاتورية في العالم،وأن الجيش الأمريكي لم يقتحم أسوار بغداد استجابة لطلب المعارضة العراقية أو نصائح أحمد جلبي…
إننا كديموقراطيين سوريين نهتدي بما نحن محكومون به كمعارضين (محكومون بالحرية)، دون أن نشغل بالنا بالنتائج لمسعانا انطلاقا من دلالة وضع السلطة أو وضع المعارضة إن كان قد أبقى منها النظام أحياء أم لم يبق، كما يعلن مثقفو السلطة الطائفية و كتابها الطائفيون أفراحهم وابتهاجهم اليوم بانتصارات سلطتهم على شعبهم ومجتمعهم، عبر التساؤل الشامة عما تبقى من المعارضة…ليحيلنا هذا التساؤل إلى السؤال –لكن الحزين وغير الشامت –ماذا تبقى من المثقفين الذين يتحدرون من الطائفة التي يسعى النظام للتماهي بها ومعها، ما ذا تبقى منهم خارج تجربة المماهاة هذه !..نكتفي بهذه الإشارة دون أن نخص هذا الأمر –حتى الآن- مناقشة خاصة ومستقلة لمحبة واحترام في داخلنا نحو البعض ممن يعدون على الأصابع،ولعل أبرز هذا البعض هم ممن سميناهم بالأضنان السالكين تصوفا ونبلا وطهرا ونقاء كالشيخ الجليل عارف دليلة، أو التلميذ الذي هو الذهب المصفى الشاعر فراس سعد أسير الحقد الطائفي في معتقلاتهم…
لماذا هذه المقدمة؟
إنها تمهيد ضروري لاعلان تضامننا كسوريين مع الشعب العراقي الذي شاء القدر أن يوحدنا تحت سقف رزايا البعث حتى باتت تتكسر النصال على النصال… وهو تمهيد ضروري لبعض النخب العراقية التي لازالت تعتقد أن ثمة فرقا بين الديكتاتوريتين البعثيتين (الصدامية والأسدية) منذ أن كانت في مرحلة لجوئها السياسي من نظامها الصدامي، حيث كان السؤال الذي كنا نتداوله كسوريين، وللطرافة: من هو أكثر حماقة؟ المعارضة السورية المحتمية بصدام أم المعارضة العراقية المحتمية بالأسد؟!
إن القاعدة الذهبية التي ينبغي أن توجه سلوك النخب العراقية نحو النظام الجار في سوريا لكي لاتلتبس عليهم الأمور، وهو الانطلاق من خبرتهم المتراكمة في معرفة نظامهم السابق برهانا وحدسا ظاهرا وباطنا، هو الانطلاق الأكثر نجاعة لمعرفة سلوك النظام الجار في سوريا، وطبيعة استجاباته وممكنتاتها، لأنهم (البعثان السوري والعراقي) من طبيعة ايديولوجية سياسية سوسيولوجية (رعاعية – حثالية) واحدة ، لايمكن الا وأن ينتج ممارسات متماثلة ومتناظرة بل ومتطابقة.
هذا العنف الاعتباطي المريع الوحشي الذي تكون ضحيته مئات القتلى والجرحى،لا يمكن أن يصدر إلا عن أصحاب (الشرعيات الثورية) ذات الحساسية الوسواسية تجاه أية شرعية دستورية قائمة أو ممكنة، إن كانت في الخارج (العالمي) أو الداخل (العربي والإسلامي)، ولذا فإن النظامين اللذين يمكن أن يقتلا باطمئنان (أخلاقي)، هما نظاما (الشرعية الثورية): الشرعية الثورية البعثية السورية،والشرعية الثورية الاسلامية الايرانية…
هذه الشرعية هي التي تتيح للشاب وريث طغيان أبيه أن يتحدث بسلاسة عن الأخلاق، فهو يعتبر أن الكشف والتنديد بجرائمه أمر(لا أخلاقي)، لأنه ببساطة يعتبر أن جرائمه لها شرعية (أخلاقية) لأنها جرائم وطنية وقومية تستند إلى الشرعية الثورية… وعلى العراقيين أن يعلنوا (افتداءه بالروح والدم) لانجازاته القومية على طريق أبيه قائد مسيرة النضال القومي…! على طريق تحريرهم من الإمبريالية التي يتنافس مع النظام الإيراني على ابتزازها عبر الضغط عليها لكسب ودها ومن ثم دفعها على إعلان حاجتها لدورهما الفعال ولايتيا ورفاقيا ودمويا…
وفي هذه الحضرة السحرية العجائبية في فاتنازيتها القومية، عليك أن لا تسأله: وماذا عن الجولان؟ اليست أرضا محتلة؟ لماذا تهتم باحتلالات أراضي الأشقاء قوميا ولا تهتم باحتلال أراضي بلادك وطنيا؟ لاينبغي طرح هذا السؤال وإلا اتهمت “بإضعاف الشعور القومي” ودخلت السجن مع كل معتقلي إعلان دمشق، وذلك لأنه هو المرجع القومي الذي فيه وفي نسقه العقائدي الفاشي المغلق تتحدد معاني ودلالات وطنية وقومية الأرض والقضايا والأوطان…أليس هو المبايع بـ(الوطنية) والممانعة قوميا وإسلاميا بل ويساريا…! وذلك خلال المؤتمرات القومية والاسلامية… ! فهاهي حركة الإخوان المسلمون عربيا (وكلاء المقدس الديني) يعترفون بشرعية تمثيله للمقدس الوطني، ملتحقين بالقوميين الناصريين (وكلاء المقدس القومي) الذين يعتبرونه وريث مشروعهم القومي (الناصري)… دون أن يستشعروا أية إهانة يلحقونها بالنزاهة الأخلاقية للناصرية بغض النظر عن تأسيسها للبعد البوليسي لمدرسة الشعار القومي….
نحن-كسوريين- نتفق مع كل الأصدقاء العرب الذين وضعوا إصبعهم على مكمن خطر العنف والإرهاب المؤصل عقائديا بوصفه نسقا: سوريا وايرانيا…بدءا من الصديق الدكتور شاكر النابلسي التي أهتبلها فرصة باسم المثقفين الديموقراطيين السوريين لتحيته على اهتمامه الأخلاقي والنبيل بمعركة الشعب السوري من أجل الحرية…وانتباه العديد من المثقفين العراقيين للتماثل البنيوي بين نظامهم البعثي الصدامي البائد والبعثي السوري (الأسدي) السالك على طريق هلاكه لاستحالة فتح نسقه على العالم….أمثال الدكتور عبد الخالق حسين والأستاذ علاء اللامي المتحررون من أي أوهام مراهنة حول كذبة علمانية النظام السوري التي يغلف بها طائفيته التي لا يزال يراهن عليها الكثيرون من الأشقاء العراقيين العلمانيين…
وفي هذا السياق، نطمئن الفرحين الشامتين بركود المعارضة السورية، بأن رهاننا ليس على حجم كم دور المعارضة السورية، بل على حجم كم انغلاق نسق النظام المحكوم بعطالته وبعزلته وعجزه عن التكيف مع القيم الدولية والعالمية والإنسانية، ومن ثم المحكوم بحماقاته وعدوانيته وعنفه وإرهابه الذي لن يكون الاعتداء الأخير على الشعب العراقي نهاية سلسلته التي بدأت برفيق الحريري… أي المراهنة على حماقات الشاب الوريث الحاكم الذي خدم حالة تكسر نسق استبداده أكثر مما استطاعته حكمة المعارضة (الشائخة) لكنها المجددة أبدا للضمير الوطني لسوريا من التفسخ والفساد والانحلال الذي يقوده نظام لم يعد هناك ما يعادله فسادا وتفسخا في العالم…
نعرف بأن مستقبل عراق مدني ديموقراطي تعددي تعاقدي هو مثار استنفار كل غرائز العروبو- اسلامية عربيا واسلاميا…لكن الذي يقتل بوحشية وهمجية وبضمير مرتاح (أخلاقي) كالعدوان الأخير على الخارجية والمالية في بغداد، لا يمكن أن يصدر إلا عن أصحاب الشرعيات (الشمولية الأصولية: البعثية السورية أوالملتية الإيرانية)، كلما هدد مستقبلهم أية شرعية دستورية قائمة أم قادمة…
* كاتب سوري