الإسلام وأصول الحكم… مناظرة لا تفكير
د. عمار علي حسن
عرضت في المقالين السابقين جانباً عريضاً من المعركة التي دارت حول كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ علي عبدالرازق، والذي رفض فيه أن تكون الخلافة أصلا من أصول الحكم في الإسلام. ورأينا كيف اشتط بعض المتجادلين فكفروا صاحب الكتاب، وأخرجوه من الملة. وهنا نعرض اتجاهاً مغايراً، إن كان قد رفض الكتاب وما فيه، إلا أنه لم يذهب إلى تكفير صاحبه، ليضرب مثلا في النقاش العلمي الجاد الهادئ والجدير بالاحترام والتقدير، وهو ما يدعو إليه القرآن الكريم، الذي عرض بكل ثقة آراء المخالفين للإسلام في العقيدة والنبوة، وبين لنا كيف أن الله سبحانه وتعالى حاور إبليس نفسه.
وأول هؤلاء هو الفقيه التونسي الكبير الطاهر بن عاشور، الذي رفض ادعاء عبدالرازق إن مصدر شرعية الخليفة يستمدها من الله، وقال: “لم يقل أحد من علماء المسلمين إن الخليفة يستمد قوته من الله تعالى، إنما أطبقت كلمتهم على أن الخلافة لا تنعقد إلا بأحد أمرين، إما البيعة من أهل الحل والعقد من الأمة، وإما العهد لمن بايعته الأمة لمن يراه صالحاً. ولا يخفى أن كلا الطريقين راجع للأمة، لأن وكيل الوكيل وكيل، فإذا بُويع فقد وجب له ما جعله الله من الحقوق التي هي القوة المبينة في شرع الله تعالى، لأن الله حدد قوة الخليفة، وجعلها لخدمة مصلحة الأمة، وجعل اختيار ولي أمرها بيد الأمة، ولم يقل أحد إنه يستمد من الله تعالى، بوحي ولا باتصال روحاني، ولا بعصمة. ولا خلاف أن حكم الخليفة حكم الوكيل، إلا في امتناع العزل، بدون سبب من الأسباب المبينة، في مواضعها من كتب الفقه وأصول الدين”.
ووصف ابن عاشور ما ذهب إليه عبدالرازق من أن الخلافة لم يأتِ عليها دليل في القرآن والسنة، بأنه قول يشبه أفكار الخوارج، لأن الأدلة الشرعية غير منحصرة في الكتاب والسنة، ولكنها تمتد إلى الإجماع والتواتر وتظاهر الظواهر الشرعية، وهي “دلائل تربو على دلالة الكتاب والسنة إن كانت ظنية، وقد تواتر بعث النبي صلى الله عليه وسلم، الأمراء والقضاة للبلاد النائية، وأمر بالسمع والطاعة، بل وأمر القرآن بذلك أيضاً، فحصل من مجموع ذلك ما أوجب إجماع الأمة من عهد الصحابة رضي الله عنهم، على إقامة الخليفة بعد وفاة الرسول”، وأن الاقتصار على القرآن والسنة لا يقيم الدين الإسلامي، وأن الإجماع أصل لا يمكن تجاوزه أو نكرانه: “والإجماع الذي ثبتت به مشروعية الإمامة العظمى، هو الإجماع المنعقد عن دليل ضروري من الشرع، وهو الذي يعبرون عنه تارة بالإجماع، وتارة بالمعلوم ضرورة”، وبذا تبقى آراء عبدالرازق، في نظر ابن عاشور، مردوداً عليها من التاريخ والحديث والفقه.
ويذهب ابن عاشور إلى أن دفع عبدالرازق بأن الخلافة أقيمت بالقوة، لا يعني أنها ليست أصلا، ويقول هنا: “نعم لا ننكر أن من الأمراء، من استعمل القوة لنوال الإمارة، إلا أن ذلك لا يقدح في ماهية الخلافة، لأن العوارض التي تعرض للشيء في بعض الأوقات لا تقضي على الأصل بالبطلان”. ثم ينتهي ابن عاشور مدافعاً دفاعاً مستميتاً عن الخلافة ليقر بأنها “عبارة عن حكومة الأمة الإسلامية، وهي ولاية ضرورة لحفظ الجامعة، وإقامة دولة الإسلام على أصلها… والخلافة بهذا المعنى، ليست لقباً يعطى لكبير، ولا طريقاً روحانياً، يوصل الروح إلى عالم الملكوت، أو يربط النفوس بالدين بأسلاك نورانية، بل هي خطة حقيقية تجمع الأمة الإسلامية تحت وقايتها، بتدبير مصالحها والذب عن حوزتها”.
وبعد ابن عاشور جاء تونسي آخر وهو الشيخ محمد الخضر الحسين، شيخ الجامع الأزهر، ليرد على عبدالرازق، فألف كتاباً صغيراً لكن محكماً في هذا المضمار وسماه بـ “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”. تتبع فيه الأبواب التي أوردها عبدالرازق، باباً تلو الآخر، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبّر عن الفكرة موضوع النقد فيفندها، ثم نقد استخدام المؤلف للمصادر. وكان أوجه ما ذكره هو أن عبدالرازق يقتطع العبارات من سياقها، ويعيد توظيفها في سياق جديد، يرمي إلى خدمة المعنى الذي قصده، وهو تفنيد مسألة أصالة “الخلافة” في الإسلام، وقد أظهر محمد الخضر الحسين في كتابه القصير المحكم علماً غزيراً وإحاطة متمكنة بأصول الفقه والتشريع، ومعرفة عميقة بالتاريخ الإسلامي.
وقد وظّف الشيخ ثقافته الزيتونية المتينة والأزهرية العميقة لنقض كتاب عبدالرازق وإبطاله، وجادل هذا المؤلف بدقة متناهية فكان عالماً ثبتاً متمكناً من المنظومة الفقهية والسياسية في حقب زمنية متلاحقة. لكن كتاب الخضر لم يخلُ من مطعن عليه، إذ أهداه إلى الملك فؤاد الأول قائلا: “إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر الأعظم” ثم يمضي: “شهدت من حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم، غيرة على دين الحق، وعناية بشأن رفع المعاهد العلمية الإسلامية، فقلت: إن في هذه الغيرة والعناية لحماية الدين الحنيف، من نزعة ترمي حوله بشرر من الكيد والأذى. تلك المزية التي أصبح بها صاحب الجلالة واسطة عقد ملوك الأمم الشرقية، قد أخذت في نفسي مأخذ الإكبار والإجلال، ودعتني إلى أن أقدم إلى خزانته الملكية، مؤلفاً قمت فيه ببعض حقوق إسلامية وعملية” ثم ينتهي إلى التقدم برجاء الملك لـ “يتفضل عليه بالقبول، والله يحرص على ملكه المجيد، ويثبت دولته على العز والتأييد”.
وبذلك جرح الخضر غرضه من التأليف والتصنيف، وأتى على نبل الغاية، وحسن المقصد، وفتح الباب لظنون ساح فيها كثيرون، وقلصت من تأثير الكتاب إلى أدنى حد، وحدا هذا بالدكتور محمد عمارة إلى أن يصف الكتاب بأنه: أجود دراسة كتبت وقتذاك إلا أن صاحبها ساقها في الموكب الملكي.
ومع أن عمارة يصف دراسة الشيخ الخضر بأنها “أمسكت بتلابيب علي عبدالرازق، في عدد من المواقف الفكرية، وفندت عدداً غير قليل من آرائه، وقدمت إلى الناس صورة أكثر إنصافاً لكثير من الصفحات التي شابتها الشوائب من كتاب الإسلام وأصول الحكم” إلا أنه يأخذ على الرجل تسخير دراسته تلك لخدمة جبهة الملك الساعي إلى “الخلافة” ضد خصومه الذين يرى بعضهم أنه لا يليق بها، بينما ذهب آخرون إلى أن الخلافة ذاتها لا تمثل نظام الحكم الإسلامي. وهنا يقول عمارة: “نحن لا نستطيع أن نغفل هذه الشوائب القاتلة، التي شابت هذه الدراسة العلمية الجادة، ولا أن نقبل التعلل بظروف العصر، لأن هذا العصر ذاته كان فيه النقيض لمثل هذا الموقف من الملك والملكية، ولن يستوي الأبيض والأسود، بأي حال من الأحوال، مهما كانت الظروف والملابسات”.
ولم تتوقف المعركة على رغم مرور أكثر من ثمانين عاماً على تأليف كتاب علي عبدالرازق، فها هو عمارة نفسه يدخل إلى غمارها، ويرى أن الكتاب تشوبه عدة عيوب منها، التناقض في تقييم التجربة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والتناقض في تقييم التجربة التي لحقت الرسول بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وفساد الاستدلال، نظراً لأن عبدالرازق يستشهد بما لا يفيد قضيته إن وضع استشهاده موضع التدقيق، إلى جانب إهمال عبدالرازق للجوانب المشرقة في الفكر الإسلامي، لأنه خلط بين “النظري” و”التطبيقي” وبين “النص” و”الممارسة” أو بين “الفكر” و”التاريخ”.
ومع كل هذا ينتهي عمارة إلى القول: “نعتقد أن كل هذه الانتقادات لا تقدح في قيمة الكتاب وأهميته، كعمل فكري أثار من الجدل والصراع والمعارك ما لم يثره عمل فكري آخر في بلادنا، منذ أن عرفت الكتاب المطبوع وحتى الآن”. وفي ظني أن كل الردود التي تصدت لعبدالرازق لم تأت على حجية الكتاب وأهميته، وانتصار الزمن له، مع تنامي الاتجاه إلى أن الإسلام يقر مدنية الحكم، ولا يعرف الثيوقراطية من قريب أو بعيد.
الاتحاد