بين علقم الحقيقة ونَمِر الرغبات
سعد محيو
هل صحيح ما قاله روبرت كاغان بالأمس من أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والعراق، سيكون “كارثة استراتيجية مُحققة للولايات المتحدة”؟
الرئيس أحمدي نجاد سيسارع حتماً إلى الرد بالإيجاب. وكذا سيفعل العديد من خصوم أمريكا: من تخوم الشرق الأوسط الكبير وروسيا، إلى أعماق أمريكا اللاتينية، مروراً حتى بالأشقاء الأوروبيين.
المعادلة هنا بسيطة: أمريكا بلغت ذروة قوتها مع تحولها إلى القوة العظمى الوحيدة. ومثل أي شيء في قواعد الفيزياء أو التاريخ، السقوط يجب أن يلي الصعود.
هكذا كان حال كل الامبراطوريات في التاريخ: من الإغريق والرومان إلى الفرس والعرب، وأخيراً من الأتراك إلى الأوروبيين. والآن جاء دور الأمريكيين.
مؤشرات الانحدار الامبراطوري الأمريكي عديدة: عجز الولايات المتحدة عن استيلاد نظام عالمي جديد على رغم مرور عقدين على تفرّدها بالزعامة، فشلها (خلال عهدي بوش) في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يتلاءم مع شروط العولمة، نجاح حديقتها الخلفية أمريكا اللاتينية في شق طريق مستقل نسبياً (أو على الأقل فكرياً) عن “إجماع واشنطن”، وأخيراً فشل القوات الأمريكية في فرض تغييرات جذرية في العراق وإيران شبيهة بما فعلته غداة الحرب العالمية الثانية في ألمانيا واليابان.
كل هذه العوامل، تشجّع النجاديين وأنصارهم على التكهّن بأن انهيار الامبراطورية الأمريكية بات وشيكاً، وأن كل ما هو مطلوب الآن هو العمل على تسريع هذا الانهيار الحتمي. كيف؟ عبر مواصلة نهج المجابهة مع واشنطن بهدف استنزاف ما تبقى من قوتها، وإحراق ما تبقى من زخمها.
هل هذا التحليل في محله؟ بالطبع، التراجع في القوة الاقتصادية النسبية لأمريكا، أمر يعترف به حتى سكان البيت الأبيض. بيد أن هذا التراجع لا يترافق مع تقدّم قوّة (أو قوى) عظمى تنتطح للحلول مكان أمريكا. لا الاتحاد الأوروبي أو روسيا قادران على ذلك، ولا الصين تريده على الأقل حتى عقدين مقبلين.
والآن، وإذا ما تذكرّنا أن الولايات المتحدة هي أعتى قوة عسكرية في التاريخ وأنه لا غنى عنها لحفظ الأمن العالمي في هذه المرحلة، وأضفنا إليها التذكّر الآخر بأن الدور الأمني العالمي بات بطاقة أمريكا الوحيدة للحفاظ على قوتها الاقتصادية، لتبيّن لنا أنه من التسرّع كثيراً الحديث عن انهيار وشيك لروما الحديثة.
أجل. قد تنسحب الولايات المتحدة عسكرياً من العراق وحتى لاحقاً من أفغانستان. بيد أن ذاك لن يكون هزيمتها الاستراتيجية النهائية، تماماً كما أن اندحارها في الهند الصينية في السبعينيات لم يكن بداية نهاية زعامتها العالمية.
ثم، حتى هذا الانسحاب في حال حدوثه (وهو أمر ما زال مشكوكاً فيه)، لن يعني أن أمريكا ستترك صنابير النفط وقلب قارة أوراسيا لقمة سائغة في فم خصومها، في وقت يقترب فيه العالم من مرحلة نضوب الطاقة الأحفورية.
الصورة هنا يمكن أن تكون كالتالي: أمريكا عملاق يتعثّر، لكن لا أحد يريد أن ينتهز الفرصة للانقضاض عليه. ليس بعد على الأقل. وهذا ما قد يمدد في عمر امبراطوريتها، كما مدّد قبلها في عمر الامبراطورية العثمانية عقوداً طويلة.
حصيلة لن تروق لخصوم أمريكا، حتماً، لكن مواجهة الحقيقة على علقمها، أفضل من ركوب نمر التفكير الرغائبي المتسرّع على مخاطره!
الخليج