من أجل نظرة ماركسية وعلمانية عربية للدين
محمد سيد رصاص
لم يكن ممكناً نشوء فكر كارل ماركس لولا صدور كتابين: “حياة يسوع” (1835) لديفيد شتراوس، و”جوهر المسيحية” (1841) للودفيغ فيورباخ. جسَّد الكتابان، المذكوران، قطيعة فلسفية مع النظرة للدين والتي كانت سائدة في مادية ماسُمِي ب”عصر الأنوار” الفرنسي في القرن الثامن عشر، والتي أرادت نقد الدين وتهديمه معرفياً عبر “العقل” و”العلم”. وقد رأى ماركس عيب تلك المادية في كونها “استخلصت المادية من العلم الطبيعي، مع استبعاد التاريخ وسيرورته”، وفقاً لتعبيره في كتاب “رأس المال” (1867).
من هذا المنطلق، لم يعالج شتراوس معجزات يسوع من خلال المنطق العلمي أو العقل أوباعتبارها حصلت فعلاً في الواقع التاريخي (أم لا)، بل بإعتبارها أساطير “تعبر عن التجارب الدينية، والأفكار الفلسفية، وحتى الحقائق التاريخية، في شكل ملموس هو أكثر تناسباً مع العادات الذهنية للعصر الذي ولدت تلك الأساطير فيه”. وبالتالي فإن “الولادة المافوق طبيعية للمسيح، معجزاته، قيامته، وصعوده، تبقى حقائق داخلية في نفوس المؤمنين بها، حتى ولو حامت الشكوك حول صحتها كحقائق تاريخية”.
ثم ليخلص شتراوس إلى أن المناخ الذي كان “المصدر المباشر للأساطير المسيحية يعود إلى المزاج السائد في ذلك العصر حول توقع مخلّص، والذي تمظهر في شخص هو يسوع”. فيما قدم فيورباخ نظرة جديدة تقول إن “الدين يعكس، عبر صورة محددة، التوترات الحقيقية وشقاء الحياة الأرضية في العصور القديمة”، وبالتالي “فإن الله هو بديل يبحث فيه الانسان عن عالم آخر مليء يعوض فيه نقص عالمه”. وهو مادفع أكبر اللاهوتيين البروتستانت في القرن العشرين، أي كارل بارت، لأن يقول في مقدمته للطبعة الإنكليزية من كتاب فيورباخ ان الأخير، ورغم إلحاده “ينكر أن الدين عبث، لا شيء، أو وهم خالص”، في قطيعة مع فلاسفة “عصر الأنوار” ومع أفكار مؤسس الفلسفة الوضعية أوغست كونت (1798-1857) التي وضعت العلم في تناقض حدّي مع اللاهوت والميتافيزيقا.
عبر هذا، توصّل ماركس إلى أن الأفكار لا تعالج، كما كان ماديو القرن الثامن عشر يقولون، وكأنها انعكاس ميكانيكي خالص للمحيط المادي الخارجي أو للجسم الفيزيائي لحاملها كما لو أنها مثل “علاقة البول بالكليتين” وفقاً لتعبير أولئك الماديين الفرنسيين، وإنما هي في علاقتها مع “البناء التحتي”، تتولَد عبر عملية أكثر تعقيداً وتركيبية من خلال مسار العملية التاريخية، وهي ليست أبداً “مرآة خالصة أومحضة” للواقع المادي.
في هذا الصدد، كان الماركسيون العرب، في معالجتهم لقضايا الأفكار، والدين، والأسطورة، والفن…إلخ، أقرب إلى مادية “عصر الأنوار” الفرنسية (التي قطع معها ماركس عبر شتراوس وفيورباخ وأولاً من خلال هيغل) والتي اقترب منها انجلز، ثم بعده لينين وستالين بحكم مناخات الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وقد سادت فيهما الفلسفة الوضعية، وأيضاً بسبب تحالف الكنيسة الأرثودكسية مع القيصر الروسي، وقد هوجم جورج لوكاتش وكارل كورش وأنطونيو غرامشي من قبل المنظّر الأكبر للحزب البلشفي نيكولا بوخارين في العشرينات لأنهم أرادوا تثبيت القطيعة الفلسفية بين ماركس وتلك المادية الفرنسية التي اعتبرها لينين من “مصادر الماركسية الثلاثة وأقسامها المكوِنة الثلاثة” في مقاله المعنون هكذا عام 1913. والحقيقة، أنه في الكتاب الماركسي العربي الوحيد الذي يحوي نقداً فلسفياً للدين، وهو كتاب الدكتور صادق جلال العظم: “نقد الفكر الديني” والصادر أواخر الستينات، نجد أجواء المادية الفرنسية للقرن الثامن عشر، وليس مناخات شتراوس وفيورباخ وماركس، فيما مال ماركسيون عرب آخرون نحو تناول لرجال الدين، وممارساتهم وأفكارهم، يذكّر بأحد فرنسيي القرن الثامن عشر وهو فولتير، وإن كان عبر شكل ضعيف فلسفياً وركيك فكرياً، بينما نجد أنه وبالرغم من أن الخطاب الشفوي الماركسي العربي كان عند تناوله الدين يميل إلى تبني منطوق المادية الفرنسية فإن امتناع الأحزاب الشيوعية والماركسية العربية عن التناول الفلسفي للدين عبر شكل مكتوب كان يعود لأسباب سياسية وليس فكرية.
منذ الإنهيار السوفياتي، لم تتغير هذه المحتويات الفكرية – الفلسفية عند الماركسيين العرب (مع استثناءات قليلة منذ الستينات عند عبدالله العروي والياس مرقص) وإنما تحولت عند أكثرهم إلى شكل ليبرالي، بدلاً من الماركسي، فيما ظل المحتفظون بماركسيتهم محافظين على تلك المحتويات وإن بدون تصريح بحكم تلاقيهم مع قوى سياسية اسلامية على مقاومة المشروع الأميركي للمنطقة الآتي عبر غزو العراق واحتلاله. عند الليبراليين العرب الجدد، الذين أتى معظمهم من أحزاب أومواقع شيوعية وماركسية عربية ويتمظهرون فكرياً عبر العلمنة، أصبحت أفكار تلك المادية الفرنسية ممزوجة مع فكر سياسي أتى من مؤسس الليبرالية جون ستيوارت ميل المتأثر كثيراً بأوغست كونت الوريث الفلسفي لتلك المادية (في اليمين، فيما كان ماركسيون كثيرون كذلك في اليسار)، ويلاحظ، لدى الليبرالية العربية الجديدة، التي كانت في موقع التأييد للمشروع الأميركي للمنطقة، أن عدائها الفلسفي للدين، الذي تظهر محتوياته من خلال الحادية أوعلمانية أقرب للأتاتوركية عبر كتابات هي غالباً في مواقع ألكترونية، هو ممتزج أساساً مع عدائها السياسي – الفكري للحركات الاسلامية التي انفك تحالفها مع واشنطن إثر انتصار الأخيرة على موسكو في الحرب الباردة، كما أن الليبراليين العرب الجدد لم يلحظوا كيف أن مؤسس الليبرالية قد لحظ في أواخر حياته (توفي عام 1873) أن من الضروري معالجة الظاهرة الدينية عبر وظيفيتها الاجتماعية، وليس من خلال مناظير “الإيمان” و”الإلحاد” و”اللاأدرية”.
عملياً انقاد الماركسيون (وأيضاً العلمانيون الذين كان أغلبهم ليبراليين، ولوكان بعضهم مثل سلامة موسى موزعاً فكرياً بين الماركسية والوضعية، وسياسياً بين الشيوعية والفابية) بحكم الوضع المشروح في ما سبق إلى أن يكونوا استمراراً لباريس (وموسكو المتأثرة بها) التي قام بثورتها البورجوازية أناس مثل دانتون وروبسبيير الذين كانوا استمراراً لعلمانية والحادي مفكري “عصر الأنوار” الفرنسي، فيما قاد أناس انكليز متدينون من طائفة البيوريتان ثورة البرلمان (1642-1649) ضد سلطة الملك المطلقة ثم ثورة 1688 الملكية الدستورية. لهذا فإننا لا نجد في العالم البروتستانتي (لندن- برلين- واشنطن) تلك العلمانية الليبرالية (ولااليسار الماركسي سواء كان فكراً أو سياسة كما في ألمانيا) التي يفصل جدار كتيم بينها وبين الفكر الديني أوتلك الاتجاهات السياسية التي يقودها أناس متدينون ليسوا من فئة رجال الدين (إنجيلا ميركل، مثلاً)، الامر غير الموجود في فرنسا.
هنا، كان أهم درس قدمه القرن العشرون العربي (في ما يتعلق بالمسار السياسي) متمثلاً في حقيقة أن التيارات، التي تفاعلت مع الثقافة المحلية (البعث والناصرية) أو أخذت مخزونها الأيديولوجي منها(الإسلاميين)، كانت في حالة صعود وترسخ، فيماظلت تلك التيارات (= الماركسية- العلمانية الليبرالية)، التي لم تستطع (أولم ترد ) ايجاد حالة تفاعل أواستناد إلى عوامل الثقافة المحلية التي يشكل الاسلام أهم مكوِناتها، عند حدود القشرة السطحية للمجتمع العربي.
هل سيقدم الماركسيون (والعلمانيون الليبراليون) العرب، في القرن الحادي والعشرين، صورة معاكسة على هذا الصعيد تكون مختلفة عما شهدناه في القرن المنصرم؟
(كاتب سوري)
النهار