سلوك بغداد الخطير
فاضل الربيعي
بالأمس، كان تقارب العراق مع سوريا أمراً محظوراً، واليوم يجب أن يصبح تقارب سوريا مع العراق أمراً محظوراً وممنوعاً ومحفوفاً بالمتاعب والعواقب الخطيرة. هذا هو المغزى الحقيقي لانهيار علاقات دمشق مع بغداد.
لقد أظهرت أزمة العلاقات العراقية السورية التي تفجرت عقب أحداث يوم الأربعاء الدامي (19/8/2009) حيث جرى -بشكل مفاجئ وسريع وصادم لكل المشاعر والتوقعات- استدعاء متبادل للسفيرين العراقي والسوري من عاصمتي البلدين، أن ما حدث ليس أزمة دبلوماسية عابرة ومألوفة وقعت بين بلدين شقيقين وحسب، بل هو استطراد عنيف في تاريخ دبلوماسي وسياسي مأزوم وشائك.
كما أن الأزمة الراهنة تكشف عن نفسها وبأتم المعاني والدلالات، بوصفها تطوراً عاصفاً في مسيرة العلاقات الدبلوماسية داخل النظام العربي الرسمي برمته، بأكثر مما هي مجرد تعثر في العلاقات الدبلوماسية بين عاصمتين عربيتين.
إن رجاتها الزلزالية الأولى التي سمعت في أرجاء العالم العربي وأثارت الذعر والذهول عند الجميع، يمكن أن تعصف بالفعل -في حال فشلت الجهود الإيرانية والتركية في تطويقها بالسرعة المطلوبة- بكل التقاليد والأعراف الدبلوماسية التي تقيد بها النظام العربي.
ولعل الذين تسنت لهم مراقبة رّد فعل دمشق عن قرب، يمكنهم أن يتلمسوا هذا المعنى المحدد وقد جسدته المخاوف الرسمية والشعبية، لا بسبب تعثرّ مسيرة التحسن في علاقات البلدين الشقيين، بل من الطريقة التي تصرفت فيها بغداد مع دمشق، فهي سلكت معها سلوكاً غريباً، شبيهاً بمن يقدم للآخرين صديقاً جديداً، ولكن بوصفه عدواً قديماً يجب الاقتصاص من كل أفعاله.
إن الانهيار السريع لعلاقات البلدين اليوم (أغسطس/آب 2009) يكاد يّذكر المراقبين بالانهيار المماثل الذي حدث لهذه العلاقات قبل ثلاثين عاماً بالضبط (يوليو/تموز عام 1979) عندما كان العرب يتابعون بغبطة إبرام الميثاق القومي بين سوريا والعراق.
آنذاك كان الرئيس حافظ الأسد، يقوم بأول زيارة رسمية إلى العاصمة العراقية بدعوة من الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر، للتوقيع على أول وثيقة تنظم العلاقات بين البلدين وصولاً إلى الوحدة والتكامل. وفجأة، وبعد أقل من 48 ساعة تقريباً من عودة الرئيس الأسد، فجرّت بغداد قنبلتها المدوية، وأعلنت عن “اكتشاف مؤامرة سوريا” للإطاحة بنظام البعث الشقيق في بغداد.
اليوم، وبعد أقل من 48 ساعة على عودة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من دمشق، بعد زيارة هدفت إلى توثيق الروابط بين البلدين، فجرت بغداد “القنبلة القديمة” المدفونة في التراب، والتي ظن السوريون أنها عتيقة ولن تنفجر مرة أخرى. لكن “قنبلة المؤامرة” انفجرت ثانية لسوء الحظ، بعد ثلاثين عاماً بدا أنها كافية لنسيان الماضي.
بيد أن أزمة اليوم بخلاف أزمة الأمس، تكشف عن نمط غير مألوف أو معتاد في الأعراف الدبلوماسية حتى بين الدول المتخاصمة والمتناقضة في السياسات والمصالح -فما بالك بين بلدين شقيقين تجمعهما المصالح المشتركة والمخاوف ذاتها من مخاطر الهيمنة- إذ ليس أمراً مألوفاً أو مقبولاً إحالة قضايا الخلاف الثنائية التقليدية إلى مجلس الأمن الدولي، كلما دقّ الكوز بالجرّة، وكلما توفرت بعض الدلائل الظرفية والظنية بأن الطرف الآخر لا يراعي كفاية أمن ومصالح الطرف الآخر.
إن مشاعر الصدمة والذهول التي تلقى فيها السوريون تصريحات صديقهم الحميم نوري المالكي والتي هدد فيها، بأنه “لن يسكت بعد الآن” ثم تلويح وزير خارجيته هوشيار زيباري باستخدام “سلاح المحكمة الدولية” لحمل دمشق على الإذعان لمطالب تسليم “محرمين مفترضين” يقيمون في سوريا ويقومون بأعمال إرهابية، انطلاقاً من أراضيها، هي التي تبيّن وبجلاء تام، طبيعة هذا التحول الهائل في شكل الأزمة ومضمونها.
ولذلك، فليس من المبالغة في شيء القول، إنها لم تعد مجرد أزمة عابرة في تاريخ حافل بالأزمات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين. وإلى هذا كله, فإن التلويح بإنشاء محكمة جرائم حرب قد يرقى -من حيث دلالاته السياسية والأخلاقية والأمنية كذلك- إلى مستوى التهديد بالحرب الفعلية.
وهذا ما يجسد بدقة معنى التحول الخطير في علاقات النظام العربي الدبلوماسية، ذلك أن تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، والطلب منه تشكيل محكمة جرائم حرب “لاقتياد دمشق” كمتهم ضالع في ارتكاب “جرائم افتراضية” ليس زلة لسان، أو تصريحات انفعالية، وإنما هو شروع في تصعيد النزاع السياسي إلى مستوى الصراع المسلح.
والأدّق، أن التلويح بهذا السلاح، يعني أن طرفاً رئيساً في النظام العربي الرسمي، بات مستعداً اليوم، لأن يضع بين أيدي الغرب كل ما يحلم به من ذرائع لتحطيم شعوب وبلدان المنطقة، بل وأن يقوم بالنيابة عنه بتنفيذ الأهداف التي استحال عليه تحقيقها. ولذلك كله، سوف تبدو بغداد، ومهما كانت مبرراتها وذرائعها، وكأنها الطرف الذي سعى إلى استغلال حادث بعينه، لتأسيس تقاليد دبلوماسية جديدة، يمكن للأميركيين بفضلها أن يحققوا أهدافاً سياسية لم ينجحوا في تحقيقها بوسائل عسكرية بعد.
ولشدّ ما بدت الأزمة في الساعات الأولى لتفجرها، وكأنها تخطت حدود الخلاف الدبلوماسي التقليدي، لتنتقل بسرعة مثيرة إلى طور جديد تصبح فيه المواجهة الدبلوماسية العنيفة بين العواصم العربية الشقيقة موضوعاً أو شأناً دولياً لا مسألة داخلية أو ثنائية بين بلدين.
والحقيقة التي لا مناص من رؤيتها في سلوك بغداد الخطير هذا، أنها أدخلت ودون سابق إنذار، النظام العربي الرسمي برمته في “عصر دبلوماسي” جديد لا سابق له، يمكن أن تصبح “الدبلوماسية” فيه، لا مجرد وسيلة ناعمة لتحسين وترطيب وتطوير العلاقات بين الدول، أو أن تساهم في تحييدها، وإنما أن تصبح أداة رهيبة في حسم الخلافات التقليدية.
وهذا هو التطور النوعي الخطير في سلوك بغداد. لقد رسمت بغداد بالفعل، ومن خلال تلويحها بسلاح “دعوة مجلس الأمن لتشكيل محكمة دولية” على غرار محكمة الحريري، ملامح عصر دبلوماسي جديد، سوف يتاح فيه لأي نظام، أن يحسم خلافاته أو تناقضاته مع نظام عربي آخر، وإذا شاء أن يتخلص منه، لا بواسطة المدافع والطائرات والجنود، بل بواسطة “دبلوماسية المحاكم الدولية”.
وهذا بالطبع نوع جديد من الدبلوماسية يجري الترويج لفعاليتها غير المحدودة اليوم، من خلال نماذج رائجة في المنطقة والعالم، لعل أقدمها محاكمة الرئيس اليوغسلافي ميلوسوفيتش، وأحدثها قرار اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير (ومن قبل محاكمة صدام حسين كمجرم حرب).
إن “دبلوماسية المحاكم الدولية” التي اكتشفت بغداد فجأة، أنها يمكن أن تكون نافعة وفعالة في مواجهة دمشق، قد لا تكون مصممة لمواجهة العاصمة السورية وحدها، بمقدار ما تبدو وكأنها دعوة موجهة إلى النظام العربي بأسره لكي يعتنق “عقيدة المحاكم” وبحيث يصبح هذا النظام محكوماً بقواعد، وتقاليد اللجوء إلى هذا السلاح في أي وقت وأي ظرف، ومهما كانت المبررات والعواقب والكوارث.
لقد صدم الشارع السوري بالطريقة التي عالجت فيها بغداد موضوع التفجيرات الإجرامية، وبنوع السلاح الذي هددت باستخدامه، وهاله أن يرى الغضب العراقي وقد أخرج رجال السياسة في المنطقة الخضراء عن أطوارهم، وكأنهم تحولوا بين ليلة وضحاها من أشقاء، يجب التعاطف والتضامن معهم إلى “خصوم” تقطر الرعونة من تصرفاتهم. وخليق بالمرء وهو يراقب هذا السلوك الدبلوماسي الخطير لبغداد أن يلاحظ ما يلي:
أولاً: إن “دبلوماسية المحاكم الدولية” التي لجأت إليها بغداد، بشكل مفاجئ وخارج كل التوقعات والأعراف، تشكل -من المنظور القانوني- سلوكاً خطيراً مهما كانت مبرراته، وهو يجسد بدقة درجة التحول المذهلة التي بدأت تطرأ على العلاقات الثنائية داخل النظام العربي الرسمي، فها هو بلد عربي يحتفظ بأوثق الصلات مع بلد عربي شقيق، يقوم –وفي إطار أزمة تقليدية- باستخدام سلاح “الخارج” من أجل إرغامه على الاستجابة لمطالبه.
ولأن بغداد هي العاصمة العربية الوحيدة التي تجرعت بمرارة، وعلى طريقتها الخاصة، كأس “التدخل الخارجي” ولا تزال تعاني منه سكرات الموت كل يوم، فإن مسارعتها إلى “تعميم” منافع التدخل الخارجي “لإحقاق الحق” و”معاقبة المجرمين” لا يعني سوى أنها لم تتعلم الدرس بعد، وأن كل ما أصاب الأمة من مصائب، لم يوقظ بعد في ساستها مشاعر القلق من السياسات المغامرة.
ثانياً: إن النظام السياسي في العراق، بوصفه نتاج وخلاصة التدخل “الخارجي” أي نتاج الغزو العسكري الأميركي المباشر (والذي جرى بذرائع مماثلة، مثلاً المطالبة بكشف أسلحة التدمير الشامل واتهام العراق بصلات مع القاعدة) هو النظام السياسي الوحيد في المنطقة الذي يمكن، ويجب أن يرسل المسؤولون فيه إلى محكمة جرائم حرب دولية، فهذا النظام مسؤول عن مصرع أكثر من مليون ونصف المليون من الضحايا الأبرياء.
إنه لمن المحزن رؤية المفارقة الساخرة ذاتها، وقد تكررت مرة أخرى، فها هنا “كذبة” شبيهة بكذبة أسلحة الدمار الشامل التي حطمت بغداد، وقد أعاد السياسيون العراقيون إنتاج “طبعتها السورية” خدمة لمصالح الخارج نفسه. بيد أن هذه المفارقة تصبح ساخرة بصورة لا توصف، حين يقوم باستخدامها هذه المرة، السياسيون أنفسهم الذين كانوا من مروجيها وصنّاعها.
وكما يقال عادة، فإن الأحمق وحده هو من يكذب الكذبة ويصدقها. واليوم ما من أحد إلا ويتذكر، أن الذين صنعوا كذبة “أسلحة الدمار الشامل” ضد بلادهم، وهم الآن حكامه، كانوا أكثر حماسة حتى من الأميركيين لاستغلال “الكذبة” وتصديقها.
ولذلك، سيبدو سلوك بغداد خطيراً ومشيناًً، لأنه يقوم على استغلال بشع لدماء ضحايا الأربعاء الدامي، وهذه المرة في معركة هي –في خاتمة المطاف- لحساب الخارج نفسه.
ثالثاً: إن العقيدة الأمنية للنظام السياسي في العراق، تقوم على أسس خاطئة وباطلة، خلاصتها أن المأزق الراهن هو “مأزق أمني” ناجم عن تدخلات دول الجوار العربي والإقليمي. لقد أسس الأميركيون أركان هذه العقيدة منذ اللحظة الأولى لدخول العاصمة العراقية، حين أوهموا العالم كله، أن كل شيء على ما يرام في بغداد، لولا “المتسللين الأجانب” وبشكل أخص من سوريا. ثم جاءت المقاومة العراقية الباسلة لتلقي بهذه النظرية في برميل القمامة.
وفي الواقع، ليست المشكلة في العراق ولم تكن في الأصل، مشكلة أمنية ناجمة عن عجز وفشل الأجهزة في السيطرة على الملف الأمني، بل هي ناجمة عن حالة استعصاء سياسي وانسداد أفق الحل الوطني. وحين تبادر بغداد إلى تقديم مقاربة جديدة للحل على أسس وطنية صحيحة، فإن الأزمة الأمنية سوف تكون قابلة للتفكيك بسهولة.
قبل ثلاثين عاماً حين أصغت دمشق إلى اتهامها بتدبير “مؤامرة لإسقاط الحكم” في العراق، رددت بصبر وتعقل، تماماً كما تفعل اليوم حين تصغي إلى الاتهام نفسه في طبعته الجديدة (قلْ هاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين).
الجزيرة نت