صفحات ثقافية

من استحى مات

null


جمانة حداد

عندما تمتد يد الى قلم صحافي أو الى ورقته، فهي تمتد لأحد أمرين، إما لتسطّر فيعلو صوت وإما لتمحو فينكتم صوت. ما جرى في الأسبوع الفائت وطاول زملاء ووسائل إعلامية يندرج – يا للعار – في الباب الثاني، ويفضي الى تعميم الصوت الواحد والرأي الواحد والحزب الواحد.

لقد جرى ما جرى من تمريغ للصحافيين وللصحافة، هنا، في هذه البيروت، التي نسمّيها عاصمة للديموقراطية ونصفها بأنها دار عزيزة للتعبير عن حرية الرأي وتعدديته في هذا العالم العربي المتمادي في ظلامياته وكتماناته. فأيّ عاصمة، وأيّ ديموقراطية، وأيّ دار للتعبير عن حرية للرأي؟!

وأراني أسأل: ما جرى، هل يخدم مفهوم الدولة الديموقراطية والقوية أم مفهوم الدويلات والميليشيات؟ وهل يوحّد اللبنانيين أم يقسّمهم؟ ترى، أيكون يراد للبنانيين، في هذا المضمر المعلن، الوقوع في الفخّ الدموي القاتل؟ هل يراد لنا أن ننزلق الى فم الهاوية؟ أن “نشارك” في هذه اللعبة الدنيئة؟ أن نحقد؟ أن نثأر؟ أن نشتم؟ أن نبكي؟ أن نرثي؟ أن نكفر؟ أن نقف على أطلال لبنان؟ أم هل يراد لنا أن نسكت، ونُسكِت الكلمات، تقيةً وخوفاً ورضوخاً للإرهاب؟ هل حقاً تراد حماية الشعارات “الكبيرة” المرفوعة أم أن نتخلى عن القلم والورقة لنخلي الصفحات لكل هؤلاء الذين يكرهون الكلمة، ويحتقرونها، ويدعسونها، ويبصقون عليها، وعلى كاتبيها، تفريغاً لهذه الأرض من معناها المتعدد، وتمجيداً لجمهورية الظلام والرعب والصوت الواحد؟

عارٌ هذا الذي جرى. وهو عارٌ يلحق بالشعارات المرفوعة في سياقه. كما هو عارٌ يلاحق الذين ارتكبوه (و”غلطة” كبرى، وحسبي أنهم سيدركون ذلك بعد فوات الأوان). أما المتضرر العميق، أبعد من الزملاء في منابر “المستقبل” المكتوبة والمسموعة والمرئية، الذين أُنزل بهم ما أُنزل، فهو لبنان الديموقراطي المتعدد الرأي. وربما يكون هذا الهدف هو الهدف الحقيقي المُراد تحقيقه.

يهمّني، كصحافية، أن أعلن بصوتٍ شفّاف وقوي وواضح وقوفي الكامل الى جانب هؤلاء الزملاء والمؤسسات الذين استبيحت كلماتهم وأقلامهم وأوراقهم ومكاتبهم. وإذ أدعو الى إعادة الاعتبار الصريحة والفورية اليهم والى منابرهم، فإني أرى أن ما جرى لهم قد جرى لي أنا شخصياً، بل ولكل صاحب رأي حر.

وكم أعتقد أن بلداً كهذا البلد يُتجرّأ فيه على تخويف الكلمة وترهيبها، وعلى “التوق” الى إلغاء الآخر، وخنق الاختلاف، وكبت حرية الرأي والتعبير، أياً تكن المبررات والذرائع – ولا مبررات وذرائع – لهو بلد لا يتشرّف برفع أيّ شعار، مهما كان شريفاً.

من استحى مات.

(joumana.haddad@annahar.com.lb)


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى