حقوق الإنسان بين الاغتصاب والخرق
د. طيب تيزيني
جاءت أنباء الحادث الهائل بفظاعته والمأساوي في دلالاته والمتمثل فيما فعله الجندي الأميركي في العراق (غريم) عام 2006 مع أسرة تتألف من الأبوين ومن طفلة صغيرة، إضافة إلى أختها التي هي -بالمقياس التربوي والفيزيولوجي والاجتماعي- مراهقة دخلت في سِنّها الرابعة عشرة.
والقصة تبدأ مع اقتحام الجندي \”غريم\” وآخرين من الجنود منزل الفتاة المذكورة، الكائن في منطقة المحمودية جنوب بغداد. فقتلوا الأبوين والطفلة، وانكفأوا نحو الفتاة المراهقة. فقام \”غريم\” باغتصابها وبإشباع غرائزه الوحشية. وبعد هذا وذاك، انقض عليها فأضرم النار فيها، في مشهد يوازي ضمير البشرية، ويضع وثيقة حقوق الإنسان العالمية من عام 1948 موضع رثاء استفزازي.
وإذ فُتح ملف هذا الغثيان الهمجي الآن بعد عامين من حدوثه، أثار مجدداً أسئلة على مَن أعلن الحكم على الجندي المجرم إيّاه، وهو \”السجن المؤبد\”. فلقد جاء في حيثيات هذا الحكم أن المجرم المذكور تصرف بوصفه فاقداً لوعيه وضميره، ولكل ما يجعل منه إنساناً. والإشكال الذي يواجهنا هنا، ويواجه القضاة والباحثين في التربية ومنظومة القيم الإنسانية، قد لا يتمثل في التحقق من صِدْقيّة القول بكون الجندي الأميركي غريم فاقداً لوعيه ولضميره، ولكل ما يجعل منه إنساناً، في أثناء ارتكابه الجريمة. بل إن ذلك الإشكال يدخل، بقوة، في محاسبة الجيش الأميركي عموماً والذي دخل منه أطراف إلى العراق تخصيصاً. فهذا الجيش المؤسَّس على مهمات إنجاز الحروب الأميركية المباشرة والاستباقية ضد شعوب العالم العربي وغيره، لا يمكن أن يكون -بمقتضى هذه المهمات- إلا مِن النمط المذكور، أي من النمط المُكلّف من أرباب المجتمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة. ومعروف من الأحداث القريبة -على الأقل- التي تطرح أسئلة الاتهام لمن صنع استراتيجيات الجيش المذكور، أن أمثال بوش الأب والآخر الابن وديك تشيني هم الذين أنتجوا مادة السؤال المركزي الذي صيغَ من موقع الثنائية الزائفة معرفياً والخطرة إلى حدّ الجنون سياسياً وأيديولوجياً، ثنائية الخير بإطلاق والشر بإطلاق.
أما ما يزيد الثنائية المذكورة زيْفاً وخطراً، فيقوم على تحديدها وضبطها في ضوء الاستراتيجية العولمية الأميركية المؤسَّسة، بدورها، على أيديولوجيا الليبرالية الجديدة المتوحشة، التي ترى التاريخ الحق والأهداف البعيدة والقريبة للبشرية متماهية فيها. في ضوء هذا المركَّب من المشكلات، يغدو مستحيلا أن تُفصل عملية التكوين السياسي والأيديولوجي والقيمي لأفراد الجيش الأميركي الاستعماري العولمي من هذه الأيديولوجيا. فالاستعلاء على الشعوب، ومن ثم النظر إليها على أنها حيوانات تدب على الأرض، أو -على الأقل- بمثابتها مستهلكين عبيداً لقيم الخنوع ، وهذا ما يفصح عن نفسه بصيغة \”المركزية الأميركية\”، التي تُعتبر وريثاً شرعياً لمنظومة الأفكار والقيم الأوروبية، التي تتجسد في المصطلح العِرقي \”المركزية الأوروبية\”.
من هنا جاءت المعطيات الجديدة، التي يلحُّ عليها أو على ضرورة تمثُّلها من قِبل الجيش الأميركي قادة وضباطاً وجنوداً، الرئيس الجديد أوباما، على الأقل بصيغ احتمالية مفتوحة على عدة مواقف. لقد أدرك الرئيس الجديد أن أميركا دخلت متاهات أخلاقية وثقافية (واستراتيجية) جعلتها تبدو أمام الشعوب غابة من إرادات ومؤسسات وآليات تسير على طريق التأسيس لعالم قد يكون نهايته. فهو يفتقد التوازن والالتزام القانوني والأخلاقي، إضافة إلى أنه يتوجه إلى التفكك، خصوصاً في سياق النتائج المأساوية المُستنبطة من ذلك، ومنها الأزمة المالية ولكن كذلك الأزمة الأخلاقية العظمى.
وقد أنتج هذا الواقع المتجه نحو الاضمحلال، سؤالا ضخماً راحت تصوغه مجموعات من الأميركيين المتمتعين بحدود العقلانية والحكمة والرؤية التاريخية الثاقبة، ذلك هو: لماذا لا تحب شعوب العالم الولايات المتحدة، ولماذا تسعى للتخلص من أوهام \”الأسلوب الأميركي في الحياة\”؟ وقد راح ذلك كله يُفضي إلى وعي تاريخي في أوساط أولئك الأميركيين، يعبّر عن الكارثة، كما حدث مع شبنجلر الألماني، حين كتب كتابه الناقد وإن برؤية تحتاج التدقيق: أفولُ الغرب. ولا شك أن ظهور أوباما قد يكون له ماله من الأهمية، في هذا السياق.
الاتحاد