الحق يُقال!
الياس خوري
هناك مشكلة في هذا التعبير الذي يتردد دائما في ادبياتنا المحكية والمكتوبة. فحين نستخدم عبارة ‘الحق يُقال’، كمحطة كلام، نقوم عملياً بتفريغ العبارة من معناها، عبر ادخالها في اللغو الذي صار بديلا من اللغة.
لكن اذا اردنا العودة الى احترام معنى العبارة، فالحق يُقال ان كل شيء يتعفن في المشرق العربي.
وسبب التعفن ليس المطحنة السياسية اللبنانية، او عدم التوصل الى وحدة فلسطينية، او الدوران في حلقة التوريث في مصر، او الدعارة اللغوية التي يتقنها عصر الاستبداد العربي، او الاستمرار في الاعتقالات السياسية في سورية، والى آخره… هذه وغيرها ظواهر التعفن واعراضه. اما سبب التعفن، فهو العجز، والحق يُقال.
وحين اتكلم عن العجز، فالمقصود مسألة واحدة وجوهرية، اسمها العجز عن خوض الحرب، او عن التلويح بها. اسرائيل تعلم ان الأنظمة العربية ليست قادرة على الحرب، ولا تبحث عن توفير هذه القدرة. لذا تُمعن قمعا واستيطانا وعربدة. هناك كمية هائلة من الذلّ العربي، لا تستطيع الأنظمة تغطيتها بكل مساحيقها الكاذبة. لذا تقوم الأنظمة عمليا برعاية وضبط تفكك المجتمعات العربية. اي بإبقاء التفكك عند حدود الانفجار الاجتماعي، بحيث لا يتجاوز حدا معينا.
هذا هو النصاب السياسي في المشرق العربي، الذي تقوده عمليا ثلاث دول هي السعودية ومصر وسورية. استراتيجية هذ الأنظمة المختلفة حينا والمتصارعة في احيان اخرى، هي كيفية ابقاء التفكك عند حدّ معين، وهذا يتم عبر تصديره حينا، كما في لبنان، او ضبطه بقسوة كما في الخليج، او تنفيسه كما في مصر. هذا لا يعني ان هذه الأنظمة لا تشعر بالخطر الاسرائيلي، لكنها وقد فقدت القدرة على الحرب، تلعب معه لعبة توازنات معقدة. سورية تقاتل بحزب الله حينا، وتهدد بتحالفها مع ايران في حين آخر، مصر تلعب لعبة حافة السلام كبديل لحافة الحرب، والسعودية تضغط بالمتاح، والمتاح قليل.
محصلة هذا الواقع ليس الارتباك فقط، بل العجز. لأن ضبط التفكك، الذي يبدو متاحا اليوم، قد يصير مستحيلا في ظروف دولية متغيرة. ولأن الهوس الاسرائيلي بالاستيطان في الضفة الغربية والقدس، سوف يعني تبدد احتمالات الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا يعني عودة الى منطق عام 1948، الذي قاد الى انهيار الأنظمة العربية، وسيادة الانقلابات العسكرية.
نستطيع تلمّس الاصرار الاسرائيلي على نسف اي احتمال لولادة الدولة الفلسطينية، من خلال متابعة المسار المعقد للمفاوضات الامريكية ـ الاسرائيلية. ففي الوقت الذي تسعى فيه ادارة اوباما الى التوصل الى حد ادنى من العقلانية، يضمن المصلحة والتفوق الاسرائيليين، لكنه يأخذ في الاعتبار ان مستلزمات التسوية، تفرض حدا ادنى من التنازلات الاسرائيلية، تمعن اسرائيل في التصلب الأهوج.
اشارت الصحف الاسرائيلية في الأمس الى نموذجين لهذا الهيجان الاستيطاني: النموذج الأول: قرار نتنياهو ببناء خمسمئة وحدة سكنية جديدة في مستعمرات معاليه ادوميم وارييل وغوش عتصيون، اي حوالي 2500 شقة سكنية، اضافة الى الاستيطان الوحشي المفتوح في القدس. اما النموذج الثاني فيتمثل في قرار بناء مستعمرة جديدة اسمها مشخيوت، في غور الأردن، من اجل مستوطني شيرات هيم التي اخليت في غزة.
لن اسأل السلطة الفلسطينية عن مصير خريطة الطريق التي تفخر بأنها طبقتها، لأن الخريطة المذكورة تتضمن وقفا للتمدد الاستيطاني. فمثل هذه الاسئلة لا تجدي، خصوصا واننا ننتظر تطبيق قرارات مؤتمر حركة فتح، الذي تمسك بخيار المقاومة، واملنا ان لا ننتظر كثيرا، لأن الانتظار سوف يعني الانهيار.
ماذ يعني هذا الكلام؟
انه يعني ان اسرائيل تناور على جبهتين:
الجبهة المسلحة في لبنان وغزة، وعنوان المناورة هنا هو التجميد والتهديد في آن معا.
وجبهة المشروع السياسي السلمي، عبر تحويل السلام صدفة فارغة.
اي ان الاستراتيجية الاسرائيلية تقوم على تأجيل المؤجل، في انتظار بلورة واقع يصير من المستحيل تجاوزه. وهذا لا يعني سوى امر واحد: توريط الأردن في امن السكان وليس الأرض في الضفة، والقاء مسؤولية الأمن في غزة على مصر، والمناورة مع سورية حول الهيمنة على لبنان واسترداد جزء من الجولان.
انها استراتيجية انهيار المشرق العربي برمته، وشطبه من المعادلة الاستراتيجية، وتعريقه (نسبة الى العراق) اذا امكن.
مواجهة هذه الاستراتيجية ليست متاحة بالأدوات التي تستخدمها الأنظمة العربية. بل ان هذه الأدوات صارت عبئا، لأنها تحولت الى منحدر نحو هاوية لا قعر لها. فلعبة تقطيع الوقت هي في مصلحة اسرائيل اولا. وكان آخر علامات الغطرسة الاسرائيلية جولة ليبرمان الافريقية اتي تهدف الى محاصرة مصر مائيا من خلال منابع النيل. فهذا الفاشي، الذي اقترح ضرب السد العالي بقنبلة نووية، يسعى الى تفريغ بحيرة السد من مياهها.
الجواب الوحيد على هذا الواقع التفكيكي هو الحرب. اي ان تشن حرب على اسرائيل على غرار حرب تشرين، هدفها زعزعة الثقة الاسرائيلية المفرطة، وتبريد الرؤوس الحامية.
هناك تعبير اسرائيلي يصف انسانا فقد المنطق واصيب بعظامية مفرطة يقول: ‘صعد البول الى دماغه’.
هذا هو واقع اسرائيل اليوم. وانا لا احب الحرب، ولا تطربني طبولها الهمجية، لكن حين تجد ان بلادك تتفكك بسبب العجز وان جميع استراتيجيات المواجهة الجزئية، سواء اكانت سلمية ام مسلحة، فشلت، فهذا يعني ان امام النظام العربي خيار واحد: الحرب او الاندثار.
لا ادري اذا كانت الطُغم العربية الحاكمة تعرف ذلك، لكن ما اعرفه انها كمن يلحس المبرد، وان سياسة النعامة التي تتبعها، سوف تقود الى انهيار عربي شامل لا سابق له.
هذا هو الحق الذي يجب ان يُقال، قبل فوات الأوان.
القدس العربي