ريم الجندي: لوحتي مدينيّة، وتشبه حياتي الشخصية
بيروت – حسين بن حمزة: لا تتخيل الرسامة اللبنانية ريم الجندي حياتها من دون الرسم. يومياتها وسيرتها الشخصية حاضرة في أغلب أعمالها. الرسم، بهذا المعنى، ليس ممارسة فنية محضة بل حاجة بيولوجية. حين تعمل الجندي على معرض فلا بدّ أن تكون فكرته مستمدة من تجربة شخصية، هكذا شاهدنا تجربتها الفريدة مع المرض في “أوقات لزيارة بينلوب”، و”طريق المطار” الذي كان ترجمة لفكرة الهجرة. اليوم تعمل على معرض جديد سيحمل عنوان “رجال”. لماذا؟ لأنها قررت أن تغيب عن مسرح لوحاتها هذه المرة، مانحة البطولة لرجال من أنماط مختلفة.
“الرأي” التقت ريم الجندي وكان هذا الحوار حول تجربتها وعلاقتها بالمدينة والتجربة الذاتية:
* كيف كانت البداية وكيف عرفت أنك ستكونين رسامة؟
– كان ذلك بالصدفة. تأخرت في اكتشاف الرسم. كنت أظن أني سأصبح كاتبة. فكرت بالسينما أيضاً. درست هندسة العمارة في الجامعة ولكني اكتشفت أنها لا تلائم مزاجي. ثم بالصدفة دخلت قسم الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية-الأميركية (LAU)وأدركت أن الرسم هو ما كنت أريده وأبحث عنه. من يعرفون مبكراً نوع التعبير الذي يريدونه هم أناس محظوظون. أنا تأخرت قليلاً، ولكن الأهم أني عرفت أن المتعة الأجمل التي ستقدمها لي الحياة هي الرسم فقط.
* هل الرسم طريقة حياة أم تعويض لسوء فهم مع الحياة نفسها؟
– الرسم ليس حاجة، وهو ليس متعة فقط. اللوحة ليست عملية استرخاء. هناك فكرة ينبغي البحث عنها وإيجادها ووضعها على القماش. هذا مسار متعب. المتعة موجودة في إنجاز اللوحة. لا أفكر كثيراً بما يمثله لي الرسم، إنه جزء أساسي من حياتي وحضوري في العالم اليومي الذي أعيشه. الرسم ليس تعويضاً عن أي شيئ. مع الوقت، صار حاجة بيولوجية بالنسبة لي. لا أتخيل نفسي بدون الرسم، ولا أعرف كيف يمكن أن أعيش بدون الفضاء التعبيري الذي يوفره لي.
* كيف تبدأ اللوحة؟
– بداية اللوحة أو التفكير الأولي بها تغير أكثر من مرة خلال مسيرتي. الانعطافة الأساسية حدثت خلال فترة مرضي الذي أنجزت معرضاً كاملاً عنه بعنوان “أوقات لزيارات بنيلوب” عام 2001. في بداياتي، كنت أشتغل على الورق وفق إيعازات عنيفة وتلقائية وحسية. كنت أرسم لوحات عديدة في وقت واحد. ثم أعود إليها لاحقاً وأقرر ما أحتفظ به منها وما سأمزقه. يمكنك القول أني تعلمت الرسم بالتمزيق. في تلك المرحلة، تعلمت أن أكون نقدية وقاسية تجاه عملي. تربيت على فكرة التخلي عما لا يعحبني وأفادني ذلك في التركيز على نوعية ما أنجزه. ثم جاء المرض. بيولوجياً، أُجبرت على ترك الرسم سنة ونصف. صار الرسم يحدث في رأسي. بدأ ذلك منذ استيقاظي في المستشفى من الغيبوبة. بدأت بالتخطيط لمشروع سأنجزه بعد أن أشفى. كل ما رغبت في رسمه قمت برسمه في ذهني. كنت عاجزة عن الرسم الفوري وتحويل أفكاري إلى لوحات، لذا تعلمت التفكير مطولاً قبل أن أبدأ الرسم. لم أعد أرسم بذاك العنف الحسي والتلقائي الذي اعتدته في البدايات. حين رسمت لوحات معرضي كنت أعرف مسبقاً ما سيُرسم عليها. كأني كنت أنسخها من رأسي. المرض غّير نوعية عملي وإيقاعه. كأني كنت أخون عالمي
السابق القائم على الأقنعة والتلقائية. أنجزت رسومات ذاتية لي، بينما الخلفية امتلأت بالأمصال والشاش الطبي وغيرها من لوازم المرض. رغم آلامها، كانت تجربة المرض تحريضاً على خيانة عملي السابق والذهاب إلى مناطق تعبير لم أكن سأفكر بها على الأرجح لولا المرض. هكذا تعلمت ألآ أمنع نفسي من خوض أي تجربة لاحقة طالما أنها تنتمي إلي وأنتمي إليها.
* هل هذا هو السبب في أن المعرضين الأخيرين كانا قائمين على فكرة مشروع أو تجربة متكاملة؟ كما أنك تعملين حالياً على معرض آخر بالمبدأ نفسه.
– هذا صحيح بطريقة ما. بما أن اللوحة صارت تبدأ بفكرة، فإن إنهاء الفكرة بلوحة واحدة لم يعد ممكناً. صارت هناك إمكانية لتسرب الفكرة إلى لوحات عديدة. هذا ما حدث في معرض “أوقات لزيارة بنيلوب” وفي معرض “طريق المطار” الذي دار حول فكرة الهجرة. حالياً أشتغل على فكرة “رجال”. أظن أن موضوع المعرض ليس هدفاً بل غالباً ما يكون حجة أو ذريعة. أنا أبدأ بفكرة أو بموضوع لكي أسهِّل على نفسي الدخول إلى مناخ العمل. أحس أن هذا يمنحني الشحنة الأساسية والضرورية للعمل. وما أن أبدأ فعلاً حتى تصبح استمراريته متأتية من الأشياء والتفاصيل التي تحدث في حياتي اليومية أو أكتشفها أثناء الرسم. موضوع “الرجال” مثلاً بدأ بنكتة حين قال لي أحد الأصدقاء: لماذا ترسمين نفسك دائماً؟ لمعت الفكرة في رأسي وقلت لِمَ لا أغيب تماماً عن لوحات معرضي القادم. وهكذا رحتُ أفتش عن أنواع وأنماط الرجال، فرسمت العسكري ورجل الدين وسوبرمان …. إلخ. بعد أحداث 7 أيار 2008 في بيروت، صار موضوع الرجال مجرد واجهة، فتسرب بحر بيروت وسماؤها إلى اللوحات الجديدة. أنت تعرف أن شغلي هو حياتي ويومياتي. بهذا المعنى، صار الموضوع حجة. الرجال صاروا سكان المدينة، بينما تفاصيل عديدة مخفية حضرت بحجة العنوان ولعبت دورها في تأليف اللوحات. إذا شبهنا الحالة بالطيران، فالموضوع هو مجرد عملية إقلاع، بينما الرحلة نفسها تستمر بطرق أخرى وتدخل فيها مستجدات واكتشافات كثيرة.
* كأنك تقولين أن التجربة المعيوشة هي إحدى مبررات عملك؟
– لكي أنجز لوحة علي الذهاب إلى المطرح الذي أعرفه وأكون صادقة فيه وأستطيع نقله. خياري هو إنجاز لوحة تشبهني. الحل الأهون هو الذهاب إلى مطرح جاهز. أنا أفضل التجريب والبحث عن شيئ خاص. طبعاً هذا يتطلب بحثاً مضنياً ومتعباً، ولكن لولا هذه العلاقة بين المتعة والتعب لما رسمت أبداً.
* تظهر بيروت بشكل واضح أو خفي في أعمالك، وخصوصاً في المعارض الأخيرة. هذه المدينة المهددة طوال الوقت بالأزمات والحروب، والتي نفكر في تركها ولا نفعل ذلك، ماذا قدمت لك؟
– بيروت أعطتني شخصيتي كلها. منحتني ما أنا عليه اليوم. انتمائي معادل لوجودي فيها. أحاول إيجاد الاستقرار والسكينة ولكني شخصية متوترة في عملي. علاقتي باللوحة تشبه علاقتي بالمدينة. في الرسم، لم أعد أفتش عن الهدوء. لا أرسم طبيعة ريفية أو جبلية. لا أستطيع البقاء في الريف طويلاً. أحتاج إلى صخب المدينة وأبواق السيارات لكي أنام. لوحتي بنت المدينة وحياتي كذلك. يمكنني أن ابقى أياماً لا أغادر فيها منزلي، ولكني أعرف أن المدينة في الخارج، وأني ما إن أفتح الباب ستهبّ في وجهي. أحس بالأمان لأني موجودة في الازدحام. لا تزعجني الضجة عندما أرسم. لا أسمعها تقريباً. أتذكر أني في السابق كنت أضع موسيقى أثناء الرسم. وغالباً ما كنت أكتشف أن الشريط انتهى بدون أن أنتبه. حالياً أرسم فقط. الغرق في العمل لا يُحيجني لأي مؤثرات خارجية.
فكرة الهجرة جاءت من خوفي على ابني الوحيد. لا أحب أن يعيش ما عشته في الحرب. لم أهاجر ولكن الفكرة تُرجمت إلى معرض. حياتي في هذه المدينة، رغم أزماتها، تقدم لي أفكاراً للرسم. في داخلي، لا أريد أن أهاجر. علاقتي ببيروت أشبه بامرأة مغرومة برجل يعذبها. علاقة حب مريضة. الهجرة بهذا المعنى تتحول إلى نوع من القلق والتذمر و”النق” ليس إلا.
* بعد تخرجك من قسم الفنون بسنوات، عدت للدراسة مجدداً واخترت فن الأيقونة. لماذا الأيقونة بينما نبرتك تنتمي إلى أكثر الفنون معاصرةً؟ وكيف يمكن خلط فن قديم في لوحة معاصرة؟
– عندما أنهيت درساتي الجامعية عام 1991 لم يكن ثمة دراسات عليا وقتها. بعدها تزوجت ومرت السنوات. عام 2002، عرفت أن جامعة الكسليك فتحت باب الدراسات العليا لأنواع مختلفة من الفنون. اخترت الأيقونة لأنها عالم مجهول بالنسبة لي. أردت أن أدرس شيئاً جديداً علي. ما حدث أن دراسة فن ديني كالأيقونة أتاحت لي فرصة ثمينة لدراسة تاريخ شعوب المنطقة الفني وحضاراتها المتعاقبة. معرفة أن هناك تواصلاً تاريخياً منذ ما قبل التاريخ حتى الوقت الراهن كانت اكتشافاً مهماً بالنسبة لي. الأيقونة ربطتني بسلالات وجعلتني أفهم لماذا أرسم. عندما رأيت الرسوم الجدارية لمعبد “دورا أوربوس” المكتشفة في منطقة “صالحية الفرات” والموجودة في متحف دمشق أدركت لماذا أرسم بنفس المنطق. أحسست أن أسلافي كانوا يرسمون في ذلك المعبد. تكرار الوجوه موجود عندي. اللون الحمر. الطريقة التي تنظر بها العيون. خطوط تحديد الجسم…. حين رأيت كل ذلك أمامي، صرت أبكي. دراستي للأيقونة أدخلتني إلى تاريخ الفن في المنطقة. في الجامعة كنا ندرس تاريخ الفن الأوروبي. بالمعنى التقني، الأيقونة فن ساحر. فكرة أن تبدأ رسم الجسم من الترابي المحروق، ثم الاشتغال على طبقات متتالية للوصول إلى الأبيض المضيئ. يذكرني هذا بكاميرات البولاريد ورؤية الصور الفورية وهي تظهر أمامنا بالتدريج. تسرّب الأيقونة إلى لوحتي أمر طبيعي. أنا أصلاً خليط من كل شيئ. لوحتي فيها أشياء من حيالتي وثقافتي. اللوحة هي التي تصنع التجانس والتجاور بين أشياء ومكونات قد تبدو متنافرة. إنها خلاصة لشخصياتي وأمزجتي وثقافاتي وميولي.
* ماذا عن الخلفية في أعمالك. هناك شغل يوازي أحياناً موضوع اللوحة الأساسي؟
– لا أحب أن أضع الأشخاص الذين أرسمهم في مكان واقعي. أمكنتهم هي لوحة تجريدية. الخلفية تحمل معنى المكان بدون أن تكون مكاناً. من جهة أخرى، أحب العمل على التضاد، لذلك غالباً ما تكون الخلفية ذات صفة تجريدية على الضد من موضوع اللوحة الواقعي المشخص. الشغل على شخص اللوحة قد يكون معاصراً أو أيقونياً، وتكون الخلفية مصنوعة من التكرار في الفن الإسلامي والمسيحي. عموماً الخلفية تكون متممة لشخص اللوحة أو جزءاً من حضوره.
* حياتك الشخصية حاضرة بكثافة في أعمالك. هناك أجزاء وشذرات من سيرة ذاتية واضحة.
– أكيد. أنا أرسم لوحات تشبه حياتي الشخصية. أن أرسم المدينة فهذا يعني أن أرسم أثرها علي. ليس ضرورياً أن أرسم المدينة نفسها. أنا أحذف ما لا أريده وأذهب إلى ما تبقّى. لوحتي مدينية لأنها على علاقة بيومياتي فيها. المدينة هي أيضاً خليط المكونات الذي تحدثت عنه في اللوحة. الخليط مثل الازدحام.. إحساسي مديني أيضاً.
* هل هذا أحد تأويلات الأصل الفوتوغرافي لمعظم أعمالك؟
– أنا أحب السينما وفن التصوير. فكرة السلالة تذهلني. أحب “مائة عام من العزلة” لأنها رواية سلالية. السلالة تعني لي أولاً ألبوم صور وعائلة. في البداية بدأت بصور أمي وأخوالي وأعمامي. ثم تطور الأمر إلى استخدام أي صورة تثير انتباهي. سبب آخر لغرامي بالصور هو سبب تقني وإجرائي. لا أطيق فكرة رسم موديل. أفضِّل أن أصور الموديل على أن أصلبه أمامي لساعات. في معرض المرض طلبت من أختي أن تصورني ثم رسمت نفسي في اللوحات.
* أخيراً، هل قرئت تجربتك بشكل جيد. هل أنت راضية عن النقد الذي كُتب عنها؟
– أنا ارسم لأقول أسراراً. أرسم اشياء وموضوعات واضحة، ولكن هناك سر أدسّه في اللوحة. ثمة خبث شخصي شرير إذا جاز التعبير. في اللوحة، تستطيع أن تُري الأسرار للمشاهد بدون أن تقولها، بينما في الكتابة لا بد من كشفها أكثر. كثيراً ما وضعت أسراراً في أعمالي، وأشك [ان أحداً انتبه لها. بهذا المعنى، أنا راضية عما يُكتب عن لوحتي كعمل فني، وراضية أكثر لأن أسراري لم تكتشف أبداً.