صفحات مختارة

اختزال الهوية في أصل العنف

د. منى فياض
بشكل موضوعي، تتضمن الهوية كل ما يسمح بالتعرف على الشخص من الخارج، ويحيل الى الموقع الذي يتقاسمه مع الأعضاء الآخرين من المجموعات المختلفة التي ينتمي إليها (جنس، عمر، مهنة..). الهوية الاجتماعية تشتمل على المميزات الفئوية التي تشكل مرجعية الفئات الاجتماعية التي ينتمي إليها الأفراد (مجموعات كبيرة أو صغيرة: شاب، طالب، امرأة، كادر، عضو نقابة، أب، فنان..)، هي غالبا ما تكون هوية مفروضة أو مستدعاة، طالما أن الشخص لا يقوم بتثبيت تلك الخصائص، أو ليس بشكل تام. وهذه الهوية الاجتماعية تموضع الفرد في التقاطع ما بين النفساني والسوسيولوجي. إذ يرى البعض أن التصنيف الاجتماعي يتضمن السيرورة النفسية التي تنحو لأن تنظم المحيط بتعابير فئات اجتماعية: مجموعات أشخاص، أشياء وأحداث.. بمقدار ما هي تتعادل فيما بينها بواسطة الفعل أو الغايات أو المواقف..
يحكي أمارتيا صن، مؤلف كتاب الهوية والعنف كيف فحص ضابط الهجرة جواز سفره الهندي فيما كان عائداً من رحلة قصيرة الى الخارج، وسأله فيما نظر الى عنوان بيته (منزل رئيس الجامعة، كامبريدج) عما إذا كان رئيس الجامعة صديقاً له. اعتبر صن السؤال فلسفياً، إذ هل يجب عليه أن يعتبر نفسه صديقاً لنفسه؟ حيث إنه هو رئيس الجامعة! وتساءل هل يتطابق الفرد مع نفسه؟ والأمر الأعقد: هل يتطابق في هوية واحدة مع الآخرين؟ مع جماعة معينة؟
تطرح مسألة الهوية بقوة في الآونة الأخيرة. كما أن الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة تدور حول ادعاءات متضاربة لهويات يائسة تختص بجماعات مختلفة، حيث إن مفهوم الهوية يؤثر، بوسائل مختلفة في أفكارنا وأفعالنا..
أما أمين معلوف فيصف في كتابه «هويات قاتلة» عن رد فعل البعض عندما يطلب منه أن يعرّف عن نفسه. وعند قيامه بذكر انتماءاته المتعددة، يسأله محاوره: «قل لي ماذا تشعر في قرارة نفسك؟». يبعدنا هذا السؤال عن التعريف السوسيو نفسي السابق؛ ويؤدي الى استنتاج يفترض أن في «قرارة» كل فرد منا انتماء وحيدا يحسب له حسابا، هو نوع من «الحقيقة العميقة» أو «الجوهر» المولود معنا وغير القابل للتغيير. كأن ما تبقى من سيرة الإنسان الحر، قناعاته المكتسبة، أولوياته، حساسيته الخاصة وأهواؤه أي حياته، لا يحسب لها حسابا. فلا نملك سوى الالتحاق بصفوف القبيلة التي ننتمي إليها مشهرين انتماءنا بصخب.
ويستغرب معلوف في هذه المقاربة أنها لا تلتفت إلى أن إعلان هذا الانتماء الحصري هو نفسه متغيّر وذو أوجه. فتارة يكون الانتماء في نظر البعض للوطن، ولكنه في نظر البعض الآخر يكون للدين، أو للطبقة، أو للغة. ما يعني نسبية فكرة الانتماء نفسها؛ ففي كل مرة يشعر الناس أنهم مهددون في إيمانهم، يبرز هذا الانتماء كمحدد حصري لهويتهم الكاملة. وحيث يطال التهديد اللغة الأم أو الجماعة الاتنية لا يترددون في مواجهة ضارية مع أبناء دينهم نفسه، كما يحصل بين الأتراك والأكراد المسلمين. أو الصراع المستعاد بين العرب أنفسهم وبذور الصراع السني الشيعي.
ففي صراع الهويات غالبا ما نتعرف على أنفسنا في الانتماء الأكثر عرضة للتهجم فنتماهى مع هذا الانتماء بالضبط سواء تبنيناه علناً أو أخفيناه. والانتماء المقصود أي اللون او الدين او اللغة او الطبقة.. يجتاح هويتنا بأكملها. والذين يتشاركون فيه يشعرون بالتضامن فيجتمعون ويستنفرون ويحمس بعضهم بعضا ويهاجمون من هم في مواجهتهم. يصبح التأكيد على الهوية فعل شجاعة وتحرر. وبطبيعة الحال تبرز القيادات داخل كل جماعة جريحة. وبين الحماسة المفرطة والسلوك المدروس يلجأ هؤلاء الى خطاب متطرف يطيّب الجروح. فيقولون إنهم يرفضون استجداء احترام الآخرين لهم، فهذا حق لهم وسيعملون على فرضه. ويعدون بالنصر أو الثأر ويلهبون النفوس ويلجؤون الى أساليب متطرفة كان يحلم بها سرا بعض المهانين من بينهم. باتت العدة جاهزة كي تبدأ الحرب. ومهما حصل فإن الآخرين يستحقون ما سيحل بهم، و«نحن» نتذكر بكل دقة ما «قاسيناه منهم» منذ فجر التاريخ، وتسرد جميع الجرائم والتعديات والإهانات والمخاوف مع الاسماء والتواريخ والأرقام.
وغني عن القول أن ما يحدد انتماء الفرد الى جماعة معينة هو في الأساس تأثير الآخرين فيه، تأثير القريبين منه أي أهله ومواطنوه وأبناء دينه الذين يسعون لامتلاكه، وتأثير من هم في مواجهته لأنهم يحاولون إلغاءه. ومن هنا تحدث جروح الهوية لأن الآخرين يشعرونه بأنه مختلف، وأن اختلافه وسمٌ له وعزل. هذه الجروح هي التي تحدد في كل مرحلة من مراحل الحياة موقف الأفراد من انتماءاتهم كما تحدد تراتبية هذه الانتماءات. لكن اختزال الهوية الى انتماء واحد يصنف الناس داخل موقف منحاز، غير متسامح وتسلطي فيحولهم بحسب معلوف الى قتلة او الى أنصار للقتلة.. الخوف يدفع إلى الجريمة..
وهذه المقاربة الاختزالية هي أفضل طريقة لإساءة فهم كل شخص في العالم. فنحن في حياتنا اليومية ننظر الى أنفسنا كأعضاء لعدد متنوع من المجموعات والانتماءات. فالشخص نفسه يمكنه أن يكون– ومن دون أي تناقض- مواطناً أميركيا من أصل لبناني، ويكون متحدرا من الجزيرة العربية ومسيحيا ولبيراليا وامرأة أو رجلا ونباتيا وأستاذاً جامعياً أو مهندساً، ويكتب قصصا قصيرة وينشرها ومدافعا عن البيئة ومشجعا لقضايا المرأة ومدافعاً عن حقوق الخدم وعضوا في جمعية لرعاية المعوقين، وعضوا في ناد للسينما وفي جمعية بحثية، وممارساً لهواية تسلق الجبال وهاويا الغناء.. كل هذه النشاطات التي ينتمي اليها الشخص نفسه تعطيه شخصية مميزة ومختلفة عن أي شخص آخر، وليس فيها ما يمكن اعتباره شخصيته الوحيدة من بينها أو صفته العضوية المنفردة.
وما إن نفهم هويتنا على أنها مجموعة انتماءات بعضها يرتبط أو لا يرتبط بتاريخ اتني، وبعضها يتحدر من تاريخ ديني وبعضها لا. حينها نرى أنفسنا في أصولنا ومسارنا روافد متعددة ومساهمات وتهجين متنوع.. عندها تنشأ علاقة مختلفة بيننا وبين «قبيلتنا». فلا يبقى «نحن» و«هم» فقط مثل جيشين مستنفرين استعدادا للمجابهة التالية وللثأر المنتظر. بل يصبح هناك من جهتنا أفراد ليس لي معهم في نهاية المطاف سوى القليل من القواسم المشتركة، بينما قد أشعر بنفسي قريبا جدا من أشخاص هم في «جهتهم».
الهوية تتكون من انتماءات مختلفة لكننا نعيشها كوحدة متكاملة. إن فرض هوية فريدة زعما هو غالبا أحد المكونات الحاسمة من «الفن القتالي» لإثارة المواجهات الطائفية.
كاتبة من لبنان
أوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى