عيد إنسانية اليسار
صبحي حديدي
من الإنصاف القول إنّ عيد صحيفة الـ ‘أومانيتيه’ الفرنسية، أو ‘عيد الإنسانية’ في الصيغة الحرفية للاسم، حدث سنوي استقرّ في أجندة المناسبات الفرنسية كاحتفالية شعبية صرفة أولى، لعلّها الأضخم من حيث عدد الروّاد والأنشطة والتمثيل والنطاق الجغرافي، ولعلّها أيضاً آخر مظاهر الصلة الحيوية بين الحزب الشيوعي الفرنسي والشارع الشعبي العريض. ولقد انصرم زمن ذهبي، حافل بكلّ عناصر الجذب والجاذبية والإستقطاب، شهد بلوغ الحزب مستويات تنظيمية وسياسية ونقابية عالية، وإسهاما نشطا مباشرا في حركة المقاومة ضدّ الإحتلال النازي، أنتجت شعبية فائقة، لعلّ تتويجها الأبرز على صعيد العمل الديمقراطي كان نسبة الـ 21,27 التي حاز عليها مرشح الحزب جاك دوكلو في الإنتخابات الرئاسية لسنة 1969، وكانت الأعلى على امتداد تاريخ الحزب. (للمقارنة، فقط: في انتخابات 2007 حصلت ماري ـ جورج بوفيه، مرشحة الحزب، على نسبة 1,93).
ورغم أنّ الـ ‘أومانيتيه’ استقلت مالياً وإدارياً منذ سنة 2001، وبالتالي لم تعد لسان حال الحزب، فإنها لا تخفي انحيازها إلى البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للشيوعيين، ومختلف تيارات اليسار الفرنسي إجمالاً، رغم أنّ خطّها التحريري لا يحظى دائماً بالإجماع، أو لعلّه لا يُصاغ أصلاً لكي يستدرّ ذلك الإجماع. وليس هذا الخيار غريباً عن صحيفة أسّسها الإشتراكي الفرنسي الكبير جان جوريس (1859 ـ 1914) في سنة 1904، وتقلّبت أقدارها مراراً من ‘أممية الشغيلة’ إلى أكثر من فريق يساري أو اشتراكي، وكان في ذروة أمجادها ذلك الملحق الأسبوعي الذي أخذ يصدر منذ مطلع الثلاثينيات، بعنوان ‘الآداب الفرنسية’، تحت إشراف لويس أراغون. وفي سنة 1930، جرّاء الضائقة المالية الخانقة التي كان الحزب الشيوعي الفرنسي يعاني منها (سوف يتضح، في ما بعد، أنّ قيادة الحزب وافقت على استلام معونات مالية من الإتحاد السوفييتي)، تمّ تنظيم أوّل احتفالية باسم الصحيفة، بغرض جمع التبرعات.
والأرجح أنه لم يكن يخطر في بال المنظّمين، آنذاك، كيف سينقلب ذلك النشاط إلى عيد شعبي فرنسي، بكلّ ما تنطوي عليه صفة الشعبية من تنويعات: سياسية ونقابية، ولكن ثقافية أدبية وموسيقية ومسرحية، ومعارض كتب، وفنون تشكيلية، وألعاب أطفال، فضلاً عن مئات المنصّات التي تقدّم أصناف الطعام من مختلف المناطق الفرنسية. الخطوة النوعية في تطوير العيد كانت دعوة الأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية وحركات التحرّر الوطني على امتداد العالم، حيث اكتسبت الإحتفالية صفة المنبر الدولي الذي يتيح التعبير عن الرأي والتبشير بالقضايا، والمؤتمر العالمي غير الرسمي الذي كان ـ على نحو ما، وبعد أن تطهّر الحزب الشيوعي الفرنسي من الهيمنة الستالينية داخل صفوفه ـ ينافس اجتماعات الـ ‘كومنترن’ الرسمية الخاضعة لسيطرة موسكو.
وفي هذه السنة كانت حصة فلسطين حافلة، متميزة، وشجاعة: بالإضافة إلى منصات فلسطينية عديدة، عقد الشيوعيون الفرنسيون سلسلة ندوات تضامنية، بينها لقاء بعنوان ‘فلنعمل على إسقاط الجدار في فلسطين’، وآخر حمل اسم ’12 امرأة مقاومة في فلسطين’، شاركت فيه فدوى البرغوثي، زوجة المناضل والقيادي الفلسطيني البارز مروان البرغوثي، الذي اختطفته قوات الإحتلال الإسرائيلية في نيسان (إبريل) 2002، ونساء من المخيمات. أمّا اللقاء النوعي الأهمّ فقد انعقد حول كتاب البرغوثي ‘الوعد: كتابات السجن، 2002 ـ 2009’، الذي تُرجم إلى الفرنسية وصدر عن دار النشر Arcane 17 مؤخراً، وتفوّق على الأصل العربي في أنه ضمّ أحدث ما كتب البرغوثي، أي مذكرته إلى المؤتمر السادس لحركة ‘فتح’.
ولم يكن أمراً عابراً، في قاعة غصّت بحضور فرنسي طاغٍ، أن تقول جيزيل حليمي، المحامية الفرنسية اليهودية الشهيرة، إنّ إسرائيل ليست دولة قانون، وهي أصلاً ليست نظاماً ديمقراطياً، بدليل اختطافها البرغوثي من المنطقة A، الخاضعة للسلطة الفلسطينية بموجب اتفافيات أوسلو (الأمر الذي أكدته المحكمة العليا في إسرائيل، ولم تكترث به السلطات القضائية الإسرائيلية الدنيا التي حاكمت البرغوثي)؛ على يد قوّات احتلال عسكرية، وليس شرطة قضائية؛ ومنع المحامين، وبينهم أجانب وعربي ـ إسرائيلي هو جواد بولص، من لقائه. وكانت طرفة سوداء أن تروي حليمي للحضور كيف احتال المحامون على قرار الرفض ذاك، واستغلوا نوبة تبديل الحرس فانسلّوا للقاء البرغوثي، قبل أن يُكتشف أمرهم، وتطردهم سلطات السجن شرّ طردة!
وفي العودة إلى احتفالية هذه السنة، تقول الإحصائيات إنها تشغل مساحة لا تقلّ عن 70 ألف هكتار من أرض منتزه ‘لاكورنوف’ في احدى ضواحي باريس الشمالية، و70 ألف متر مربع من المنصات والأكشاك، و8000 واجهة؛ خلال ثلاثة أيام، بلياليها تقريباً، حيث يُعدّ الروّاد بمئات الآلاف، وتتنوّع فئاتهم بين الصغار والفتية (وهم أغلبية ساحقة، للمفارقةّ) والنساء والرجال من مختلف الأعمار، ومختلف المشارب الفكرية والسياسية أيضاً. وإلى جانب عدد من كبار الشخصيات الفرنسية، مثل جان جوريس وغبرييل بيري وجان مولان وأراغون وإلزا تريولي ومارسيل كاشان وماري كوري، تحمل شوارع وجادات وساحات الإحتفالية أسماء ياسر عرفات ونلسون مانديلا وروزا لكسمبورغ ودولوريس إيباروري وسلفادور ألليندي وأنجيلا دافيز وماميا أبو جمال…
أهي أضخم احتفال شعبي في فرنسا المعاصرة، فحسب؛ أم أنها ـ كما يصحّ القول، دون كبير تردّد ـ آخر قلاع اليسار الفرنسي، وربما الأوروبي بأسره؟