عندما نكتب على حبال مشدودة
رزان زيتونة
نكتب أو لا نكتب، تلك هي المسألة، فضاء الورق أضيق من خرم إبرة، لابد من التأقلم مع نقص الأوكسجين، الحبر أزرق شفاف، أفضل من لون فاقع في دنيا الأسود والأبيض، الأفكار تتوالى، اقفز من فوقها قبل أن تجرفك، القلم لا يستكين، استخدم الكمبيوتر، هو أسهل انقياداً.
تلك بعض قواعد الكتابة في السيرك. كاتب سوري مقيم في الخارج كتب منذ أسابيع، إننا نمشي على حبال مشدودة، على يمينك الهاوية، وعلى يسارك هاوية أخرى، انتق عباراتك بدقة، حرف عطف بغيض، أو كسرة في غير محلها قد تفقدك توازنك. غموض الموقف يغدو حلاً أحياناً، المصطلحات الكبيرة أو اللغة المعقدة، أو الإغراق في الشعر والإيماءات، والمعنى في قلب الكاتب المتأرجح على الحبال. قد تفكر في لبنان وتكتب عن موزمبيق، تبتدع إسقاطات وتستخدم رموزاً، قلمك في يدك، ويدك على قلبك، تلك هي حال الكتابة في عالم الممنوع والمحرم، غير المسموح وغير الآمن. مع الوقت يغدو الأمر حرفة، يبتسم المرء في سره كلما أدرك مدى إتقانه لها. يضرب كفاً بكف، حين تفوته تغييرات في جديد الممنوعات وتوابعها، أو حين لا يجدي الحذر ولا يغني عن مساءلة، يبذل جهداً نفسياً وفكرياً مضاعفين، من أجل أن يصل إلى نقطة النهاية قبل أن يهوي، جميلة هي نقطة النهاية، حيث الأمان المؤقت بانتظار كلمة البداية الجديدة.
يتساءل المرء أحياناً، لو كان من الأجدى أن يتنحى عن رقصة الهاوية تلك، يكتب ما يريد أو ما يستطيع، يكتب أو لا يكتب.
بعضهم أراد أن يعبر عن ألمه للاعتداء على «المستقبل» إذاعة وتلفزيون وصحيفة. دبج صفحتين في نقد التيار العائدة إليه، قبل أن يعبر في سطرين عن رفضه لتفجير الصوت كما الأجساد. انفِ عن نفسك تهمة «شائنة» قد توجه إليك. قاعدة أخرى نسينا إدراجها في القائمة أعلاه. قراء الداخل قد يفهمون لغتك السحرية، يقرؤون ما بين السطور والكلمات. تواطؤ جميل يسري ما بين الكاتب والكاتب، وأولئك والقارئ.
على النقيض تماماً، كتاب الخارج، خصوصاً منهم كتاب الإنترنت، يكتبون كما لو كانوا يتحدثون مع أنفسهم، بلا تنميقات أو مداورات أو محاولات لحفظ التوازن منعاً للسقوط. يكتبون لقرائهم ممن يعيشون معهم خارج عالم الممنوع. يرفعون السقف ويتخطون المحظورات جميعها، الكلمات عاصفة والعبارات غاضبة، وفي الداخل، غالباً ما يثيرون خوفاً في القارئ، بمجرد المرور على العنوان وأول بضع كلمات، يحركون بالقلم إرث الخوف كله، يرفعونه عالياً، كجدار بين كلماتهم وعيون القارئ، لا حاجة بهم للتساؤل، حول كتابة ما يريدون أو ما يستطيعون.
القارئ غالباً ما يعبر عن خوفه هذا بتشكيكه في مصداقية ما يقرأ، يقول هي مبالغات، أو ربما أكاذيب، يكتبون ما يريدون، لكن القارئ يقرأ ما يستطيع! في الحالتين، هي عوارض الكتابة الناجمة عن نقص الإضاءة. تحايل بريء على حرية الكلمة في الحالة الأولى، وانتقام صاخب من قمع حرية الكلمة في الحالة الثانية. وفي الحالتين، الكاتب ليس حراً. تقيده ظلال السجون في الأولى، وظلال الثأر من السجون في الثانية.
في الحالتين أيضا، الكتابة هي فعل حياة، محاولات لا متناهية للتدرب على الحرية وممارستها، لتجربة حلاوة القلم ضمن واقع شديد المرارة، وهي في علاقة تبادلية مستمرة، بين ما نريد أن يكون، وما نسعى لأن يكون، وما هو كائن بالفعل.
أي استرخاء نسبي في الأوضاع الأمنية والسياسية، يترافق دائماً مع دفق جديد من الكتابة والكتاب. وكل تضييق وتشديد، يشكل فيه استمرار الكتابة فعل مقاومة وإيمان، لكن وبطبيعة الحال، يبقى لون الكلمة، شكلها ورسمها، متأثرين إلى حد بعيد في الفضاء المحيط بها.
خلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، الشاعر فراس سعد، والمدون الشاب طارق البياسي، والمدون الشاب كريم عربجي، مثلوا أمام محكمة أمن الدولة، وبديع دك الباب مثل أمام القضاء العسكري، وحبيب صالح اعتقل منذ أيام للمرة الثالثة، جميعهم تهمتهم الوحيدة، ما نشروا من مقالات وكتابات عبر الإنترنت.
أي شكل للكلمة يولد في مثل هذا الفضاء؟ نريدها مضيئة وصادقة وأمينة، تلك هي الكلمة كما يجب أن تكون. يتعايشان بصعوبة، الكلمة والواقع. هي تسعى إلى خلق الأفضل، وهو يسعى إلى خنقها، يتعاركان ويؤثر كل منهما في الآخر، والقصة مستمرة.
* كاتبة سورية