المجتمع العربي… ضحية المزايدة في التطرف الديني
ميشال شماس
التطرف موجود في كل المجتمعات وفي كل الظروف والأزمان، والتطرف على صعيد الفرد يكون في اتخاذ موقف أو رأي أو سلوك يخرج عن المألوف أو المعتاد، والأمر لا يختلف على صعيد القوى والأحزاب السياسية ففي أوربا مثلاً نشأت أحزاباً يسارية وأخرى يمينية، وقامت إلى جانبها حركات وأحزاب يسارية متطرفة وأخرى يمنية أكثر تطرفاً، والحال في البلدان العربية لا يختلف كثيراً.
والتطرف الذي أعنيه في هذه العجالة هو ذلك التطرف المتستر بالدين الذي أخذ يظهر بوضوح على الساحة منذ نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين وانتشر بشكل خاص في معظم البلدان العربية والإسلامية، ولاسيما تلك الدول التي قامت فيها أنظمة حكم أسلامية أو قريبة من الإسلام.والتي اتخذت من الدين وسيلة ومنهاج للحكم، فظهرت جماعات وحركات في تلك الدول تطرح شعارات وتتخذ مواقف تزايد فيها على النظام الحاكم فيما تعتقد أنه شرع الله، وهنا تظهر خطورة تلك المزايدة التي تجبر النظام الحاكم في معظم الأحيان إلى مراعاة تلك المواقف المتطرفة وتغالي أحيانا في مراعاتها، فتستغل تلك الجماعات والحركات ذلك فتطرح شعارات وبرامج تزايد فيها مجدداً على نظام الحكم، وهكذا دواليك مزايدة من هنا ومغالاة من هناك، دون أي أمل في وقف تلك المزايدة والمزايدة المضادة.
ففي الصومال مثلاً كان الزعيم الإسلامي شيخ شريف شيخ أحمد يحارب حكومة عبدالله يوسف السابقة بسبب عدم تطبيقها الشريعة الإسلامية، وعندما استلم الحكم كان أول قرار يتخذه هو تطبيق الشريعة الإسلامية، ولم تمض فترة على استلامه الحكم حتى ظهرت حركة الشباب المجاهدين والحزب الإسلامي بوجه حكومة شيخ شريف متهمة إياها بأنها لا تطبق الشريعة الإسلامية، فأخذت تشن حرباً على قوات الرئيس الصومالي، وأخذت تطبق شرع الله كما تفهمه في المناطق التي سيطرت عليها.
وفي الباكستان أيضاً نشأت عدة حركات أهمها حركة طالبان باكستان تدعو الحكومة الباكستانية إلى تطبيق الشرعية الإسلامية على كامل الأراضي الباكستانية، وقد أذعنت الحكومة الباكستانية لطلبها وسمحت لها بتطبيق الشرعية في المناطق التي تتواجد فيها تلك الحركات التي لم تكتف بذلك ، بل أخذت تشدد كثيرا في تطبيق “شرع الله”.
أما في السعودية التي تلتزم بحكم الشريعة، فلم يمنع التزامها هذا من ظهور جماعات متطرفة أخذت تزايد على النظام السعودي وتتهمه بأنه لا يطبق الشريعة، ولم تكتف بإصدار الفتاوى، بل أخذت تستهدف مقرات حكومية وأجنبية بالتفجيرات في غير مكان من السعودية.
وفي مصر أيام السادات عدل الدستور المصري بأن جعل المادة الأولى منه تنص” أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع” بعد أن كانت قبل التعديل الشريعة هي مصدر رئيسي للتشريع، وأطلق العنان للجماعات الإسلامية في مواجهة العلمانيين إلا أن الإسلاميين اعتبروا ذلك غير كاف فاغتالوه سنة 1981، ورغم أن النظام المصري بعد ذلك تبنى نفس رؤية الإسلاميين تقريباً إلا أن الحرب استمرت بين الطرفين بدعوى أن النظام لا يلتزم بتطبيق الشريعة في محاولة من الإسلاميين للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب لصالحهم.
وما جرى مؤخراً في قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس الإسلامية بعد انقلابها على حركة فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية بحجة محاربة الفساد والتأمر،وأنها لن ترغم أحداً على شيء، إلا أنه وبعد أن استكانت الأمور لها في غزة، اتخذت جملة من القرارات توحي على أنها في طريقها لتطبيق حكم الشريعة رويدا رويداً، كفرض الحجاب والفصل بين الجنسين لتثبت أنها أكثر إسلاماً من الحركات والجماعات التي بدأت تظهر في قطاع غزة وتتهم حماس علناً بأنها لا تحكم بالشريعة الإسلامية. والأمر لا يختلف كثيراً عنه في دول مثل نيجيريا وأفغانستان والسودان والجزائر والمغرب والعراق واليمن وغيرها من الدول.
لقد علمنا التاريخ ومازال يعلمنا -إذا أردنا أن نتعلم – إنه ليس بالحركات والمدارس الدينية تُبنى الأوطان، فالدولة الدينية التي يسعى البعض إلى إقامتها قد فشلت تاريخياً في حماية نفسها ولم تستطع الاستمرار والصمود بالرغم من وصولها إلى حدود الصين شرقاً وإلى اسبانيا غرباً، فانهارت وانقسمت إلى دويلات وإمارات وممالك، لازالت تتخبط في تخلفها وصراعاتها وتطرفها، مما أدى إلى اتساع الفارق الحضاري بينها وبين بقية الدول المتطورة.
إن جل ما نحتاجه اليوم في مجتمعاتنا العربية حتى نستطيع هزم التطرف في عقولنا وفي مما رستنا الفكرية وسلوكنا اليومي، هو إبعاد الدين عن السياسة، وفصل الدين عن الدولة كفيل بحل تلك الأزمات التي تعانيها تلك الدول، وتقطع الطريق على المزايدين من الطرفين -الحكم وتلك الجماعات والحركات التي تتستر بالدين- وإلا ستبقى تلك الدول أسيرة الصراعات والمزايدات الدينية التي لن تؤدي إلا إلى سقوط المزيد من الضحايا واستمرار التشرذم والتخلف .. و أن يُتحاج للناس ممارسة حياتهم بحرية وانفتاح على بعضهم البعض في إطار فكر وسياسة تتسع للجميع بعيداً على قاعدة مبدأ المواطنة بصرف النظر عن الجنس واللون والعرق أو انتماء سياسي أوديني .
كلنا شركاء