العام والخاص في الحراك المعارض
بدر الدين شنن
يستحق الحراك المعارض ( الذي يشتمل على قوى ورموز معارضة ) أن يتواصل حوله الكلام ، فيما كتب عنه وماسيكتب . على الرغم من أن أكثر ماقيل فيه ، خاصة في الفترة الأخيرة ، كان نعياً وليس نقداً . وذلك للقيمة الجيو- سياسية – التي يتمتع بها مسرحه السياسي بالنسبة للصراع الجاري دولياً وإقليمياً لتغيير خريطة المنطقة ، ولنوعية التعارض الشمولي المميز ( مضمون المعارضة ) مع النظام ، ولأشكال وإشكاليات البنى الذاتية والتحالفية والآليات التي اعتمدتها قواه وفصائله في تجاربها العديدة ، وللخلفيات الاجتماعية والفكرية السياسية المتباينة التي تنعكس على مسائل الخيارات الاجتماعي الاقتصادية ، لاسيما العلاقة مع الخارج ، المتعددة الاجتهادات ، فهي تأتي ضمن الرؤية الدولية ( العولمة ) بالنسبة للبعض” للحداثيين ” في السياسة ، وضمن حسابات ذات هوى مادي غربي لبعض يرى ، أن لاخارج يعني ا ن لاتغيير في البلاد ، وضمن مبدأ الرفض مهما تكن النتائج .. المهم الحرص على الوطن أولاً بالنسبة لبعض ساد منطقه اللفظي والفعلي ، التي لعبت ( العلاقة مع الخارج ) دوراً كبيراً ولاتزال في سيرورته ومصيره . ويستحق كذلك لضرورته التاريخية في الظروف الإقليمية والدولية التي يتحرك من خلالها .. التي ستكون لها منعكساتها السلبية أو الإيجابية على مشروع التغيير المحلي والإقليمي .
بمعنى أن هذا الحراك لم يأت بناء على ا ستدعاء النخب السياسية والثقافية ، ولم تصنعه زعامات ” تاريخية ” ، وإنما جاء انعكاساً لظروف موضوعية ، ا ستدعت ، وتجاوب معها ، من يملكون القدرة على إضاءة الواقع ويملكون القدرة على المبادرة والحركة في التفاعل مع مستجدات واحتياجات هذا الواقع . على أن المبادرين ظلوا محكومين طوال عقود بعدم التفوق على النظام ، بانتظار أن يتجاوزا ذواتهم النخبوية ، بالتحول إلى حالة شعبية جماهيرية سياسية واسعة ، ليتجسد ماهوفي الحراك من مصداقية ، وتفهم تقدمي للمسائل الاجتماعية السياسية ، كمعبر مطابق ل” اللحظة التاريخية ” ، ليصبح مشروع التغيير الديمقراطي ، ليس مجرد نزعة انقلابية ا ستبدالية نخبوية تستنسخ نفسها ، بوجوه جديدة ، كل بضع سنوات ، بل برنامجاً سياسياً اجتماعياً يشكل إضافة ملموسة في السلم الاجتماعي الإنساني والحضاري ، ويصبح التغيير الشامل البديل بمثابة ” حتمية تاريخية ” لابد أن تظهر وتنتصر .
وإذا ما سلمنا جدلاً ، أن احتياجات الواقع ” التاريخية ” وا ستحقاقات الراهن الموضوعية المحلية والإقليمية ، هي التي ا ستدعت الحراك المعارض وليس العكس ، كما يتوهم البعض . واستدعت أنشطة عبر عنها حراك النخب ، حسب تجربتها السياسية والحركية الناقصة في المرحلة الماضية ، فإن أنشطة الحراك المعارض إجمالاً سوف تستمر ، بحكم الضرورة ، في حالة وحدة وتناقض بحتة ، حتى تحسم موازين القوى لمصلحة من ، من مكونات الحراك السياسية والطبقية ستكون النتائج ، وحتى تكون النتائج .. أي الريح كما تشتهي السفن الشعبية .. فإن معايير ومفاهيم أصحاب هذه الاحتياجات السياسية الاجتماعية .. أي الطبقات الشعبية .. المعبرة عن التطابق مع حركة التاريخ المعاصرة بعد إفلاس النظام الرأسمالي لاسيما في الأطراف ، ينبغي أن تكون خلفية قرار الحراك .. وأن تهيمن على دفة مساراته .
وإذا كان من الصعوبة الآن أن يحدث ذلك ، فعلى الأقل ينبغي ا ستلهام واحتواء طروحاتها الوطنية النبيلة ومطالبها المشروعة ، وذلك جوهري جداً ، لأن أصحاب هذه الاحتياجات لديهم مناعة ضد مخادعة الصفقات الطبقية . إذ أن هذه الصفقات لاتتم إلاّ على حساب مصالحهم ، التي يقاتلون من أجلها ، ويريدون التغيير للحصول عليها . وفي أية صفقة ما بين خصوم ينتمون للطبقة الاجتماعية المستغلة الواحدة ، ستكون حقوقهم وكراماتهم موضوعاً وحطباً لتلك الصفقة .
وهنا تبرز جدلية العام والخاص في الحراك المعارض . أي علاقة ماهو عام ، المجسد حالياً ، الذي تجمع عليه مختلف مكونات الحراك المتمثل بالديمقراطية بما هو خاص المتعدد بمضامين سياسية واجتماعية أخرى ، متعلقة بمسائل بالغة الأهمية .. بدور الخارج كوجهة نظر حقوقية تضامنية قابلة للنقاش تحت سقف الوطنية والتزاماتها الحدية .. أو دوره بأي شكل كان .. بأي ثمن للحصول على ” الديمقراطية ” الملتبسة مقابل ارتهان الوطن للخارج ، ومتعلقة بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها ودودرها الاجتماعي الاقتصادي .. هل ستقوم هذه الدولة بتكريس مؤسساتها لصالح اقتصاد السوق .. أم ستكرسها لصالح اقتصاد اجتماعي يحجم الاستغلال والاحتكار .. ويوجهه لصالح بناء اقتصاد اجتماعي اقتصادي ديمقراطي يضمن العدالة الاجتماعية لكل أبناء المجتمع ، ومتعلقة بالصراع مع الكيان الصهيوني حول الجولان وحول المقاومة والقضية الفلسطينية .. هل ستنخرط بالمشروع الصيو – أميركي ، بإعادة تشكيل الشرق الأوسط .. أم بالمشروع الإقليمي التحرري القومي .
وهنا محور ما أردت الالتفات إليه بعد تجربة ( المبادرات ) المتعددة المسيئة للحراك المعارض .
وهذا مايثير السؤال ، هل يجوز لأي فصيل أو فرد ، يزعم أنه من الحراك المعارض ، أن يطرح ويسلك ، با سم التغيير الديمقراطي ، موقفاً مستقلاً يخرج عن فضاء الحراك الوطني العام ، بأن يذهب مثلاً إلى توسل الدعم ” الديمقراطي ” من أعداء الوطن الذين لهم وما زالوا تاريخ عريق بالتآمر عليه ، وهم مارسوا ويمارسون أبشع الجرائم الدموية ضد شعبنا وضد ملايين الأشقاء في بلدان عربية عدة ، لاسيما في العراق ولبنان وفلسطين والصومال والسودان ، أو يذهب إلى دعم النظام فيما يسمى باقتصاد السوق ، الذي يتسبب بانحدارات الفقر والآلام الاجتماعية للغالبية العظمى من أبناء شعبنا ، أو أن يعلن تعليق معارضته منفرداً للنظام .. ويتجه إلى ممارسة الصفقات التصالحية معه ، ما يؤدي إلى تفكيك الحراك المعارض وتشتيته .. ؟ ..
ولعدم وجود ميثاق مشترك يضع خطوطاً خضراء وحمراء تلتزم بها مكونات الحراك ، وعدم التقيد بما عبرت عنه قوى من الحراك أحياناً ، رمزياً وضمنياً ، بالتزاماتها الديمقراطية والتضامنية ، فإنه عندما يجري تجاوز الحراك السياسي المشترك ، إن في التراجع أو التفرد المغاير ، أو التطرف ، في المواقف السياسية المعارضة بالتصاريح النارية في غير وقتها وليس لها إسناد شعبي أو حركي ، يتلاشى الحراك لصالح النظام دون مقابل .. وتتلاشى المناعة أمام العجز والركود والجمود .. بل وأمام موقف بأن تتخلى قوى من الحراك عن مشروع التغيير الوطني الديمقراطي الاجتماعي .. والالتحاق بالنظام أو القبول بمواقع سياسية بينية ” اللامعارضة ” .
وهذا يؤكد ما طرحه الكاتب في المقالين السابقين حول ركود المعارضة . من أن معارضة ( حراك معارض ) ذات انتماء اجتماعي طبقي مشترك مع أهل النظام ، لن تكون معارضتها ( معارضته ) للنظام جذرية تناحرية . ويمكن أن تعقد فيما بينها والنظام صفقات تصالحية ، ومن أن الطبقات الشعبية هي المؤهلة لإيصال الصراع مع الاستبداد السياسي والاقتصادي إلى خواتمه الحاسمة ، وإقامة البديل
المغاير للنظام الراهن .
آخر الطروحات اللافتة ضمن الحراك المعارض ، ماعبرت عنه أمنيات ورجاءات علنية من قبل شخصيات منها الملتزم ومنها المستقل ، حول ضرورة فتح صفحات الحوارات التصالحية مع ا لنظام ، دون السؤال عن مسؤولية الماضي المشحونة بذكريات وآلام ممتدة إلى اللحظات الراهنة بممارسات القمع والاعتقالات والمحاكمات المتوالية دون توقف ، سواء كان ذلك لنشطاء سياسيين أو حقوقيين ، ودون توفر أبسط شروط التكافؤ بين المتحاورين . ما يعني بكل وضوح ، مع تمترس النظام خلف المادة ( 8 ) من الدستور وخلف حالة الطواريء والأحكام العرفية ، وتملكه السيادة المطلقة على مؤسسات الدولة الأمنية والتنفيذية ومختلف مجالات السلطة ، بينما قوى الحراك مجردة من الحقوق السياسية وبعضها مجرد من الحقوق المدنية ، يعني تقديم الاستقالة من المعارضة ومن السياسة والالتحاق بالنظام .
بايجاز شديد ، إن النظام لايمكن أن يتخلى عن الجدار الذي يوفر له ، شرعيته ، واستقراره ، واستدامته ، تلبية لنداءات إجراء حوار مع معارضة غير ندية له ، بزعم ” من أجل وطن للجميع ” ما يعني أنه ، نظرياً وعملياً لاحوار بالظروف السائدة الآن ..
لذلك ، ينبغي على قوى الحراك السياسي الأساسية ، أن لا تحاول تغطية العجز والجمود والركود في حالتها الراهنة ، بالتحول من الاعتماد على الخارج ، حمال ديمقراطية مزيفة إلى الاعتماد على الحوار اللامتكافيء .. ينبغي أن لا تفكر بمخارج ، تنتظر ، أن تأتيها بمثابة هدية من أحد .. وإنما ينبغي أن تصنعه هي بأيديها .. بأيدي قوى الشعب التواقة للحرية والعدالة واللقمة الكريمة .
عودة على بدء ، إذا جاز لنا الاستمرار باستخدام مصطلح الحراك في السياسة ، فهل لنا أن نتصور وحدة موقف جامعة أو وحدة رأي ثابتة في أنشطة هذا الحراك ، الذي هو قائم أصلاً على تعدد الألوان أي تعدد المواقف والآراء ؟
أعتقد أنه رغم أن مكونات هذا الحراك في حالة إجماع حول الديمقراطية بجوهرها التمثيلي وحسب ( وبعدها كل له نبي يصلي عليه ) باعتبارها قادمة من خلفيات اجتماعية اقتصادية وسياسية متعددة ، فإنه لمصلحة هذا الإجماع المحدود ، إذا تماسكت ( إلتزمت ) بما هو مشترك ، ومنحت االحراك ، بعامة ، ا ستمرار الوجود مع التعددية والخصوصية ضمن ما هو عام عريض ، تستطيع أن تمنحه الاستدامة التي تستدعيها الظروف ، أما إذا تمايزت وانفردت ، نشاذاً ، وانتهازاً ، فإنها ستدفعه إلى التفكك .
العقدة في الحراك السياسي السوري ، أن تعدديته السياسية تكاد تكون دون جذور اجتماعية ، وهذا ما يجعله هشاً إزاء مواجهات ساخنة ، وما يؤكد أن غياب القوى الاجتماعية الطبقية يحدث الخلل الأسوأ في حسابات الحقل والبيدر في مسار التغيير .