القياس المزيّف للتحوّل العربي!
السيد يسـين
هناك إجماع بين المفكرين فى مختلف أنحاء العالم على أن التحول الديموقراطي، ونعني به انتقال النظم السياسية من السلطوية إلى الليبرالية، هو أهم عملية تتم فى الوقت الراهن فى مختلف قارات العالم.
وقد سبق لعالم السياسة الأميركي المعروف “صموئيل هنتنغتون” أن تحدث عن “الموجة الثالثة للديموقراطية” من خلال مسح أجراه لدراسة التطورات الديموقراطية فى العالم. ووصل إلى نتيجة رئيسة مفادها أن الديموقراطية كنظام سياسي تنتشر فى كل مكان، وخصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذى كان من أعتى النظم الشمولية، مما فتح الباب أمام بزوغ مجتمعات ديموقراطية جديدة.
وقد اهتم علماء السياسة الغربيون بصياغة مقاييس متعددة لقياس التحول الديموقراطي، لتقييم مدى التقدم الذى يحرزه كل بلد فى هذا المجال، وذلك منذ بداية التسعينات.
ويلاحظ عدد من ثقات الباحثين أن صياغة مؤشرات كمية لقياس التحول الديموقراطي فشلت فى غالبية الحالات لأنها عجزت عن فهم الأبعاد المختلفة فى النظرية الديموقراطية من ناحية، ولعدم صدق Validity البيانات التى اعتمدت عليها من ناحية ثانية.
والنظرة الشاملة للميدان تؤكد أن أنصار المؤشرات الكيفية لقياس الديموقراطية فشلوا فى عديد من الحالات لاعتمادهم على مفاهيم واسعة وعريضة، فى حين أن أنصار المؤشرات الكمية لم يوفقوا بدورهم لاعتمادهم على مفاهيم ضيقة ومتعددة فى الوقت نفسه، مما جعلهم يعجزون عن اختبار صحة التعميمات التى صاغها أنصار المؤشرات الكيفية.
وحين أسسنا “مرصد الإصلاح العربي” فى مكتبة الإسكندرية عام 2004 واجهنا هذه المشكلة المنهجية، ونعني هل نعتمد على المؤشرات الكيفية لقياس التحول الديموقراطي العربي، أم نعتمد على المؤشرات الكمية؟ وبعد دراسة عميقة للموضوع قررنا الاعتماد على المؤشرات الكيفية، لأن تطبيق المؤشرات الكمية مسألة تكاد تكون مستحيلة لإنعدام البنية التحتية الإحصائية العربية، ولعدم ثبات Reliability وصدق Validity البيانات الإحصائية العربية، إذا ما استخدمنا لغة مناهج البحث.
وقد دخلت مكتبة الإسكندرية فى شراكة علمية مع مشروع علمي كبير إسمه “مبادرة الإصلاح العربي” يضم حوالى عشرة مراكز أبحاث أوروبية وعربية، وفى مقدمها مركز الدراسات الاستراتيجية الأردني والمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، وممثلون لمراكز استراتيجية فى المغرب والسعودية. واستطاع المشرفون على المشروع وأبرزهم ممثل لمجلس الشؤون الخارجية الأميركي أن يجمع ميزانية طائلة للقيام بالمشروع. وقد مثل مرصد الإصلاح العربي بمكتبة الإسكندرية كل من الدكتور محسن يوسف وكاتب المقال وذلك فى اجتماعات المشروع.
وأبرز هذه الاجتماعات انعقد فى باريس، حيث عرض مدير مركز الأبحاث الفلسطيني نموذجاً لتطبيق المؤشرات الكمية لقياس التحول الديموقراطي، عبارة عن مقياس صاغه لقياس الديموقراطية الفلسطينية.
وقد دارت مناقشة علمية عميقة قدتها لنقد هذا النموذج الذى وضعت مقاييسه بطريقة عشوائية، انعكست على الأوزان المختلفة التى أعطيت لكل بعد، كأن يقال أن احترام سيادة القانون عام كذا كانت 580 درجة وهى أفضل من العام الماضي حيث كانت الدرجات 560 درجة، بدون أى تحديد لمعنى هذه الأرقام الجزافية. ومن ناحية أخرى شاب عملية جمع البيانات عيوب جسيمة. وحين سألت مؤلف هذا النموذج الكمي من أين أتيت بهذه البيانات ذكر لي أنه حصل عليها من المخابرات الفلسطينية!
وليتأمل معي القارئ سذاجة هذه الإجابة، هل يمكن حقاً فريق بحث عربي يقيس التقدم فى التحول الديموقراطي العربي، بما فيه من سلبيات وايجابيات، أن يلجأ للحصول على بعض بياناته من أجهزة المخابرات العربية؟
وبالإضافة إلى كل ذلك لم يحسب صاحب النموذج حسابات ثبات البيانات وصدقها وهي ضرورة منهجية.
و مع كل ذلك آثر من يديرون هذا المشروع أن يتجاهلوا تقارير “مرصد الإصلاح العربى” التي قامت على أساس المؤشرات الكيفية، والتي تتضمن تحليلاً نقدياً عميقاً لعملية الصراع السياسي فى مختلف البلاد العربية، والتى تصاحب عادة عملية التحول الديموقراطي، وإنحازت مديرة المشروع إلى نموذج المؤشرات الكمية، وهي باحثة سورية معروفة سبق لها أن عملت فى مركز الدراسات الدولية فى باريس، ثم شغلت من بعد منصب مديرة مؤسسة فورد فى القاهرة.
وحدث خلاف جوهري بين فريق “مرصد الإصلاح العربي” بمكتبة الإسكندرية وباقي الفرق البحثية حول سلامة تطبيق مؤشرات كمية مشكوك في ثباتها وصدقها لتكوين مقياس عربي عام لقياس الديموقراطية، بالرغم من التفاوت الشديد في طبيعة الأنظمة السياسية العربية، وتوزعها بين نظم شمولية وسلطوية وليبرالية.
وتقرر عقد ورشة عمل منهجية فى مقر مكتبة الإسكندرية لحسم الخلاف، ولم تستطع مديرة المشروع ولا ممثلو مركز الدراسات الفلسطينية تقديم ما وعدوا به من مؤشرات كمية، وقدمت في الاجتماع عرضاً منهجياً شاملاً للتراث العلمي العالمي في الموضوع، لأخلص إلى نتيجة أساسية مفادها استحالة تطبيق مؤشرات كمية لقياس الديموقراطية العربية.
وعقد اجتماع آخر للمشروع في عمان لمواصلة مناقشة المشروع. وصمم ممثلو مرصد الإصلاح العربي على موقفهم، وتشبثت مديرة المشروع بالنموذج الكمي، وكلفت المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية تنفيذ الاقتراح.
واستغرق المركز الفلسطيني وقتاً طويلاً فى مسيرة متعثرة لصياغة مقياس كمي للتحول الديموقراطي العربي. ويبدو أن “مبادرة الإصلاح العربي” وهو المشروع الذي تحدثنا عنه اقترح على مكتبة الإسكندرية أن يعقد ندوة يومي 7، 8 ايار 2008 لكي يعرض هذا المقياس الذى وعد به.
وقد أتيح لي أن أقرأ التقرير الذى وزع فى الندوة بعنوان “حالة الإصلاح في العالم العربي عام 2008” والذى وضع إسمى عليه باعتباري من بين المجموعة الاستشارية، بغير تصريح مني بذلك، لأنني أعلنت موقفي المنهجي منذ البداية، وهو استحالة صياغة مؤشر عربي كمي عام للديمقراطية العربية. وحين طالعت التقرير أدركت أن عنوانه يتناقض تناقضاً صارخاً مع مضمونه. وذلك لأنه يتضمن حديثاً مرسلاً وإن كان كمياً عن ثماني دول عربية فقط، هى الأردن والجزائر والسعودية وفلسطين ولبنان ومصر والمغرب واليمن. وقد استخدم النموذج الكمي ستاً وثلاثين مؤشراً من أصل أربعين مؤشراً للقياس، وأعطيت أوزان عشوائية لكل مؤشر.
ومن الغريب أن مدير المركز الفلسطيني صاحب النموذج الكمي يكتب فى التقرير منتقداً المحاولات الدولية السابقة التى استخدمت المؤشرات الكمية قائلاً “يجد الباحث صعوبة فى الخروج بخلاصة موثوقة من المقاييس الدولية المتوفرة ليس فقط لاختلاف منهجيتها واعتمادها الرئيسي على الانطباعات، بل أيضاً بسبب التناقض فى بعض نتائجها. فمثلاً يضع المغرب واليمن فى آخر القائمة، أما تقرير الشفافية الدولية لعام 2007 فيضع الأردن فى أفضل صورة يتبعه المغرب، ثم السعودية، فيما تأتي اليمن فى نهاية القائمة. ويضع تقرير “فريدوم هاوس” الدول الثمانية التى فحصناها ضمن مجموعتين: الدول “الحرة جزئياً” وتضم الأردن والمغرب ولبنان وفلسطين واليمن، والدول “غير الحرة” وتضم “الجزائر ومصر والسعودية.
ومع ذلك تجاهل صاحب النموذج كل أخطاء التقارير الدولية التى ذكرها وارتكب أخطاء منهجية أشد جسامة!
وهو يقرر أنه – بكل بساطة – قام بعمل عشوائي فى محاولة لإعطاء أوزان نسبية لكل مؤشر! وهو يقول – لا فضّ فوه – “تجدر الإشارة إلى أن عملية اختيار الأوزان أو القرار بإعطاء المؤشرات أوزاناً متساوية، يشكل قراراً ذاتياً يحمل فى طياته حكماً عشوائياً على أهمية العناصر المختلفة للنظام الديموقراطي”، ويضيف إضافة غريبة تدل على الفوضى المنهجية فى المشروع حيث يقول: “ويمكن من يرغب إعادة قراءة المقياس بإعطاء الأوزان التي يراها مناسبة للمؤشرات المختلفة”! هكذا – بكل بساطة – يعطي صاحب النموذج لكل واحد أن يأخذ حريته فى إعطاء الأوزان التي يراها مناسبة! وفى تقديري أنه لم يسبق في أي بحث من البحوث التى أجريت في أي مكان في العالم، أن وصلت العشوائية والفوضى المنهجية الى هذا الحد. والسؤال ما هي نتائج تطبيق المقياس على الدول الثماني؟
يقول التقرير إن الأردن هي الدولة ذات العلاقة الفضلى فى المقياس العام. فقد حازت على المرتبة الأولى للممارسات وفى المقياس الفرعي لسيادة القانون. والجزائر حصلت على المرتبة قبل الأخيرة فى المقياس الفرعي للممارسات، وكذلك فى المقياس الفرعي للمساواة والعدالة الاجتماعية. وفلسطين حصلت على المرتبة الأولى فى المساواة والعدالة الاجتماعية. ولبنان حصلت على المرتبة الأولى فى احترام الحقوق والحريات. ومصر حصل على المرتبة الأولى فى المقياس الفرعي للوسائل. والمغرب حصلت على المرتبة الأولى فى المقياس الفرعي الدال على وجود مؤسسات عامة قوية ومسائلة، واليمن حصل على المرتبة الثانية فى سيادة القانون.
وهكذا توزعت مراتب الدول بطريقة عشوائية غير مسؤولة ولا تستند إلى أي أساس علمي. والدليل على ذلك أنه بالنسبة لمؤشر استقلال القضاء يقول التقرير أنه في ما يتعلق بشق تعيين القضاة وعزلهم، اعتمد رأي خبير فى حالة كل من الجزائر واليمن. وهكذا أعطيت درجات لكل بلد على هذا المقياس بشهادة خبير واحد فى كل بلد! وكيف تكون هذه الشهادة موضوعية؟ بل ويتم قياسها.
ومن العجيب أن مديرة المشروع تعترف صراحة بفشل صياغة مؤشر كمي عام للتحول الديموقراطي العربي. فهى أشارت إلى قصور التحليل الكمي كأداة لتفسير الواقع والصعوبات التي تثيرها المقاربة الكمية فى العالم العربي. بالإضافة إلى صعوبة الوصول إلى المعلومات الأولية الموثوقة، “لأن هذه المعلومات حين تتوافر لا تسمح غالباً بالتدليل على الممارسات السياسية التى تحصل عبر الآليات غير الرسمية. ففي جميع البلدان العربية تتعايش أنماط المشورة التقليدية مع مؤسسات حديثة على درجات متفاوتة من التطور. ورغم أن دولة القانون مازالت غائبة فى جميع البلدان، إلا أن ضمان التوازنات السياسية الداخلية يتحقق واقعياً، سواء عبر التفاوض والتنازلات والتسويات، أو عبر أوضاع انتقالية وتبديلات فى مراكز الدولة الرئيسية…”، وتضيف “وكذلك فإن المؤشرات لا تبين الوزن الحقيقي للسلطات المتوارية (أجهزة داخل الأجهزة) أو سلطات الأمر الواقع، “كما تسمى مثل المؤسسات الدينية المهيمنة. وأخيراً تخفي الأرقام تمييزاً مهماً بين بلدان منفتحة نسبياً على الخارج وحريصة على صورتها الخارجية (كالأردن والمغرب) وبلدان أقل انفتاحاً تقليدياً (كالجزائر والسعودية)”.
وهكذا أعلنت مديرة مشروع مبادرة الإصلاح العربي فشل المقياس الكمي الذي وضعه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية لقياس التحول الديموقراطي العربي.
وإذا كان يحمد لها ممارستها العلنية للنقد الذاتي، فقد كان عليها أن تعترف بأن وجهة نظر “مرصد الإصلاح العربي” الذى أسسناه فى مكتبة الإسكندرية، والذى اعتمد على المؤشرات الكيفية هي الصحيحة، وأن المغامرة فى بناء مؤشر كمي للتحول الديموقراطي، ليس لها أي أساس منهجي أو واقعي.
ومع ذلك فقد سمحت مديرة المشروع لنفسها أن تكتب تقريراً تفصيلياً لنقد الأوضاع الديموقراطية فى مصر. لا بأس بذلك فى سياق حرية التعبير، ولكن هل يمكنها أن تجيب على السؤال المهم التالي: هل تستطيع فى إطار مشروع
مبادرة الإصلاح العربي أن تكتب لنا تقريراً مماثلاً عن الأوضاع الديموقراطية فى سوريا؟
وأيا ما كان الأمر فهذا المشروع الممول بأموال طائلة قد بددت أمواله فى مشروع فاشل على غير طائل على بعض الأفراد المحظوظين وبعض مراكز الأبحاث دون غيرها، مما يجعل مقولة “من لا يملك أعطى لمن لا يستحق” مقولة صحيحة!
– القاهرة
(باحث مصري)