صفحات ثقافية

حــــــروب كـــــــلامـــــيــة” لـمـــــــــأمــــون فـــــــنــدي

null

خـــــــفـــايـــــا وأســــــرار يــجــــــب أن تــــــقـــال

لفهم الحرب الدعائية في الإعلام العربي ولا سيما بين قناتي “الجزيرة” و”العربية”، يجب البحث في الحرب بين الكفلاء، وإذا لم يكن من حرب بين الكفلاء، ينبغي عندئذ البحث في الخلافات السياسية بين “واضعي اليد”. ففي أيامنا هذه تتحدث الحكومات الغربية كلها تقريباً عن التعاطي مع العالم العربي، ولكن من الأجدى لها قبل ذلك أن تتعمق في دراسة بنى التواصل في هذه المنطقة، ومن الضروري أن تكون هذه الحكومات قادرة على التمييز بين وسائل الإعلام المختلفة. تتمثل نقطة الإنطلاق في معرفة من يملك هذا المنفذ الإعلامي ومن يعمل فيه، فضلاً عن الدعائم الإيديولوجية لمختلف قنوات التواصل. من اللازم أيضاً تحديد موقع كل محطة تلفزيونية أو إذاعية من السياق السياسي للبلد الذي أنتجها، وذلك للإلمام بحقل التعاطي واللاعبين والرموز والخصائص.

هذا هو الذي استهدفه الدكتور مأمون فندي في مؤلفه “حروب كلامية”، ترجمة تانيا ناجية. وقد اقتضت الضرورة أن يأتي الكاتب على ذكر أسماء الأشخاص والقنوات التلفزيونية، متقيداً مع ذلك بأدوات البحث العلمي المتعارف عليها.

يعتقد الكاتب أنه إذا نظرنا إلى ما يخفيه قناعٌ ما يُزعم أنه وسيلة إعلامية مستقلة في العالم العربي، يمكننا أن نرصد بسهولة الكفيل الذي يقف وراءها. فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من أن رجل الأعمال اللبناني تحسين الخياط هو صاحب ملكية قناة “تلفزيون الجديد” في لبنان، إلا أن الكفيل الرئيسي للمحطة هو رئيس مجلس الوزراء القطري، وهو في الوقت نفسه كفيل قناة “الجزيرة” وصحيفة “القدس العربي” في لندن وبعض الصحف الأقل أهمية في القاهرة.

كما أن الأمير خالد بن سلطان هو كفيل جريدة “الحياة” وتلفزيون “الحياة إل بي سي”، كما أن الأمير خالد الفيصل هو كفيل صحيفة “الوطن” في المملكة العربية السعودية، والأمير فيصل بن سلمان كفيل جريدة “الشرق الأوسط”. تالياً، فإن كل فرد في العالم العربي يمكن أن يحظى بالرعاية ويصبح زبوناً لدى كفيل أو راع، وهذا الأخير قد يكون أميراً أو شيخاً أو فرداً من أفراد النخبة الحاكمة. فنظام الكفيل والمحسوبية يتغلغل في مختلف جوانب النظام الإجتماعي والسياسي، وفي نظام قائم على المحسوبية، لا يمكن تحقيق الإستقلالية أو الإحتراف المهني.

أخذ الكاتب بمفهوم “وضع اليد” كما هو متعارف عليه في الثقافة الشعبية باعتباره الطريقة الأنسب لادعاء أحدهم أحقيته في قطعة أرض أو عمل أو رصيف شارع، حينما لا تكون القوانين الرسمية محطّ احترام كما هو جارٍ في البلدان العربية. وقد طبّق هذه الظاهرة على وسائل الإعلام كقناة “الجزيرة”، حيث يرى أنه وعلى رغم أن الحكومة القطرية هي التي أحدثت البنية المعروفة بهذه القناة، إلا أن جهات عدة توجد ضمن هذا الحيز لتحقيق مآربها الخاصة، وقد تكون بعض أهدافها بسيطة، لكسب المال أو الظهور، لكن لدى البعض الآخر أهدافا ترتدي طابعاً سياسياً كجماعة “الإخوان المسلمين” على قناة “الجزيرة”. فمُنظّر الجماعة الشهير يوسف القرضاوي، يحرص على أن تخدم “الجزيرة” روزنامة الإخوان المسلمين. كما أن لأحمد منصور وهو أحد النشطاء في جماعة الإخوان، برنامجين في الأسبوع عبر المحطة نفسها، كما أن العديد من مراسلي “الجزيرة” هم من الجماعة نفسها كتيسير علوني الذي يمضي فترة عقوبة في السجن بعدما حكم عليه القضاء الإسباني بتهمة التورط في التعاطي مع تنظيم “القاعدة”. هذه الظاهرة لا تقتصر على قطر دون غيرها، إذ تلاحظ أيضاً في قناة “الحرة” وراديو “سوا” حيث تتجلى الفجوة بين جداول أعمال تلك الجماعة “اللبنانية” التي وضعت يدها على تلفزيون “الحرة” وبين جدول أعمال الحكومة الأميركية التي تملك المحطة وتديرها. في هذا الإطار يورد الكاتب العديد من الأمثلة في صفحة 234. ففي 25/4/2005 كان الخبر الأهم على مستوى العلاقات الأميركية – العربية، اللقاء بين رئيس الولايات المتحدة والملك السعودي في تكساس، لكن الخبر الأول في النشرة الإخبارية المسائية على قناة “الحرة” كان إقالة رئيس جهاز الأمن العام اللبناني، وعندما أتت قناة “الحرة” على ذكر زيارة تكساس كانت التغطية مختصرة جداً. كما أنها قطعت مرة تغطيتها لمؤتمر صحافي مع الرئيس بوش لتبث مباراة في كرة السلة. وبالنسبة إلى جمهور عربي عريض غير مهتم بكرة السلة، لا يبدو هذا البرنامج منطقياً. فكأن المحطة موجهة إلى الجمهور اللبناني فقط.

يمثل لبنان ظاهرة فريدة في العالم العربي من حيث تنافس وسائل الإعلام، فقد تحددت معالم هذه الوسائل إلى حد كبير بفعل الإرث الذي خلّفته الحرب الأهلية، عندما شعرت كل مجموعة سياسية بحاجتها إلى منفذ إعلامي لحشد الدعم لها، وبنشر دعايتها السياسية. ولم يكن من آلية تضبط آنذاك ما يمكن بثّه على الهواء لإنهيار السلطة اللبنانية، وقد تمّت السيطرة على هذه الفوضى بعد اتفاق الطائف. إذ اشترعت الحكومة اللبنانية عام 1994 قانون الإعلام المرئي والمسموع، واستخدم هذا القانون بشكل زائغ عام 1999 ضد صحيفة “الشرق الأوسط” فحظر تداولها لبعض الوقت. وبموجب هذا القانون أيضاً تم إقفال قناة “أم. تي. في” عام 2002.

لا يمكن المرء أن يفهم الإعلام العربي اليوم من دون الإلمام بدور الإعلام المصري في تشكيل الرؤى المحلية والإقليمية، وكذلك في صوغ اللغة والمصطلحات الإعلامية السائدة، وفي الممارسات الصحافية اليومية وعلاقة الصحافة بالسلطة، وكذلك في القوانين الضبابية التي اعتمدتها وتبنّتها أيضاً باقي الدول العربية إلى جانب مصر، كالجزائر التي يعاني صحافيوها وإعلاميوها من جبر مضاعف. فعلاوة على جور قوانين الصحافة وكبت الحريات والتغريم والإعتقال، تم اغتيال العشرات من الصحافيين الجزائريين من أمثال مخلوف بوخزر، ورشيد حمادي، ومحمد الصالح بن عاشور. وهجرة عدد منهم كخديجة بن قنة التي قال عنها الكاتب أنها إمرأة علمانية على رغم إرتدائها الحجاب.

يتطرق مأمون فندي لخلفيات التنافس المحموم بين قناتي “الجزيرة” و”العربية”، ليفسر هوس وسائل الإعلام العربية في التركيز على مسائل مثل القضيتين الفلسطينية والعراقية بأنه يعود إلى كون التطورات في هاتين القضيتين تشكل أخباراً آمنة تسمح للصحافيين بأن يثبتوا موهبتهم في ذم القوة المحتلة بلغة عربية منمقة وكلفة سياسية زهيدة. فالإعلام العربي يكون حراً في ظل الإحتلال، وهذا يعني أن الإسرائيليين والأميركيين يسمحون لوسائل الإعلام العربية بأن تقدم تقاريرها بحرية، أو أقله بمستوى أعلى من ذاك الذي ينعم به الصحافيون في حال كانوا يغطون أخبار الحكومات العربية. فأن تغطي قناة “الجزيرة” ما يحدث في غزة أسهل عليها من أن تغطي طرد قبيلة بني مرة من قطر، أو أن تغطي أعمال الشغب التي قام بها الأكراد في القامشلي في سوريا، أو أن تغطي حملات رفض التمديد لرئيس الجمهورية في الجزائر.

ففي ظل هذا الجو المسيطر، يتفادى الصحافيون العرب القصص الإخبارية التي تنطوي على مجازفات سياسية كبيرة وتثير غضب أولئك الذين يتكفلون مالياً مؤسساتهم الإعلامية، وتالياً يتم تبني القصص الإخبارية التي لا تنطوي على أخطار سياسية مثل أخبار الإحتلال الأميركي للعراق أو الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة.

فأي صحافي عربي يخصص 15 أو 20 دقيقة على الهواء للتنديد بالولايات المتحدة أو إسرائيل، لن يكون على الأرجح عرضة لغضب المشاهدين أو الحكومة، بل على العكس، يعلم هذا الصحافي أنه سيلقى الثناء من الجهتين، أما الصحافيون العرب الذين يحاولون إجراء تحليل مثير للتفكير حول السياسات الأميركية أو الإسرائيلية، أو يشككون في السلطات الدينية والمراجع، فيدفعون في النهاية ثمن محاولاتهم إما في هيئة عقاب من الدولة (أو الدول) التي تكفلهم، وإما في هيئة خسارة للمعونات المالية تتكبدها محطات التلفزة أو الصحف التي يعملون فيها إذ يحرمها منها ممولوها، أو يدفعون حياتهم ثمناً لمواقفهم تلك، وأحياناً حياة أسرهم وأقاربهم، كما حصل للجيلالي خلاص في الجزائر أو جبران تويني وسمير قصير في لبنان.

ميلود بن غربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى