صفحات مختارة

انتحار بيئي

خيري منصور
من ثقب الأوزون إلى النفايات النووية، ومن اليورانيوم المنضب الذي يستمر تأثيره مئات الأعوام إلى زفير المصانع الذي يعقد سحابات عادمة في فضاء هذا الكوكب يشح معها الأوكسجين، ومن إرواء المزروعات بماء الصرف الصحي الذي يسرطن ملايين البشر إلى إشعاعات يصعب تحديد مداها بدءاً من تشرنوبيل الروسي حتى ديمونة الصهيوني، ومن وابل التلوث السمعي والبصري والنفسي إلى التصحر الوبائي، ومن التلاعب بجينات النبات والكائنات حتى ذوبان الجليد في القطبين، هذه هي الجغرافيا الجديدة بنظامها الدولي المرادف لما يسمى العولمة أو النظام العالمي الجديد، إنه تحالف شيطاني بين الجغرافيا والتاريخ، فمن لم تنحرهم الحروب أو ينتحرون بها تنحرهم البيئة أو ينتحرون بها، وكأن البشرية ضجرت من إقامتها على هذه الأرض عدة ألفيات من السنين وقررت بتر الأثداء التي أرضعتها، وتسميم الآبار التي شربت منها.
إن عدد ضحايا هذا الانتحار البيئي لا يعرفه أحد على وجه الدقة، وإذا كانت قنبلتا ناجازاكي وهيروشيما لاتزالان تشوهان الأجنة في الأرحام بعد أقل من سبعين عاماً فإن ما يلقى الآن من نفايات نووية وما يصاحب الفوسفور الأبيض واليورانيوم المنضب وسائر الأسلحة المحرّمة دولياً والمحللة أمريكياً وصهيونياً قد يبقى تأثيره إلى يوم القيامة، وما نقرأه من توقعات العلماء يدفعنا أحياناً إلى اتهامهم بالمبالغة، إذ قال أحدهم بعد الحرب على العراق، إن تأثير الأسلحة التي استخدمت في تلك الحرب قد يستمر ثلاثة آلاف عام على الأقل، ولن تنجو منه شجرة أو سمكة أو كلب أو إنسان.
وما يجب فعله الآن هو تغيير تلك الألوان التقليدية التي كانت تحدد تضاريس الخرائط، فالأصفر الآن يلتهم الأخضر في كل مكان، والمرتفعات تصبح منخفضات وقيعاناً بمقياس آخر يحدده حاسوب المساحات.
إن للتلوث أبعاداً قلما تحظى باهتمام الخائفين على أنفسهم وذريتهم من هذا الفساد البيئي الذي حوّل الطبيعة من أم إلى زوجة أب مثلما حول الكائنات الداجنة التي روضها الإنسان وعاشت في كنفه إلى مصدر للأوبئة الفتاكة، وقد لا تكون هذه الإنفلونزات الدجاجية والخنزيرية إلا البداية وأول الدم لا الغيث.
وما كتب حتى الآن عن النظام الدولي الجديد والعولمة ومشتقات هذا الجذر الذي ينخره السوس هو أضعاف ما كتب عن الجغرافيا المنتهكة والبيئة الملُتاثة التي لم تعد الإقامة في هذا الكوكب ممكنة بسببها.
منْ المسؤول؟ دول أم أفراد أم وعي أم مصالح لأطراف لا ترى أبعد من أنوفها ولا تدرك أن الطوفان الذي قالت ليأت من بعدها سوف يجرف قبورها وقبور أحفاد أحفادها.
ويخطئ من يصدق بأن إحصاءات موسوعة غينيس ومثيلاتها دقيقة عندما تتحدث عن الانتحار، فالانتحار يتجاوز قتل الذات إلى تدميرها ببطء، والستة مليارات إنسان الذين يتناسلون غير عابئين بمستقبل ذرياتهم إنما يمارسون انتحاراً بطيئاً، يشبه انتحار القط عندما يلحس مبرداً ويستمرىء طعم دمه حتى آخر قطرة.
ما من فرد أو مؤسسة أو دولة من حقهم أن يزعموا بأنهم أبرياء من هذه الجريمة الكونية، فلكل واحد حصته من إفساد الماء والهواء والفضاء واليابسة.
إننا كبشر في مختلف القارات قتلة ومقتولون في آن واحد، بقدر ما نحن جلادو أنفسنا وضحاياها، فالانتحار الآن لم يعد تاريخياً فقط، بعد أن تحالف النظامان الجديدان معاً ضد البشر.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى