السلوك الإنساني وتحديات التكنولوجيا …والحاجة إلى الهندسة الثقافية !.
د.نصر حسن
(1)
من المعروف أن حرية الإنسان وكرامته تكونان مهددتين تبعاً لوضعه الاقتصادي وطبيعة علاقته بمحيطه الاجتماعي والإطار السياسي الذي يحرك تلك العوامل , والتغيير في تلك العلاقات غالباً يتم في الظروف البيئية التي تحدث تغييرات في الموقف العقلي منها , وينعكس ذلك عملياً في شكل سلوك معين , إنساني منفتح مريح أو غريزي عدائي مغلق , ويعتبر ( ديكارت ) من اللذين افترضوا أن البيئة تلعب دوراً فعالاً في تحديد السلوك وجملة ما يرافقه من مشاعر وأحاسيس وتصرفات ,وبرهن أن ما يجري في الجهاز العصبي من عمليات وتفاعلات مركبة هي التي تحدد سلوكاً معيناً ,ولايخفى تأثير التطور في تغيير أو تبديل الأفعال والاستجابات المرافقة لها التي تحدد السلوك , والتأكيد على أن الخامة النفسية المترسبة في اللاوعي هي مرحلة الطفولة بما تحتويه من مشاعر مختلفة تبرمج السلوك والتصرف وتحدد شكل الفعل في المستقبل , أي أنها هي المولد الأساسي لسلوك الفرد وأفعاله.
وعليه إن السلوك البشري هو تراكم محصلة تطور الإنسان , ويعكس بشكله البسيط آلية تعامله مع محيطه ورغبته في تجاوز ما يواجهه من مشاكل وتحديات ,أي أن السلوك هو طريقة استجابة الإنسان للمؤثرات الداخلية والخارجية وشكل الرد عليها والتعامل معها , وعليه فالسلوك الإنساني مختلف باختلاف البشر ونظم حياتهم ورؤاهم وطرق تجاوبهم مع المحيط , وتقر معظم نظريات تحليل السلوك الإنساني إلى وجود ثلاث شخصيات تتقاذف الفرد (الإنسان) بنفس الوقت , أولها هي الذات والتي تمثل “الأنا “ وثانيها الذات العليا ( العقيدة ), وثالثها هو اللاشعور الغريزي , ويرى علماء السلوكيات أن التفاعلات بين هذه الشخصيات هي المسؤولة عن تحديد سلوك الإنسان في نهاية المطاف.
والحال كذلك فإن السلوك البشري هو منتج الثقافة ومحدد اتجاه حركة التاريخ , وهو مختلف أي السلوك حسب أطواره ويتداخل في تكوينه الدين والفلسفة والطبيعة والحقيقة والوهم وقيم الحرية والعبودية وكل أشكال وممارسات الثقافة الأخرى من الأدب والفن , وتركز بمجملها على صراع مركزي تتفرع عنه كل أشكال السلوك بثنائية السيطرة والحرية بما هما الشغل الشاغل للإنسان عبر التاريخ , وفي استقراء مواقف الفلاسفة وأدباء الحرية نرى أن معظمهم يتخذون موقفاً متطرفاً ومعاكساً لموقف ” روسو ” البريء والذي يتلخص في أن كل مظاهر التحكم والسيطرة على السلوك هي خاطئة ومضرة وبغيضة, إما في طبيعتها أو في ممارستها أو في نتائجها, وبالتالي لابد من تجنبها كلها, فمثلاً يرى المتطهرون ” البيوريتانيون ” أن معظم وسائل التعزيز الإيجابي هي خاطئة وأن ” ما من إنسان يستحق المدح على صلاحه وطيبته ,ما لم تكن لديه القدرة على أن يكون شريراً, وكل صلاح هو تراخ أو عجز في الإرادة” .
إذن التتابع الحقيقي لمظاهر السلوك وأشكاله موجودة في الظروف المحيطة ,وعملية التطور السلوكي مترابطة جدلياً مع القيم ( الثقافة ) وليس كل وجود أو تمدد أو نمو هو تطور إلى الأرقى , فالبيئة الاجتماعية هي بشكل ما تمثل الثقافة المعاشة , وتتطور عندما تبرز ممارسات سلوكية قيمية (ثقافية ) جديدة يتم اصطفاؤها من خلال تنافسها مع مظاهر البيئة وأشكالها, من هنا يتحدد فهم العلاقة المركبة بين السلوك والبيئة في أفقها الإنساني ,وحال فهمها يمكن أن نكتشف وسائل جديدة لتغيير السلوك ,أي إلى تطوير أشكال الثقافة, لأن السلوك ممكن تغييره بتغيير الظروف السابقة أو الموجودة التي هو صنعها , هنا ندخل عملياً في منحى تصميم جديد للثقافة بما هي نوع خاص من تصميم أو اشتقاق مفاهيم القيمة , فتصميم الثقافة يقوم فيه مهندس سلوكي , شأنه شأن مهندس الآلة أو الحاسوب أو البناء أو السيارات في تكثيفة المادي , فتصميم الثقافة والحال كذلك شبيه بتصميم التجربة من حيث تهيئة كافة الشروط وترتيب الظروف المناسبة ومراقبة التفاعلات واستخلاص النتائج العملية , بفرق واحد بين تصميم التجربة وتصميم الثقافة , في التجربة نهتم بما يحدث الآن وأمام أعيننا وتأشير وسائل مقاييسنا المباشرة ,أما في تصميم الثقافة فيجب الاهتمام بمعادلة بشرية معقدة المتغيرات والحدود وتتعلق بالمنظور والمعاش والمتراكم في تلافيف الوعي والذاكرة وأحياناً مضافاً له كماً لا بأس به من الوهم والحلم , وأهم نتائجه هو تحديد فيما إذا كانت الثقافة مفيدة اجتماعية عملية إنسانية أم مناقضة لها ,والأكثر أهمية هو انعكاساتها على الشعوب وعلى حياتهم وبما سيحدث في المستقبل .
واستطراداً , توجد الكثير من التصاميم الثقافية في الدين والفلسفة والأدب والفن والاقتصاد والسياسة , حيث يصف المعنيون تصوراتهم عن الحياة الجميلة ويقترحون وسائل مختلفة لتحقيقها ,فمثلاً اختارت الأديان حلاً روحياً , وأفلاطون اختار حلاً سياسياً , واختار ” أوغسطين ” في كتابه “مدينة الله” حلاً دينياً , و”فرانسيس بيكون ” ( المحامي ) حلاً قانونياً ,واتجه (اليوطوبيون) من مدرسة “روسو” في القرن الثاني عشر حلاً أخلاقياً بالدعوة إلى الصلاح الفطري, وفي الزمن الحديث تنحى باتجاه حلاً اقتصادياً , أي أن السلوك الفردي وظواهر البيئة تفرض نوعاً معيناً من التصميم والتطوير السلوكي والثقافي .
هل هو تغريد خارج سرب الواقع الحالي ؟! ربما , لكن سفاهة ورثاثة الواقع وصخبه ونشاذه تفرض تغريد جديد ..!.
(2)
لكن ما هو معروف , هو عناد بعض أنماط السلوك (الثقافة) للتغيير وخاصة ً المتعلق منها بالمخزون التاريخي من عادات وتقاليد وقناعات دينية ,إذ من السهل تطوير النظام الإداري والنظام التعليمي لكن من شبه المستحيل تغيير القناعات الدينية التي تملي ممارسات معينة ويعبر عنها بسلوك واضح وتحدد ثقافة بعينها, هنا يجب تصميم أو تطوير ممارسات أفضل في بعدها الإنساني على نحو تدريجي ,لأن العمليات السلوكية ( الثقافية ) في العالم بصورة عامة هي من نوع تلك العمليات “اليوطوبية ” التي توجه الوعي , بعبارة أخرى العالم يحتاج إلى تصميم ظروف إنتاجية أرقى للسلوك والثقافة ليس لها نتائج ثانوية ضارة , وهذا لا يتم بالرغبة والتكهن أو بالألفاظ وترديد العزف المشوه على وتر الحداثة ,بل في اشتقاق مواصفات جديدة تكون دعامات بناء التصميم الثقافي الذي يرتبط بالمجموع ويغريه في إتباعه والتمسك فيه والعمل على تعميمه وتحويله إلى ثقافة حياة ,وبالتالي ضمان ارتباطه مع الزمن وبقاؤه.
والحال كذلك هناك فرق كبير بين العالم الحقيقي والمختبر من حيث العناصر والحركة والشروط الذي يحلل فيه السلوك الحقيقي , المختبر يبدو على النقيض من العالم الطبيعي , فالوضع في المختبر مختلف تماماً , فهو بسيط بينما العالم معقد , السلوك داخل المختبر يوحي بوجود نظام ما , في حين العالم الخارجي عشوائي , وعليه إن الفرق بين الظروف المصطنعة والطبيعية له أهمية معينه لكنه ليس كل شيء , فجدول الطبيعة هو احتمالي أكثر منه وضعي أي يعتمد على ” النسبة المتغيرة ” التي هي أساس التصميم المختبري ,ونقطة البدء في المختبر خيارية بينما في الطبيعة جبرية , فمثلاً لو قدر ل” فاراداي ” أو “ماكسويل ” بإلقاء لمحة سريعة من نافذة سحرية على ما هو معروف اليوم عن الكهرباء , لكانوا قطعاً سيواجهون مشكلات كثيرة في تحديد نقطة البداية وفي صياغة واستنباط النظريات والمبادئ التي لم تكن في زمانهم مبسطة إلى هذا الحد , ولحسن حظهم أن الكثير مما هو معروف الآن في ميادينهم صار معروفاً نتيجة البحث المستمر واستعمالاته التكنولوجية المختلفة.
وعلى النقيض من ذلك إن العالم السلوكي لم يحالفه هذا الحظ , لأنه كان على وعي تام بسلوكه الخاص باعتباره جزءاً من موضوعه , ولأن المدركات الدقيقة وألاعيب الذاكرة وما في الأحلام من أمور يصعب فهمها لسبب بسيط هو أنها غير قياسية , وبالتالي هي أصعب بكثير من أن نجد أو نحدد نقطة بدايتها وانطلاقها ,أو أن نتوصل إلى صيغ وصفها المعقدة والتي لا تبدو بسيطة أبداً, هنا يفرض الحل نفسه وهو ضرورة التمرن على تعلم كيفية التعامل مع الأمور المعقدة , فالمشكلات السلوكية هي أكثر تعقيداً بكثير مما نعتقد ,بل وليس من المبالغة القول أنها أصعب من عملية الانشطار النووي , وإلى حين الوصول إلى مستوىأدق من القدرة على فهمها , تبقى الصدفة التاريخية هي المسؤولة عن الكثير مما أنجزه الإنسان ,وستستمر الصدفة في أداء دورها في الانجازات البشرية, فالعلماء الأمريكان اللذين اتصلوا بالرئيس الأمريكي ” روزفلت” , أثناء الحرب العالمية واقترحوا على الرئيس صناعة قنبلة ذات قوة تدميرية هائلة يمكنها أن تنهي الحرب خلال أيام ,لم يكن يعرفوا كيف يبنون القنبلة , كل ما استطاعوا قوله هو أنهم يعرفون الطريق الذي يسيرون عليه في البحث عن ذلك , وتلك كانت ولازالت إحدى كوارث صدف التاريخ الحديث !.
يقول ديستويفسكي ” حتى لو أمكن البرهنة على أن السلوك البشري يمكن السيطرة عليه سيطرة تامة ,فإن الإنسان سيظل يعمل شيئاً ما ولو من قبيل المناكفة والمشاكسة , بل إنه قد يتعمد خلق الدمار والفوضى فقط ليثبت أنه على حق , ولو أمكن فهم وتحليل كل هذا في آخر الأمر , وأمكن منعه بواسطة التنبؤ بأنه سيحدث , فإن الإنسان حينذاك سيتعمد الجنون لكي يثبت أنه على حق ….” .
وفي هذا السياق الديستويفسكي تفسّر كل انهيارات السلوك الحالي على المستوى الدولي , فهل وصلت الحرية إلى الفوضى وطور الجنون ؟! أم هي صور بؤس السيطرة التي تولد ردود فعل عصبية ومجنونة ؟! السيطرة بمعنى الاحتلال والقمع والظلم وتجاوزالعلاقة العادلة المتبادلة باتجاه التصحيح ؟! فإذا كان شيطان الشاعر له قلب وعقل , فإن شيطان السياسي الحالي ( المسيطر ) قد فقد عقله وقلبه وإحساسه الإنساني ,ويمارس بقبح وهمجية عجيبة قوته وجنونه ,والخطورة الجماعية هي في التسليم له بقيادة سفينة الحياة بتلك الرعونة ودون ضبط سرعتها واتجاهها.! هنا تفرض الحاجة التاريخية نفسها …إنها الحاجة إلى تصميم ثقافي جديد.
خاص – صفحات سورية –