انقراض النّوع اليساري.. بؤس السياسة أم اليأس منها؟
سعيد ناشيد
لا تخلو معظم المجتمعات المتقدمة اليوم، ومعها بعض المجتمعات المتأخرة، من نقاشات حادة ومحتدمة، حول أزمة الأحزاب اليسارية، وتراجـع القــدرات الإشــعاعية والتثــقيفية لليسار الــعالمي. تحل هذه النقاشات وسط مخاوف من انقراض النوع اليســاري، ومن تبدّد الأمل في الخلاص الدنيوي وفي مستقبل زمــني أفــضل. من هنا تبدو أزمة اليسار العــالمي، والتي هي أزمــة وجود وبقاء، كأنــها أزمة الأمل في الخلاص الأرضي، وأزمة إمكان التقدّم البشري نحو حياة كريمة وعادلة.
أزمة اليسار العالمي، هي بمعنى من المعاني، أزمة روح حضارة ووعودها، أزمة آمال عصر وأحلامه، أزمة الإنسان المعاصر، في زمن اليأس السياسي وتدبير انعدام اليقين.
إذا كان الأمر كذلك، ولعله كذلك، فمن الملاحــظ أن معــظم ورشات النقاش حول أزمة اليسار، لم تتجاوز الجوانب السياسية والتنظيمية والانتخابية، ولم تشمل الجوانب النظرية والأبعاد الفكرية للأزمة، لا سيما أن اليسار العالمي كان طيلة القرن العشرين، حقل الممارسة النظرية لأهم مدارس وتيارات الفلسفة المعاصرة، إلى الحد الذي يتعذر فيه أن نفصل تاريخ الفلسفة المعاصرة، عن تاريخ اليسار العالمي.
وإذا كانت كلّ أزمة تنظيميّة أو سياسية، هي وعاء للأزمة الفكريّة، فبوسعنا أن نتساءل حول ما إذا كانت أزمة اليسار العالمي اليوم، مجرّد انعكاس لأزمة الفلسفة المعاصرة، باعتبارها روح العصر الذي نعيش فيه.
يتميّز المناخ الفكري والفلسفي، الذي طبع النصف الثاني من القرن العــشرين، بشيوع القيم الثقافــية المناهضة لما سُمي بالإيديولوجــيات الشمولية؛ سـواء في صيغتها اليَمــينية (النّازية)، أو في صيغتــها اليــسارية (الستالينية)؛ حيـث بَرز اتــجاه نقــدي، داخل الفلسفة المُعاصرة، يرى أنّ أهم المفاهيـم المؤســسة للإيديولوجيات الشمولية، هي مفاهيم؛ الوحدة، الهوية، الحقيقة، الغاية…إلخ.
وإذا أردنا نموذجاً لتوضيح هذا الربط الافتراضي، بين الإيديولوجيات الشمولية وتلك المفاهيم، فبوسعنا أن نقول انّنا لن نتمكّن من التفكير في أسباب نشأة الستالينية، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار المفاهيم المؤسسة لتلك الإيديولوجية، من قبيل مفاهيم الوحدة (وحدة الطبقة العاملة، وحدة الشعب، الحزب الوحيد…)، الهوية (الهوية الطبقية، الهوية الإيديولوجية…)، الغاية (حتمية الثورة والتقدّم التاريخي…)، كما لا يمكننا أن نفكر في أسباب نشأة النازية خارج مفاهيم الوحدة (وحدة الشعب الألماني)، الهوية (الهوية العرقية الآرية)، الغاية (الغاية التاريخية المتمثلة في تفوق ألمانيا لمُدّة ألف عام)، إلخ.
قامت حركة نقديّة داخل الفلسفة المعاصرة على أساس مُواجهة تلك المفاهيم، عبر تفكيكها وتقويضها، ومن أجل ذلك، راحت تتغنى بالانفصال والتشظي وبالأقليات، وشرعت في الدّعوة لمفاهيم مُضادّة، ومواجهة مفاهيم الوحدة، الهوية والحقيقة بمفاهيم التعدّد، الاختلاف والتأويل.
بالاستناد إلى هذه المفاهيم المُضــادّة، ومــوازاة مع الحــركة النقدية التي نشأت داخل الفلــسفة المعاصرة، منذ منتــصف الــقرن العشرين، انبثــقت روح يســارية جــديدة، روح ستــستند إلى مفــاهيم الاختلاف، التنــوع والتأويل، لتحمل لواء الدفاع عن حقوق الأقليات الثقافية، العرقيـة، الدينية، الجنسية واللغوية، وحقوق المُهمــشين والهامشــيين.
وهكذا انتهى المشروع المجتمعي إلى حالة من التشظي والتفــكيك، الذي لم يــسبق له مثيل، هذا في الوقت الذي يستــمرّ فيه الرّأســمال العــالمي متجــهاً نحو مزيد من الوحــدة والتوحيد، والتمركز والتركيز، والتجــمّع والتجميع.
في مُواجهة عُنف، يبــدو عقلانــياً هذه المرّة، انتهت الكثير من الحــركات النضالــية إلى تكريس القطيعة بين الحداثة والديموقراطية، وتحديداً بين العقلانية والــحرية، وهي القطيعة التي منحت لرجال الدين وللــقوى الديــنية فرصة العودة إلى الشأن الســياسي، عبر صناديق الاقتراع، الحريات الفردية وحقوق الإنسان.
من أجل مواجهة النزعات الشمولية التي توالت على أوروبّا منذ انتصار الثورة الفرنسية، مُستمدّة مشروعيتها من الحداثة (روبسبيير، بسمارك، ستالين…)، بدأ يتشكل تيّار نقدي جديد داخل الفلسفة المعاصرة، بموازاة بروز حركة نضالية جديدة داخل الجسم اليساري العالمي، وقد قاما معاً على أساس إعادة إسناد قيم الحرية، الديموقراطية وحقوق الإنسان، ليس على أرضية خارج الحداثة والعقلانية.
في هذا الخارج غير المحدّد طبعاً، نشأت تيارات من كل ألوان الطيف السياسي والفني والفكري، جميعها تلتقي حول العداء للعقلانية، من قبيل النزعة التفكيكية، الأدب السريالي، مسرح العبث، دون أن ننسى الدّور الحاسم الذي لعبه تأويل معين لفلسفة نيتشه، جعلها تبدو أكثر عداء لمبادئ الثورة الفرنسية ولقيم التنوير، وهو التأويل الذي تسرّب إلى شرايين اليسار العالمي وإلى شرايين الفلسفة المعاصرة، وإلى خلفيات اليسار العالمي، بتوسّط من كبار الفلاسفة المعاصرين، والذين يصنفون عادة ضمن ما يسمى باليسار النيتشوي (فوكو، ديريدا، بودريار، أونفراي…).
لقد سبـق لليــسار العالمي أن تعلم من ماركس كيف ينتقد الثورة الفرنســية، باعتبارها ثورة لم تفلح في تحقيق مبدأ المُساواة، وفق وعودها، لأنّ تحقيق المساواة لا يتوقف فقــط على التعليم العمــومي، المجــّاني والإجبــاري، تبــعــاً لمــا بشــرتنا بــه فلــسفة الجمهورية الفرنسية، منذ نابليون، ما لم يتمّ القضاء على التفاوت الاجتماعي بين بني البشر. لكن اليسار العــالمي الــيوم، تعلم من نيتشه أن يذهب بعيداً في نقده للثورة الفرنســية، فلا يدّعي أنّها لم تفلح في وضع المجتمع على سكة الطريق نحو تحــقيق مبــدأ المُســاواة، لكنه يدّعي أن خطأها يكمن بالذات، في أنها ابتـغت تحقيق مبــدأ المساواة، ذلك أن المُساواة، بحسب نيتـشه، تقتل إرادة التــفوق والحق في الاختلاف.
وهكذا تحوّل الشعار المركزي لليسار العالمي، والذي غالباً ما يوسم اليوم، بأنه يـسار نــيتشوي، الى يسار مابعد حداثي، يسار الأقليات، أو يسار ليبــرالي، من الحــقّ في المساواة إلى الحقّ في الاختلاف. في المقــابل، انحسر مبدأ المُساواة اليوم، في حــقل المسـاواة بين الجنسين، بعد أن كان في وثائق الثورة الفرنسية، يحيل إلى المساواة بين كافة المواطنين والمواطنات.
لقد ابتغى فلاسفة ما بعد الحداثة، تحرير الوجود الإنساني من كل تنميط عقلاني، باعتباره لن يكون في الغالب، وبحــسب ظنهم، سوى مسوغ للاستبداد، فجعلوا الإنسان المعاصر يسمو بحريته ويحلق بها بعيداً عن سلــطة العقل، وهكذا ارتفع الإنسان المعاصر في علــيائه، ولما أعـياه الارتفاع خارج سلطة العقل، انحنى بقداسة وإجلال أمام قوى اللاّوعي، أمام قدر الصيرورة، أمام الحتمـية البيولــوجية، أمام صراع الصــّدف، وأمام إعلان الموت السّريري للإنسان وللفاعلية السياسية للإنسان. هل هناك نهاية أخرى، غير هذه النهاية، التي تحملنا إليها ما يعرف بفلسفات اللاّوعي؟!
لقد انتهى يسار ما بعـد الحــداثة، بالوعي السياسي إلى الباب المسدود، حيث تــحوّل الــسؤال اليــساري التقــليدي، ما العمل؟ بمعنى ماذا نفــعل؟ إلى ســؤال عدمــي: لماذا نفعل أصلاً، طالما أن الحياة مجرّد صيرورة عمياء، كما يرى هيدجر، وصراع صدف، كما يقول فوكو؟
يَعتقد ميشيل فوكو أننا لم يعد بوسعنا أن نُغير الكثير، ومع ذلك، لا بدّ من أن نفعل شيئاً ما، وينكر ديريدا فكرة أن يكون للثورة مساء كبير، ولا يراهن بودريار على أكثر مما يسميه بالمتفردات، وهي حركات عنيفة ومعزولة، وغالباً ما تبدو غير مُبرّرة.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ السؤال الذي يجثم على أنفاس اليسار العالمي اليوم، هو: لماذا نفعل أصلاً؟ لماذا نتصرّف؟ فإذا كنا لا نمكث إلاّ في التأويل، فما مُبرر أن نبحث عن الصدق والحق والحقيقة؟ وإذا كانت الصورة والرّمز والعلامة والوهم، قد أمست بديلاً وتعويضاً عن واقع آيل إلى الأفول والزوال، فما مبرر أن نغير الواقع؟
يدعو ماثيو بوت بونفيل، جــميع الحــركات النضالية، إلى أن تتعلم من فلسفة ميشيل فوكو، كيف تناضل من دون حــاجة إلى التــمسك بمبدأ التقدم، وبلا حاجة إلى الإيمان بوجــود بديل نهــائي وقطعي، وكيف تناضل بعيداً عن أفق المعركة الأخــيرة، فتــخوض مــعارك جزئية بلا أمل أخـير وبلا غاية، وذلك هــو الدّرس الفوكوي لمناضلي اليوم1.
كلمات نابعة من حس صوفي ما بعد عقلاني، أكثر مما هي صادرة عن رُؤية استراتيجية، تهتمّ بالخلاص الدنيوي والأرضي والزمني للجنس البشري.
تحوّلت السياسة، في الخطاب اليساري المُعاصر، من فنّ الممكن إلى تدبير لليأس، والعيش بلا ضمانات، ومن دون حاجة إلى تحديد هدف للتاريخ أو معنى للحياة السياسية، وربّما استطاع المناضل الفرنسي، ماثيو بوت بونفيل (Mathieu botte-Bonneville)، وهو أحد أبرز مُناضلي المجتمع المدني العالمي، أن يلخص هذا التحوّل بدقة، حين قال:
«إنّنا لا نعــيش فقط نهــاية الحقبة الزمنية التي دشنها انتصار ثورة أكتــوبر 1917، وإنّما أيضاً نهاية الحقبة الزّمنـية التي دشنــتها فلسفة التـنوير، تلك الفلــسفة الــتي أضفت على التقدّم طابعاً تراكمياً، بفضله كنّا نؤطر معاركنا اليومية ضمن إطار مستقبل لن يكون إلاّ أفضل. أمّا اليوم فقد صارت المَرجعيات مُركبة ومُنشطرة، وما عاد بوســعنا أن نصنع المستقبل، إلاّ من خلال معارك جزئية، معارك لا تشترط لنفسها أيّ ضمانات»2.
إذا كنا نستطيع أن نتفهم كلاماً لمُناضل، من مُناضلي المجتمع المدني العالمي، يؤكد فيه أنّ الحقبة الزّمنـية التي دشنتــها الثورة الرّوســية عام 1917، قد انتهت، فإننا لا نستــسيغ كلامه حين يؤكد بأنّ الحقبة التي انطلقت مع فلسفة التنوير ومع الثورة الفرنسية، هي الأخرى قد انتهت، إلاّ أن يتعلق الأمر بتدمير مجاني لمبدأ التقدّم البشري نحو حياة أفضل.
أزمة اليسار العالمي، هي بمعنى من المعاني، أزمة رؤية عدمية للتاريخ وللمستقبل، رؤية تصرّ على تجريم العقلانية، تدمير مبدأ التقدّم والتبشير بإفلاس قيم ومبادئ الثورة الفرنسية، وهي بذلك، أزمة تهدد بانقراض النّوع اليساري.
Politis, 24 juin 2004 -1
Christophe aguiton, ATTAC contre la dictature des marchés,
éditions syllepse, 1999, p : 125.
([) باحث مغربي