سوريا “الفاتحة” بين فتح محكمتين
هوشنك بروكا
قال الرئيس السوري بشار الأسد في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره القبرصي في دمشق قبل أيام، “أن اتهام سوريا بقتل العراقيين، وهي تحتضن نحو 1.2 مليون منهم، هو اتهام اقل ما يمكن أن يقال فيه، هو أنه “لا أخلاقي”، على حد تعبيره.
الأسد وصف هذا “الإتهام”، ليس “بالبعيد والخارج عن المنطق السياسي” فحسب، وإنما أيضاً ب”الخارج على المنطق القانوني”.
هكذا أو قريباً من هذه اللهجة، تعاطى الأسد مع “لبنان ما بعد الحريري”، إثر اغتيال هذا الأخير في 14 فبراير 2005، مأ أدى إلى انفجار الغضب اللبناني في “ثورة الأرز”، على “الإستعمار السوري” للبنان، وخروج قوات “سوريا العلنية” منه، إثر صدور القرار الأممي 1559.
فكانت نتيجة هذه “العنتريات” السورية، وإبداعها الكبير في تمثيلها لدور “القاتل الذي يقتل القتيل ويمشي في جنازته”، ونجاحها الأكبر في صناعة توزيع الأدوار بين أكثر من سورية: سوريا العلنية، وسوريا السرية، وما بينهما من “سوريات” كثيرة بعض علنية وبعض سرية، هو وقوف المجتمع الدولي مع لبنان، وإصدار قرار بتشكيل محكمة دولية، للتحقيق في قضية الحريري، تلك المحكمة التي لا يزال الأخذ والرد، والبحث، والحكم والفصل بشأنها، في ردهات لاهاي وجاراتها، جارياً على قدمٍ وساق.
إثر إفراج هذه المحكمة عن الضباط الأربعة المتهمين، هللّ وطبّل وزمّر الكثيرون(المحسوبون على سوريا ونظامها المخابراتي بخاصة) ل”براءة” سوريا الأكيدة، واصفين المحكمة بالسقوط في “نهايتها السياسية المفضوحة”، و”لامصداقيتها”، علماً أنّ مقرر المحكمة ورئيس قلمها روبين فينسنت قال في حينه: “ليس لهذا الإفراج أي اثر على مصداقية المحكمة الدولية وأنها تعاطت بحرفية عالية مع هذا الموضوع منذ انطلاقها”، مضيفاً أن “عام 2010 هو المحكمة بإمتياز”.
أما بخصوص “فلسفة” الأسد الأخلاقية، فلا حاجة للدخول في تشريح المصطلحات الفلسفية الكبيرة، التي تناول فيها أهل المنطق، الأخلاق وتوابعه، في مستواها الإيجابي، بإعتبارها “قيماً عالية”. فالأخلاق، هي جمع الخلق، والخلُق في اللغة، هو حالٌ للنفس راسخةٌ تصدر عنها الأفعال من خير أو شرّ.
ما قصد به الرئيس الإسد، ب”لاأخلاقية” الإتهام العراقي، يصبّ بكل تأكيد في معنى الشق السلبي للأخلاق، الذي يعني على أكثر من مستوىً للخطاب، وصف “الفاعل”(العراقي الذي يتهم سوريا ههنا)، ب”الرذيلة”، التي هي عكس “الفضيلة”.
لنترك “أوصاف” هذا الإتهام جانباً، إن كان ب”أخلاق” أو بدونها. ولنتحاشى الدخول في مقابلة البيانات بالبيانات المعاكسة، والتصريحات بالتصريحات المضادة. فهذا هو حال السياسة دائماً، حيث أن “الغاية تبرر الوسيلة”، حسب حكمة الإيطالي الكبير نيقولا ماكيافيللي(1463ـ1527).
ولكن لنقيس القضية بمقياس الأخلاق، طالما أن الرئيس الأسد هكذا أراد لها أن تكون.
الأزمة التي نشبت أخيراً بين البلدين، رغم أنها أكبر من قضية “تسليم” لبعض المتورطين البعثيين(وأخوانهم في الإرهاب) في “قتل العراق”، إلا أن العراق الرسمي اختزل حل الأزمة مبدئياً ب”تسليم محمد يونس الأحمد وسطام فرحان لدورهما المباشر في تنفيذ العملية الأرهابية الأخيرة، وتسليم جميع المطلوبين قضائياً ممن ارتكبوا جرائم قتل وتدمير بحق العراقيين وطرد المنظمات الإرهابية التي تتخذ من سوريا مقراً ومنطلقاً لها، بهدف التخطيط للعمليات الإرهابية ضد الشعب العراقي”.
من هنا طالب العراق، كحد أدنى ل”تحقيق الأخلاق في القانون”، بإجراء تحقيق دولي في عملية “الأربعاء الأسود” الأخيرة ” لأن لديها ادلة واعترافات، وأن القاعدة نفسها اعلنت انها تحصل على الدعم في مجال الامداد والتموين من جماعات تعمل في سورية”، حسب تصريحٍ أدلاه المتحدث الرسمي بإسم الحكومة العراقية علي الدبّاغ أمس لقناة العراقية.
إذن القضية واضحة، والجريمة باتت أوضح، حيث هناك جريمة لا بل جرائم قتل بالجملة، ومتورطين متهمين بالجملة يتخذون من سوريا ملاذاً لهم، إلى جانب أدلة واعترافات بالجملة”، حسبما يقول الجانب العراقي ويصرّح مسؤولوه الكبار ليل نهار.
ولكن السؤال، الآن، في الوقتٍ الذي يصف فيه الرئيس السوري “اتهام العراق” ب”اللاأخلاقي”، هو، لماذا أعلن نظامه منذ اللحظات الأولى لإشتعال الأزمة، بأنه “لن يسلّم أحداً للعراق”؟
هل من الأخلاق مثلاً أن تدافع “سوريا الأسد” عن “متهمين متورطين أو مطلوبين”، وأن لا تسلّمهم بحجة أنهم “ضيوف من البعث لدى البعث”، ربما التزاماً بالمبدأ القائل “أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”؟
أين الأخلاق وما هو تعريف النظام السوري لتلك الأخلاق في أن يُسمى “صناع القتل وصناع الإرهاب” ب”صنّاع المقاومة الشرفاء”، و”أشرف أشراف العرب العاربة والمستعربة”؟
ثم لماذا لا يطالب العراق ذات المطلب، دولاً أخرى جارة، ولا يتهمها بالإرهاب ذاته؟
لماذا لا يطالب العراق(ذو الغالبية الشيعية الحاكمة مثلاً) السعودية “السنية” بمطلبٍ كهذا، ولا تواجهها بإتهامٍ كهذا، رغم أن حدود هذه الأخيرة مع العراق أطول وأسهل بكثير، مما بين سورية والعراق من حدود وممرات؟
ما حدث في يوم الأربعاء الدامي في قلب بغداد، ومحل إقامة قلب حكومتها، كان إرهاباً وقتلاً “متفوقاً”، يفوق طاقة وإمكانيات القضاء العراقي لملاحقة صناعه، وتقديمهم إلى العدالة، كما جاء ذلك على لسان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي نفسه، وذلك في رسالته المؤرّخة في 30 أغسطس الماضي إلى الأمين العام للأمم المتحدة، حرفياً، بأن “حجم وطبيعة هذه الجرائم يستدعيان تحقيقاً دولياً يفوق نطاق الصلاحية القضائية العراقية، وملاحقة للمرتكبين أمام محكمة جنائية دولية خاصة”.
الطرف العراقي، عبر على لسان المالكي أثناء اجتماعه بوزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، بأنّ “90% من الارهابيين من مختلف الجنسيات العربية تسللوا الى العراق عبر الاراضي السورية”.
إذن، الأمم المتحدة، هي الآن أمام شكوى رسمية من الجانب العراقي، ل”مقاضاة” سوريا الأسد، رغم عدم تسمية مذكّرة التحقيق العراقية المقدمة إلى المجتمع الدولي، سوريا بالإسم بإعتبارها “دولة متهمة” بالإرهاب وصناعته وإيوائه، وتدريبه، وتمويله.
سوريا في الخطاب السياسي العراقي العلني، كما هو واضح، هي أكثر من متهمة في “قتل العراق وزعزعة استقراره”، وما على المحكمة الدولية المفترضة القادمة، إلا أن تحقق في صحة هذه الإتهامات أو خطئها.
ربما سيكون من السابق لأوانه التفاؤل ب”حدوث” مثل هذه المحكمة الدولية أصلاً، لا سيما وأن الناطق الرسمي لبعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة استبعد “عملاً مباشراً من مجلس الأمن رداً مباشراً على مذكرة المالكي”.
أمريكا تحاول أن تقف في هذه الأزمة على خط “الحياد” و”التهدئة”، والوقوف على مسافة واحدة بين العراق وسوريا، وهو الأمر الذي يخلق استغراباً لدى الكثير من المحللين السياسيين، باعتباره “موقفاً غريباً” أو “محيّراً”، قلما عُرفت به أمريكا، هكذا “رزينةً” “ناعمةً” “هادئةً”، في هكذا قضايا ساخنة.
والموقف، على غرابته، ربما يكون من باب “التغيير المفترض” الذي وعد به الرئيس الأمريكي أوباما، ببذل كافة الجهود لاحتواء “شرور” محور الشر الممثل بإيران وسوريا وجماعات وأحزاب الإسلام السياسي المتطرفة. وإلا هل من الممكن أن يقدم العراق على خطوة كهذه ب”مقاضاة” سوريا، فيما هي(أمريكا) لا تزال تتحكم بجلّ مفاتيح الحل والربط في بغداد و”هولير”ها؟
عليه، الموقف ربما يكون تنفيذاً لسياسة أوباما “الناعمة”، التي لن يكتب لها النعومة الأبدية، مع “خشونة” كلٍّ من سوريا وإيران، هكذا بلا حدود، إلى ما لا نهاية.
لتقف أمريكا “الناعمة” وشقيقاتها، في “الحياد الناعم”، و”التهدئة الناعمة”، وفقاً ل”السياسة الناعمة” التي يريد لها أوباما مع “الدول المارقة”(كإيران وسوريا وكوريا) أن تكون.
ولكن الأكيد الذي سيظهر في الأفق الدولي، بخصوص “انفتاح” العالم على “الفتوحات السورية”، ونظامها “الفاتح” لفلسطين ولبنان والعراق(وربما جهات أخرى غير معلومة قادمة)، عاجلاً أم آجلاً، هو:
أن لا انفتاح مجدٍ مع نظامٍ لا يزال مغلقاً بألف قفلٍ وقفل على داخله الذي من لحمه ودمه.
ولا انفتاح مع نظامٍ “مغلقٍ” قائم في طبيعته منذ تأسيسه الأول، على “الإنتفاخ العروبي”، لتبرير فتحه وتفخيخه للآخرين، وقتله لمدنييهم، وإرهابه لمدنهم، وزعزعته لإستقرار دولهم.
ولا انفتاح جميلٍ مع نظامٍ يمارس القبح، في كل الجهات، بكل أدواته ووسائله، داخلاً وخارجاً، متى استطاع إليه سبيلاً.
ولا انفتاح للسلام في الشرق الأوسط، مع “سوريا إلهية” في جنوب لبنان، و”سوريا مقاومة” في العراق، وأخرى “محوية في غزة” تريد محو إسرائيل من الوجود وما بعده.
سوريا(التي من الأسد إلى الأسد)، والتي تقع الآن بين “فكي محكمة دولية لا تزال قائمة(محكمة الحريري)، وأخرى في الطريق، مفترضة(محكمة قتل بغداد)، ستثبت للمنفتحين “الصبورين” عليها، عرباً وأعاجم، متفائلين ومتشائمين، عاجلاً أم آجلاً، أنها “لن تعيش ولن تترك الآخرين يعيشون”.
سوريا “الفاتحة”، أو المتهمة ب”فتحها” لجوارها، ب”أكثر” من “غزوة” إرهابية، جعلتها تتصدر رأس قائمة “المتهمين”، سياسياً، ستثبت لكل “المنفتحين” و”المفتوحين”، بأنها سوف لن تنفتح على جوارها “المفتوح” على أكثر من “إرهابٍ”، ب”فتح” سفارةٍ هنا وأخرى هناك، وبعض ابتساماتٍ تُطلق في اجتماع عالٍ سريٍّ مغلق هنا، وابتساماتٍ آخرى تُنشر على هواء العواصم العلنية هناك.