العراق في أزمته مع سورية وأزمته في صنع قراره
كامران قره داغي
في أعقاب تفجيرات «الأربعاء الدامي» في 19 آب (أغسطس) الماضي في بغداد، ومنها تفجيران أمام وزارتي الخارجية والمال، أسفرت عن سقوط نحو 1000 قتيل وجريح، بدا أن العراق دخل في فوضى سياسية لم يخرج منها حتى الآن.
في الحال بدأ تراشق بتصريحات متناقضة ومتضاربة واتهامات متبادلة اتخذت أحياناً طابع مناوشات كلامية شملت وزارات وأجهزة امنية ومسؤولين حكوميين ونواباً وسياسيين، وعموماً مؤسسات الحكم على أعلى المستويات. الحدث المأسوي اكتسب بعداً تجاوز الجوانب الأمنية الداخلية المتصلة بجريمة التفجيرات ومنفذيها ومساءلة الجهات الأمنية والمسؤولين عنها. الجوانب الأمنية المرتبطة بالتفجيرات تكاد تصبح هامشية مقارنة بمسألتين رئيستين فرزهما «الأربعاء الدامي»: صنع القرار السياسي و… سورية.
بداية، حق العراق واضح وعادل في أزمته مع سورية. لكن التطورات التي أعقبت تفجيرات «الأربعاء الدامي» تعكس في الوقت نفسه أزمة العراق في صنع القرار، وهذه لا بد من تبرئة دمشق منها. فهذه التفجيرات والتطورات قسمت المؤسسة السياسية العراقية الى معسكرات. جهة تتهم بالتقصير وزارة الداخلية (الأمن والشرطة) وأخرى تشير بإصبع الاتهام الى وزارة الدفاع (الجيش)، وهاتان تعلنان براءتهما وتتهمان، ضمناً، رئيس الوزراء باعتباره المسؤول الأول عن ملف الأمن الوطني وقيادة عمليات بغداد. وزير الخارجية هوشيار زيباري اتهم من جهته عناصر في أجهزة الأمن قال انها تواطأت مع منفذي العملية، بغض النظر عن وصول الشاحنة المحملة متفجرات الى محيط الوزارة قبيل تفجيرها. ولم يمض يومان على التفجيرات حتى أعلنت الحكومة اعتقال مدبرها وأظهرته على شاشات التلفزيون ليعلن انه نفذ العملية بأوامر صدرت مباشرة من قيادة حزب البعث البائد المتمثلة بزعيم أحد جناحيه محمد يونس الأحمد الذي يتخذ سورية مقراً له. هذا التطور تحديداً كثّف الانقسام وجعله يبدو كأنه اقتصر على معسكرين: الأول يتهم سورية والثاني يبرئها، مع أن الأمر ليس بهذا التبسيط في الواقع.
لعل الانقسام يعكس أزمة صنع القرار السياسي في العراق، وليست الأزمة مع سورية سوى مثال صارخ على ذلك. الحكومة العراقية ممثلة بمجلس الوزراء أدخلت البعد السوري في القضية بتبنيها اعترافات المنظم المزعوم لعملية التفجيرات ومطالبته دمشق ان تسلم للسلطات العراقية الأحمد وعناصر اخرى ضمن قائمة تضم 179 شخصاً تؤويهم سورية. ويشار الى ان جناح الأحمد ينافسه جناح بعثي آخر بزعامة عزة الدوري، النائب السابق لصدام حسين، الذي يؤكد مسؤولون في بغداد انه يتخذ اليمن مقراً له. هكذا تم اعلان قرار مجلس الوزراء تكليف وزير الخارجية الطلب من الأمم المتحدة تشكيل محكمة جنائية دولية تنظر في ما وصفه القرار بجرائم حرب ترتكبها قوى خارجية ضد الشعب العراقي.
هنا يبدأ أول اشكالات صنع القرار السياسي. فمجلس الوزراء يفترض انه يمثل تشكيلة ائتلافية تضم كتلاً وأحزاباً رئيسية يشكل ممثلوها المنتخبون غالبية في مجلس النواب. لكن هذا لا يمنع ان تتخذ قيادات القوى المؤتلفة في الحكومة مواقف مغايرة لموقف الحكومة الأمر الذي يحيّر كثيرين، وطرح السؤال في شأن عدم التطابق بين موقف يتخذه وزير ينتمي الى جهة مشاركة في الحكومة وبين موقف قيادة هذه الجهة وسياسييها وأعضاء يمثلونها في البرلمان من الموضوع ذاته. في الوقت نفسه تتخذ قيادات جهات أخرى في الائتلاف الحكومي مواقف داعمة بقوة لقرارات مجلس الوزراء.
وزير الخارجية هوشيار زيباري قاد حملة رئاسة الوزراء، التي اعتبر انها تمثل اعلى سلطة تنفيذية، لمطالبة دمشق بتسليم المطلوبين من قبل العدالة العراقية الذين ادرجت اسماؤهم في قوائم الإنتربول بناء على طلب بغداد. زيباري شكا علناً من قياديين سياسيين مشاركين في الائتلاف الحاكم بسبب اتخاذهم مواقف مغايرة لموقف الحكومة، مما يضعفها ويفقدها الاحترام. ولعل قلة الاعتبار لبغداد تمثلت في تصريحات للرئيس السوري بشار الأسد الذي اعتبر طلبها تدويل القضية موقفاً «غير اخلاقي»، على حد تعبيره، معتبراً ان «الحلول الصحيحة تأتي من أبناء المنطقة تحديداً. التدويل دليل على ضعفنا، عدم قدرتنا وعدم أهليتنا، وهو اعتراف بعدم أهليتنا في ادارة شؤوننا سواء أكانت صغيرة أم كبيرة».
تقويم يجوز الاتفاق معه كمبدأ. لكن من يمكنه ان يقدم ولو مثالاً واحداً على ان «أبناء المنطقة» استطاعوا ذات يوم أن يأتوا بحل صحيح لمشكلة من مشاكلهم؟ في اي حال كلام الأسد هذا استتبع رداً من زيباري: «الكلام عن عدم أهليتنا بسبب لجوئنا الى مجلس الأمن تجنّ كبير لأن الوضع أصلاً مدول ليس في العراق فحسب وإنما في سورية ايضاً وكل المنطقة العربية، فقضية الجولان والمحكمة الجنائية في لبنان والصراع العربي – الإسرائيلي كلها مدوّل».
نعود الى أزمة صنع القرار العراقي. مثال صارح آخر على ذلك يعكسه بيان أصدره مجلس رئاسة الجمهورية إثر اجتماع عقده قبل ايام للبحث في تطورات أبرزها موقف الحكومة من ســورية. المجلس، المؤلف من الرئيس ونائبيه، وكلهم ممثلون عبر كتلهم الســياسية في الحــكومة الائتلافية، أعرب ضمناً عن استيائه مما يعتبره انفراد الحكومة بصنع القرار، مشيراً الى انه قرر «كتابة سلسلة رسائل بهذا المعنى الى دولة رئيس الوزراء والأمين العام للجامعة العربية تتضمن موقف مجلس الرئاسة الذي يصر على اهمية استشارته وأخذ موافقته في القضايا الرئيسية والأساسية». الكتابة الى رئيس الوزراء مفهومة لكن السؤال هو: ما هي علاقة الأمين العام للجامعة العربية بالعلاقة بين ركني السلطة التنفيذية في العراق المؤلفة وفقاً لدستوره من مجلسي الرئاسة والوزراء؟
قصارى الكلام ان تفجيرات «الأربعاء الدامي»، وما اسفرت عنه من أزمة مع سورية»، تطرح مجدداً أزمة صنع القرار السياسي في العراق على أمل أن تساعد هذه الأزمة المؤسسة السياسية في ايجاد التوازن المطلوب بين مفهومي الحكم بالتوافق والحكم بالائتلاف، وبالتالي كي يوضع صنع القرار على الطريق الصحيح.