أكراد العراق: هل يتحوّل المظلومون إلى ظالمين؟
صقر ابو فخر
يأخذ بعض «المثقفين» الكرد على المثقفين العرب عدم الوقوف إلى جانبهم في مواجهة الظلم المتمادي الذي تعرضوا له في حقبة صدام حسين. مأخذ غير دقيق وغير صحيح على الاطلاق. فالبلدان العربية، ولا سيما لبنان وسوريا، فتحت ذراعيها للأكراد الفارين من العسف والاضطهاد. والثورة الفلسطينية، في الحقبة اللبنانية خصوصا، استقبلت مئات، وربما آلاف الأكراد، ووفرت لهم الحماية والاقامة وحتى تسهيل مغادرتهم إلى الدول الأوروبية. ولا ريب في أن بعض المثقفين العرب طعن الأخوة العربية ـ الكردية حينما اتخذ موقف المناوأة للأكراد، وهذا أمر معروف. لكن هذا الاستثناء لا يعني شيوع العداء للكرد على الاطلاق. هذا العار لم يكن مقصورا على بعض العرب، فقد طعن مصطفى البرزاني قبل ذلك مشاعر العرب حينما زار تل أبيب، وسار بين الاعلام الاسرائيلية غداة الهزيمة المروِّعة في 5 حزيران 1967، ولم يلتفت إلى مخاطر توليد حالات العداء للأكراد في صفوف العرب. واليوم، لا يتورع بعــض الكتاب الكرد عن استعمال عبارات غير لائقة، من عيار «البلدان الناطــقة بالعـربية» أو «الاستعمار السوري للقامشلي» التي صارت في أفواه هــؤلاء «قامشلو»، وهو تزوير يفضح مقدار التعصب الذي يصر عليه بعض المروّجين لمثل هذه السياسة المضللة، فضلا عن عقدة الدونية القومية تجاه العرب.
لعل هذا الموجز لمناقشات مع أصدقاء أكراد، يوضح بعض النقاط:
أولا: إن حس العدالة، والإحساس بأهمية حق تقرير المصير للشعوب المضطهدة، ومن بينها الشعب الكردي بالتأكيد، يدفعانني، كمواطن عربي، إلى الاعتراف بحق الأكراد في الانفصال عن العراق في ما لو اختاروا هذا المركب الخشن. لكنني انتظر من شركائي في المواطنة ان يكتشفوا بأنفسهم، ومن غير أي إكراه، أن الانفصال ليس حلا تاريخيا جيدا لهم ولنا نحن العرب. وربما كانت الفيدرالية هي الحل الممكن، لكنها ليست الحل الأفضل. والمثال اليوغوسلافي برهان على فشل الفيدرالية في حماية الأقليات.
ثانيا: إذا كنتُ، كعربي، أقبل حق تقرير المصير للأكراد بما في ذلك الانفصال، فلماذا يتمادى كثير من الكرد في استعداء العرب، وكذلك استعداء السريان والآشوريين وغيرهم بمواقف عنصرية، وباستعلاء قومي؟ ان بعض الخرائط التي ينشرها قوميون متعصبون كرد، وهي خرائط مضادة لعلم التاريخ بالتأكيد، تضم الموصل وشمال العراق وغرب إيران وجنوب تركيا وشمال سوريا وأجزاء من أرمينيا وأذربيجان. وعلى سبيل المثال، فإن كركوك وسنجار وخانقين لم تكن لتضم إلا عددا قليلا من الأكراد حتى العقود القليلة الماضية. وهذه المدن الثلاث ظلت دائما، طوال تاريخها، جزءا من بلاد الرافدين.
حتى أن مدينة أربيل (أي الآلهة الأربعة) كانت مسيحية إلى ما بعد العصر المغولي بزمن طويل. وأبعد من هذا فإن مدينة الحسكة السورية هي مدينة سريانية بالكامل، ولم يكن فيها أكراد حتى زمن العثمانيين. والهجرة الكردية إليها بدأت في سنة 1926، ومن تركيا بالتحديد. وحتى لو تحولت الحسكة، بالتدريج، إلى مدينة ذات أغلبية كردية، فهذا لا يبيح لأحد أن يبني على مسألة العدد شأنا قوميا. ومن الغلو القومي اعتبار مدينة الرها التاريخية وكذلك نصيبين مدينتين كرديتين، بينما يخلو التاريخ البعيد والقريب من أي أثر كردي في هاتين المدينتين، بل يزدان بتراث سرياني باهر، وبتاريخ عظيم للمدارس المسيحية النسطورية واليعقوبية وغيرها.
ثالثا: ان حدود كردستان التاريخية مسألة تثير، بلا ريب، المنازعات القومية الشرسة. فبلاد الأكراد بحسب النظريات الأقرب إلى العلمية هي «شهرزور» وحدها. والكرد أبدعوا كثيرا في فضاء اللغة العربية وفي فضاء السياسة العربية، ولم يكن لهم أي حضور مهم خارج هذه اللغة (أستثني اللغتين الفارسية والتركية). ولعل السبب عائد إلى أن كردستان في شمال العراق هي، في معظمها، جبال عاصية، وشبه مغلقة، وممراتها ضيقة، ولم تكن معبرا لقوافل التجار، ولم تكن واقعة على طرق التجارة الدولية في العصور القديمة. ولهذا لم يتكون فيها مركز جذب على غرار الحواضر المجاورة كحلب ودمشق وبغداد. والحضارات القديمة قامت كلها تقريبا في السهول الخصبة المفتوحة، وليس في الجبال المغلقة. وقد عرفت الثقافة العربية أعلاما كبارا من الكرد (وإن كان معظمهم تعرّب او اكتسب هوية موطنه) أمثال أحمد شوقي وعباس محمود العقاد ومحمد كرد علي وقاسم أمين وحسين مردان وسليم بركات وغيرهم كثيرين، ولمع من بينهم قادة كبار أمثال ابراهيم هنانو ويوسف العظمة وجلال بابان وخالد بكداش (انظر: صقر أبو فخر، «وطن واحد للعرب والكرد معا»، القدس العربي، لندن، 29/10/2003).
رابعا: ان وقوفنا إلى جانب الكرد، وهو موقف مبدئي، يجب ألا يجعلنا نغمض عيوننا على سياسة طرد العرب من شمال العراق، لأن سياسة الطرد هذه (الترانسفير) هي نظرية عنصرية في جوهرها. وقد وقع الكرد في ما وقع به نظام صدام حسين حينما نفذ عمليات طرد همجية. فما الفرق، إذاً، بين الصهيونية والاستبداد الصدامي و«العنصرية» الكردية الجديدة؟
إن حق العودة للأكراد الى ديارهم التي طردوا منها يجب ألا يعني طرد العرب من الأمكنة التي يقطنون فيها مهما كانت أسباب هذه الاقامة. فهم عراقيون أولا وأخيرا.
خامسا: العلاقة الكردية ـ الاسرائيلية أمر كريه، ومنفِّر أدبيا وأخلاقيا وسياسيا. فما دامت القضية الفلسطينية بلا حل، فلماذا التسابق على فتح الأيدي للاسرائيليين في العراق، وفي شماله بالتحديد؟
ولا يجدي التذرع بأن بعض الدول العربية تصالحت مع اسرائيل، أو أن بعض الفلسطينيين عقد اتفاقات مع اسرائيل. ان الصراع مع اسرائيل لا يزال مفتوحا بقوة وشراسة. ونحن الذين طالما نظرنا إلى الحركات السياسية الكردية على أنها، في معظمها، حركات تحرر وطني، نرى الآن أن من المعيب على حركات التحرر الوطني ان تقيم علاقات وثيقة مع كيان عنصري مثل اسرائيل.
سادسا: يطالب بعض الأكراد العرب بالاعتذار عما حل بالأكـراد من مظالم في القرن العشرين. والأجدى أن نسعى إلى التطلع الى المستقبل بدلا من الرقاد في الماضي. وفي هذه الحال، فإن كثيرين سيطالبون الأكراد أنفسهم بالاعتذار عن المذابح التي ارتكبتها بحقهم «الفرق الحميدية» منذ سنة 1843 وما بعد، وسيطالب عشرة آلاف سرياني بالاعتذار وبحق العودة والتعويــض جراء المذبحة التي نفذها الأمير بدرخان ضـدهم بين 1843 و1847، وجراء مذابح السريان في الجزيرة الفراتية، ومذابح السريان في ماردين والرها سنة 1895، ومذابح سنة 1908 في شمال سوريا، عــلاوة على إبادة 300 ألف سرياني بين 1914 و1919 في العراق وسوريا، وطرد جميع سريان طور عابدين وماردين واربـيل ودهوك والموصل إلى سوريا والعراق في سنـة 1924. وسيبادر الأرمن إلى المطالبـة بالاعــتذار أيضا عن المذابـح التي أوقعــها بـهم الكرد في سـنة 1895 في ماردين والرها، وإبادة مليون أرمني (بحسب الرواية الأرمنية) في سنة 1915. (انظر: صقر أبو فخر، «الأكراد ومستقبل العراق»، القدس العربي، لندن، 13/6/2003).
سابعا: الحل الأمثل في شمال العراق، أي في كردستان العراق، ليس الانفصال، وليس حتى الفيدرالية. فالفيدرالية في الاتحاد السوفياتي لم تضمن عدم تعرض الشيشان للقمع والاضطهاد، والفيدرالية اليوغوسلافية لم تحمِ سكان كوسوفو من التذويب، والفيدرالية في السودان ونيجيريا وأندونيسيا لم تقِ المسيحيين القتل، والانفصال دونه أهوال وحروب أهلية لا يمكن التكهن بنتائجها على الاطلاق.
ان قيام عراق ديموقراطي علماني ذي نظام دستوري يقرره شعب العراق كله، عربا وكردا وتركمانا وكلدانا وآشوريين وصابئة… الخ، قد يكون ممكنا. وهذا النظام الدستوري يكون العقد الاجتماعي فيه بين الدولة الديموقراطية الحرة ومواطنيها الأحرار والمتساوين، بصفة كونهم مواطنين في دولة. ولا يمكن أن تستقيم أحوال العراق، والبلدان العربية الأخرى أيضا، الا بالانتقال الحاسم للمجتمع من مجتمع قائم على الولاءات المذهبية والعشائرية إلى مجتمع قائم على المواطنة والدستور والقانون.
السفير