ثورة مايو 1968 الحدث الذي غيّر وجه فرنسا
هاشم صالح
يحتفل الفرنسيون هذه الأيام بذكرى ثورة مايو 1968 بعد أن مر عليها أربعون عاما بالضبط. ولكي يفهم القارئ العربي أبعاد هذا الحدث الضخم الذي جعل الجنرال ديغول يهتز على عرشه ويغادر الاليزيه إلى مكان مجهول ويختفي عن الانتظار لمدة ثمانية وأربعين ساعة دون أن يعرف حتى رئيس الوزراء أين هو، ينبغي أن نقدم بعض المعلومات الأولية.
على عكس ما هو سائد حاليا كان التيار اليساري الثوري هو الغالب على الجامعات الفرنسية بل وحتى الأوروبية والأميركية الشمالية. وكما أن الأصولية اليمينية أو العودة إلى الوراء هي السائدة حاليا فإن أفكار تشي غيفارا والماركسيين المضادين للامبريالية الأميركية والنظام البورجوازي الرأسمالي كان هو السائد آنذاك. كانت أفكار جان بول سارتر وهيربيرت ماركيوز وجيل ديلوز وميشيل فوكو هي الرائجة في تلك الأيام. هذا دون أن ننسى المنظرين الأساسيين للاشتراكية الديموقراطية كادغار موران وكورنيليوس كاستورياديس وكلود ليفور وآخرين. وكلهم كانوا مضادين للاستعمار والمعسكر الغربي الرأسمالي الغربي ومؤيدين لقضايا العالم الثالث.. وبالتالي فهناك فرق كبير بين السياق الذي كان سائدا قبل أربعين سنة والسياق الذي نشهده اليوم. حاليا الشعب الفرنسي قلب في جهة اليمين قياسا إلى ما كان عليه عام 1968. ولولا ذلك لما نجح ساركوزي أصلا وتغلب على مرشحة اليسار سيغولين رويال.
ويتفق المراقبون على القول بان المجتمع الفرنسي كان آنذاك لا يزال مجتمعا محافظا جدا من الناحية الأخلاقية والجنسية والسياسية. وكانت الرأسمالية الفرنسية رغم النجاحات التي حققتها في عهد ديغول لا تزال ظالمة جدا ولا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الطبقات الشعبية والعمالية والفلاحية والطلابية. ولهذا السبب فإن الانتفاضة الربيعية ابتدأت بحركة احتجاجية طلابية عنيفة أدت لاحقا إلى تحرك العمال بشكل ضخم وشن إضراب شامل شل فرنسا شللا، الشيء الذي أدى بدوره إلى أزمة سياسية عظمى في البلاد. وهذا ما لم يحصل في أي بلد غربي آخر على الرغم من التشابه بين تظاهرات الطلاب في الولايات المتحدة وألمانيا الغربية من جهة وتظاهراتهم في فرنسا من جهة أخرى. فقط في فرنسا اتخذت العملية طابع الثورة الكبرى. وهناك أسباب عميقة لهذه الانتفاضة المباركة التي هزت النظام من جذوره. نضرب على ذلك مثلا بسيطا هو التالي: كان ثلثا طلبة الجامعات والمعاهد العليا ينتمون إلى الطبقات الغنية في المجتمع الفرنسي وثلثهم فقط الى الطبقة الوسطى وعدد قليل جدا من أبناء الطبقة العاملة والفلاحين. ولم تكن الجامعات مجهزة بالمدرجات الكبرى والقاعات الكافية. كانت مكتظة بالطلبة إلى درجة أن الكثيرين كانوا لا يجدون مقعدا ولا يستطيعون حضور الدروس بشكل لائق. وكانت المباني الجامعية مهترئة عموما ولا تليق إلا بالحيوانات في بلد غني يستطيع أن يصرف الملايين على شبيبته إذا أراد. في الواقع انه كان يصرفها على المدارس العليا المتخصصة التي تخرج أبناء العائلات لكي يصبحوا كوادر الدولة ومسيري أجهزتها وإدارتها. نعم كان نظام التعليم يحبذ دائما أبناء الأغنياء والعائلات البورجوازية كما برهن على ذلك بيير بورديو في كتاب أصبح كلاسيكيا الآن: الورثة. فمن يرث الفقر والهم غير من يرث الثروة والجاه وبحبوحة العيش. ونقطة الانطلاق في الحياة ليست واحدة. وبالتالي فمن ينجحون بسهولة ويحصلون على الشهادات العليا كانوا في أغلبيتهم من الطبقة البورجوازية المسيطرة. كانوا هم النخبة الذين يسيرون أمور البلاد أبا عن جد حتى لكأن العملية وراثية. مثلا سلك الدبلوماسية الفرنسية والسفراء وكبار الموظفين ومدراء الشركات الخ..كانوا من أبناء العائلات البورجوازية بنسبة ساحقة. كان النظام مغلقا على أبناء الذوات وما كان ابن الفلاح أو العامل يحلم مجرد حلم بالوصول إلى الوظائف العليا. العمال أيضا كانت أوضاعهم قد ابتدأت تتدهور ورواتبهم تنقص بدلا من أن تزيد. يقول دانييل كوهين بنديت أحد قادة الثورة إن لم يكن قائدها الأول: لا أحد يستطيع أن يتخيل الآن ماذا كانت المدارس والمعامل الفرنسية تشبه آنذاك. كانت المعامل مبنية على هيئة الثكنات العسكرية وكان يمنع على النقابات العمالية أن تفتح لها فروعا فيها كيلا تحصل احتجاجات على أرباب العمل الذين يعاملون العمال وبخاصة العمال الأجانب كعبيد. وبالتالي فلا أحد يستطيع أن يتخيل إلى أي مدى ساهمت ثورة مايو 68 في فتح الانسداد التاريخي الذي كان يعاني منه المجتمع الفرنسي آنذاك. لقد كانت ثورة مايو 68 حركة كونية عالمية من ألمانيا إلى فرنسا إلى أميركا الشمالية إلى مكسيكو إلى طوكيو فالبرازيل..في كل مكان كانت الشبيبة متعطشة إلى الحرية. لقد هبت نسمة الحرية على الكون من كل الجهات. ثم يردف كوهين بنديت قائلا: في كل مكان كانت الشبيبة تريد أن تأخذ السلطة على الحياة، إن تتحكم بالحياة سواء في المعمل أم في الكلية الجامعية أم في الحياة الخاصة والجنسية..رغبة التحرر كانت عارمة آنذاك.. وكانت شعاراتنا سريالية، شاعرية من نوع: كونوا واقعيين، اطلبوا المستحيل! او: البورجوازية لها رغبة واحدة: أن تدمر كل الرغبات! الخ.. هذا من الناحية الاجتماعية الاقتصادية والثقافية النفسية.
أما من ناحية الحريات الفردية فقد كانت محدودة جدا على عكس ما نتوهم نحن العرب المبهورين بالحضارة الفرنسية والأوروبية والذين جئناها بعد مايو 68. نضرب على ذلك مثلا بسيطا وهو لا يكاد يصدق اليوم بالنسبة للمجتمع الفرنسي الذي أصبح مليئا بالحريات الفردية والجنسية على وجه التحديد. هل نعلم بان المدن الجامعية للطلاب كانت مفصولة قبل ثورة مايو 1968 عن المدن الجامعية للطالبات؟ كان يستحيل على أي طالب ان يزور الفتاة التي يحبها في غرفتها بل وكان يستحيل عليه أن يضع قدمه في المبنى المخصص لسكنى البنات. كان الحارس يطرده فورا وكأنه ذئب جاء لاصطياد الفتيات الجميلات.. باختصار كان الاختلاط ممنوعا والمراقبة على أشدها. وهل نعلم بأنه قبل مايو 1968 ما كان يحق للمرأة أن تفتح حسابا في البنك إلا بعد موافقة خطية من زوجها؟ عندما تقول ذلك لأجيال اليوم لا يكادون يصدقونك فيقولون: مش معقول. هل نحن في بلاد الطالبان أم في فرنسا؟ وهل نعلم أن مدام ديغول، المدعوة تحببا من قبل الفرنسيين تانت ايفون، كانت تقول بأنه ينبغي على البنت أن تعود إلى بيتها قبل الثامنة مساء وإلا فإنها تصبح مشبوهة وربما داعرة..نعم كان المجتمع الفرنسي تقليديا محافظا بل ويعاني من انسداد تاريخي يعود إلى القرن التاسع عشر. هذا الانسداد أدى إلى الاحتقان الذي أدى بدوره إلى الانفجار. وعلى هذا النحو تحصل الثورات والانفجارات. فكان إعصار مايو 1968 الذي جرف في طريقه كل شيء..على هذا النحو تهاوى المجتمع القديم المنغلق على نفسه وحل محله المجتمع الحديث المليء بالحريات الفردية والذي لا يزال سائدا حتى اليوم. ونحن الطلبة العرب الذين جئنا إلى فرنسا بعد عام 1968 كنا من أوائل المستفيدين من هذه الانتفاضة الكبرى لأننا تمتعنا أيضا بالحريات والعشيقات الفرنسيات ووجدنا مجتمعا أكثر انفتاحا على الأجانب واقل عنصرية وكرها للاختلاف. وكل هذا بفضل ثورة مايو 68 وأفكار الفلاسفة الأحرار المضادين للفكر الفرنسي الاستعماري والاستعلائي القديم. هذا شيء ينبغي ألا ننساه. وأنا شخصيا وصلت إلى فرنسا في منحة دراسية بعد الحدث بثمان سنوات فوجدت أفكار التحرر والتقدم والتسامح والاستنارة سائدة في كل مكان وليس فقط في الجامعات. بل وكان الفرنسيون يعتذرون منك لأنهم استعمروا بلادك يوما ما..كانت النزعات العالم ثالثية هي السائدة. وكانت أفكار البنيويين والماركسيين هي المسيطرة على الساحة الثقافية الفرنسية. كان جان بول سارتر لا يزال يخيم بشبحه الضخم على الفكر الفرنسي. ومعلوم أنهم قبضوا عليه أثناء الأحداث في شارع السان جيرمان دو بري وأدخلوه إلى سيارة الشرطة لاعتقاله. ولكن ديغول أمر فورا بإطلاق سراحه قائلا: لا أحد يسجن فولتير! فذهبت مثلا.. وهذا دليل على عظمة ديغول بقدر ما هو دليل على عظمة سارتر.. وكانت أسماء كلود ليفي ستروس ورولان بارت والتوسير وجاك لاكان وميشيل فوكو وجيل ديلوز وجاك دريدا وبيير بورديو وسواهم تملأ الجو. وكانت أفكارهم تدين العرقية المركزية الأوروبية بشكل أو بآخر وتعترف بحق الاختلاف الثقافي والحضاري بل وتدافع عنه أكثر من اللزوم في رأيي لأنها كانت بدون أن تشعر عرضة للاستغلال من قبل الأصوليين الرافضين لأي انفتاح على الحضارة الغربية.
لم أكد اصدق عندما قالوا لي بان المعارك الحقيقية كانت تجري في الحي اللاتيني بين طلبة اليسار وطلبة اليمين المتطرف بالعصي والسكاكين والسلاح الأبيض..لم يكن الفرنسيون قد تحضروا بما فيه الكفاية بعد لكي يحلوا خلافاتهم عن طريق الحوار الديمقراطي لا عن طريق الضرب والهمجية. كانوا كما نحن عليه نحن العرب حاليا.. بل إن إشعال شرارة مايو 1968 حصل نتيجة انتشار إشاعة بأن “الفاشيين” قادمون لكي يهجموا على السوربون معقل اليسار. والفاشيون ليسوا إلا أبناء العائلات اليمينية الذين يدرسون في معهد العلوم السياسية في شارع “أسّاس” والذي لا تفصله عن السوربون إلا حديقة اللوكسمبورغ الجميلة. وعندئذ اضطر طلبة السوربون اليساريون إلى كسر الطاولات لاستخدام قوائمها كسلاح لمواجهة الغزاة! وعلى هذا النحو ابتدأت ثورة مايو 68. فبعد أن اعتقل البوليس بعض طلبة جامعة نانتير لأنهم تظاهروا ضد حرب فييتنام ونددوا بالولايات المتحدة والامبريالية الأميركية تضامن معهم طلاب السوربون في الحي اللاتيني. ثم تصاعدت الأمور تدريجيا حتى فلتت من عقالها وانضم العمال إلى الحركة. وكان أن شهدت فرنسا اكبر إضراب عمالي وطلابي في تاريخ أوروبا كلها: 11 مليون شخص في شوارع باريس والمدن الفرنسية الكبرى. وأصيبت البلاد بالشلل الكامل إلى درجة أن ديغول على الرغم من عظمته ارتبك حقيقة فهرب إلى عند قائد القوات الفرنسية في بادين بادين بألمانيا جاك ماسو لكي يتأكد من ولاء الجيش له قبل أن يتخذ القرارات الصعبة. ولم يستطع السيطرة على الوضع والإمساك بزمام الأمور إلا بعد معاناة حقيقية وكان قد بلغ من العمر عتيا ولم يبق له إلا سنتان أو اقل لكي يموت. ديغول الذي واجه الأعاصير إبان الحرب العالمية الثانية ومحنة الجزائر الاستعمارية واجتازها بسلام ورباطة جأش منقطعة النظير لم يعرف في البداية كيف يواجه أزمة داخلية كادت أن تعصف به وبنظامه كله.
ولكن وكما يقول المثل فان الأزمة التي لا تقتلني تحييني أو تقويني. وهذا ما حصل. فقد خرجت فرنسا أكثر قوة وشبابا بعد تلك الأزمة الرهيبة التي هزتها في أعماقها هزا. والمؤيدون للثورة يعتبرونها اكبر نسمة حرية تهب على البلاد في العصور الحديثة إذا ما استثنينا الثورة الفرنسية بالطبع. إنها ثورة أدت إلى تحرير الطاقات المكبوتة والرغبات الحسية والجنسية المقموعة من قبل الأخلاق التقليدية الموروثة عن الماضي.
ولكن المشكلة هي أن ثورة مايو 68 بالغت في الاتجاه المعاكس كأي رد فعل. فالتحرر الجنسي لم يعد يعرف كيف يتوقف عند أي حد..والرغبة الإباحية أصبحت القانون الذي لا قانون قبله ولا بعده. والشذوذ الجنسي أصبح مباحا ومشروعا مثله في ذلك مثل الجنس الطبيعي بين الرجل والمرأة. وقد تورط مؤخرا نائب ديغولي من شمال فرنسا عندما قال: في رأيي أن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة أفضل من العلاقة بين الرجل والرجل او بين المرأة والمرأة. فجن جنونهم عليه وبهدلوه وشرشحوه قائلين: رجعي، متخلف، يميني، فاشي الخ.. ولهذا السبب حصل رد فعل ضد مايو 68 وانتخب الشعب الفرنسي رجل اليمين ساركوزي الذي عرف كيف يستغل هذا الانقلاب الذي طرأ على مزاج الشعب أو بالأحرى المعمّرين فيه وهم الأكثرية. ففي خطابه الشهير الذي سبق انتخابه لرئاسة الجمهورية بوقت قصير شن هجوما ساحقا على ثورة مايو68 أمام مئات الآلاف وبحضور كبار الفنانين والممثلين الفرنسيين والشخصيات الكبرى. وكان مما قاله: ان ورثة مايو 68 فرضوا علينا الفكرة العبثية التي تقول بان كل شيء يتساوى مع كل شيء وانه لم يعد هناك أي فرق بين الخير والشر، أو بين الصح والخطأ، أو بين الجمال والقبح الخ. وبالتالي فالسؤال الأساسي المطروح علينا في هذه الانتخابات هو التالي: هل سنخلّد ارث مايو 68 أم سنصفيه عن بكرة أبيه مرة واحدة والى الأبد!
على هذا النحو كسب ساركوزي أصوات الكاثوليكيين التقليديين والديغوليين التاريخيين واليمين المتطرف بطبيعة الحال. وكلهم كارهون جدا لروح مايو 68 . ولكنه كسب أيضا أصوات العديدين ممن تعبوا من التجريب الجنسي والحريات اللانهائية التي لا تعرف أن تتوقف عند حد. ولكن هل كان ساركوزي ابن المهاجر الهنغاري سيصل إلى رئاسة الجمهورية لولا ثورة مايو 68 والتطور الذي أحدثته في العقلية الفرنسية؟ هل كان سيصبح رئيسا وهو المطلق مرتين لا مرة واحدة؟ نقول ذلك ونحن نعلم أن مدام ديغول كانت ترفض أن يستقبل زوجها على العشاء أو الغداء أي شخصية مطلقة كائنة من كانت. الاستثناء الوحيد الذي غضت عنه الطرف هو اندريه مالرو الكاتب الشهير والمقرب جدا من زوجها. وذلك لأنها كانت كاثوليكية والطلاق محرم عند الكاثوليك. مهما يكن من أمر فإن سيغولين رويال ردت على ساركوزي بالصاع صاعين بعد بضعة أيام ولكنها لم تستطع أن تعكس التيار اليميني الجارف. قالت أمام مئات الألوف أيضا وفي اجتماع جماهيري حاشد: أنا لا أريد العودة إلى الحالة التي سبقت مايو 68. أنا لا أريد العودة إلى الوراء كما يفعل السيد ساركوزي. أنا لا أريد العودة إلى الحالة التي أدت إلى الانفجار الثوري لسبب بسيط:هو أن السلطة آنذاك كانت ترفض التوزيع العادل للثروة على الشعب الفرنسي. ثم أردفت تقول:
مايو 68 لا يستطيع احد أن يصفيه لا ساركوزي ولا سواه. مايو 68 هو احد عشر مليون مضرب عن العمل ومتظاهر في الشوارع. وقد استطاعوا أن يفرضوا على السلطة الرضوخ لمطالبهم وتحسين أوضاعهم. كما وفرضوا على المجتمع حق المرأة في تناول حبوب منع الحمل ونيل حرياتها الأساسية في الزواج والطلاق وسوى ذلك. مايو 68 هو نسمة الحرية التي هبت على مجتمع مسدود، مجتمع منغلق على ذاته من كل الجهات.
هكذا نلاحظ أن المعركة التي دشنتها ثورة مايو 68 لم تنته فصولا بعد حتى بعد مرور أربعين سنة على اندلاعها. ولن تنتهي ما دام هناك ظالم ومظلوم، ما دامت هناك طبقات عليا تتمتع بكافة الامتيازات وطبقات دنيا لا تكاد تصل إلى آخر الشهر إلا بجهد جهيد..وبالتالي فلا ينبغي على الرئيس ساركوزي أن ينام قرير العين أكثر من اللزوم. فإذا لم تؤد سياسته إلى تحسين الوضع الاجتماعي لملايين الفرنسيين الفقراء بالإضافة إلى ملايين المهاجرين الأفقر فان مايو 68 قد ينفجر في وجهه من جديد. فالشعب الفرنسي علّمنا انه شعب الثورات التحررية على مدار التاريخ: فمن ثورة 1789، إلى ثورة ربيع الشعوب عام 1848، إلى ثورة 1871 المعروفة باسم كومونة باريس والتي وصفها كارل ماركس بأنها أول ثورة بروليتارية في التاريخ، إلى ثورة مايو 68 نجد أن اللائحة طويلة، طويلة من الانتفاضات والثورات..
بقيت كلمة أخيرة لكي يكون هذا العرض متوازنا. في آخر اتصال هاتفي بين ديغول ورئيس وزرائه جورج بومبيدو في عز الأحداث قال له ديغول قبل أن يغلق الخط: أقبّلك. واستغرب بومبيدو هذه العبارة ولم يكد يصدق ما سمعه. ففي حياته لم يعبر ديغول عن عواطفه بمثل هذا الشكل. وهذا اكبر دليل على انه كان قد فقد السيطرة على نفسه بسبب تفاقم الأحداث ولم يعد يعرف ماذا يفعل. ثم اختفى عن الأنظار كما قلنا لمدة 48 ساعة لكي يلتقط أنفاسه ويتأكد من ولاء الجيش ويستشير نفسه إذا جاز التعبير قبل أن يتخذ القرارات الحاسمة. ثم عاد إلى قريته مطمئنا يوم 29 مايو بعد أن استطاع السيطرة على نفسه واتخاذ قراره. وصبيحة اليوم التالي عقد اجتماعا لمجلس الوزراء في قصر الاليزيه ثم وجه بعده مباشرة خطابا مقتضبا وحازما إلى الأمة. وفيه يقول بما معناه: إني أمتلك المشروعية الوطنية والجمهورية العليا لفرنسا ولن أتخلى عنها تحت الضغط ولن اسلّم بها أبدا. لن أنسحب من الحياة السياسية في مثل هذه الظروف ولن أغير رئيس الوزراء. وسوف أحل اليوم الجمعية الوطنية وأدعو إلى انتخابات نيابية عامة في البلاد لكي يحسم الشعب هذه الأزمة بنفسه..
هذه الكلمات القلائل كانت كافية لكي تنعكس الآية ويمسك القائد العجوز بزمام الأمور مرة أخرى. فلا تعرف قيمة الرجال إلا عندما يهب الإعصار. وديغول رجل متعود على الأعاصير بل ولا يزدهر إلا بها ككل الأبطال التاريخيين. وبضربة معلم لا يقدر عليها ألا القادة الكبار استطاع أن يوقف الثورة عند حدها بل وأن ينتصر عليها سياسيا ويعيد الهدوء إلى البلاد. ففي مساء اليوم الذي ألقى فيه خطابه نزلت مظاهرة مضادة إلى شارع الشانزيلزيه يتقدمها اندريه مالرو وبعض القادة الآخرين وهي تهتف باسمه. وراح الشعب مرة أخرى يخلص لقائده التاريخي الذي أنقذه مرتين أثناء الحرب العالمية الثانية وأثناء حرب الجزائر عن طريق إعطائه أغلبية ساحقة في المجلس النيابي”362 نائب من أصل 485. وهكذا حسم الشعب الموقف بشكل لا لبس فيه ولا غموض لصالح الجنرال ديغول. وهذا دليل على مدى نضج الشعب الفرنسي الذي يعرف كيف يتحاشى الكارثة في آخر لحظة. لقد جن لفترة شهر ربيعي كامل وشبع جنونا وكفاه. ثم أن السلطة عرفت كيف تتنازل وتتراجع وترفع رواتب العمال بنسبة 35 بالمائة دفعة واحدة. هذا بالإضافة إلى تنازلات أخرى قدمت للطلاب والنساء الخ… وهكذا هزم فرانسوا ميتران وبيير منديس فرانس مرة أخرى هزيمة نكراء أمام القائد التاريخي. ومعلوم أنهما حاولا انتهاز فرصة الفوضى للسطو على السلطة في عز الأحداث عندما بدا أن الأمور قد أفلتت من يد قائد فرنسا الحرة ولو للحظة.
وربما لهذا السبب صرح دانييل كوهين بنديت مؤخرا رغم أنه لا يحبّ ديغول على الإطلاق: لقد انتصرنا ثقافيا في مايو 68 و لكن لحسن الحظ أننا هزمنا سياسيا..فهل يمكن أن نتخيل حزب الفوضويين والعدميين والمشاغبين واليساريين المتطرفين في سدة السلطة؟ وماذا كان سيحصل لفرنسا؟ لقد انتهت السكرة وجاءت الفكرة. وقد كانت سكرة جميلة غيّرت وجه فرنسا…
موقع الآوان