ماركس المستعاد بداعي الأزمة المالية.. من هو؟
د. منى فياض
ليس غريبا أن ماركس استعاد لياقته وأثار الاهتمام مجدداً، بعد انحدار جعل الأمر يبدو في الثمانينيات أنه ذهب إلى الأبد، وحيث بدا أن المسألة الديمقراطية تحولت من نظام سياسي إلى دينامية اجتماعية شاملة في سياق تحول المطالب للتعبير عن نفسها بلغة «الحقوق»، وتركيز التأكيد على الأفراد بدل الجماعات. من هنا تمت إعادة اكتشاف توكفيل وعرف مجداً متأخراً نوعاً ما. واذا كانت الديمقراطية تنتج طلباً غير محدد للمساواة الجذرية، والتي لا يمكنها أن تحققها؛ من الطبيعي إذن أن يستعاد الطموح في تحقيق الوعود التي تطلقها هذه الديمقراطية ولا تستطيع الوفاء بها، ما يجعل من السهل وضع «شكلية» الديمقراطية موضع تساؤل. وبهذا المعنى يكون ماركس هو المنافس الطبيعي لتوكفيل.
فهل استعاد رأس المال مركزه، وصار الكتاب الذي يمكنه أن يساعد في مواجهة الأزمة المالية التي عصفت بالمجتمعات الليبرالية؟
أجاب مؤخراً معظم طلاب السنة النهائية لإحدى الثانويات الفرنسية عن سؤال من هو أكبر اقتصادي في التاريخ: «ماركس» من دون تردد. لكن ليست هذه وجهة نظر بول سامويلسن، الحائز على جائزة نوبل في العام 1970. لماذا إذن هذا الانحياز لماركس من قبل الرأي العام والمخالف لرأي الاغلبية الساحقة من الاقتصاديين؟
ذلك أن ماركس تمتع بحدس جعله يضع إصبعه على نقاط ضعف النظام الرأسمالي قبل وقوعها. فمن هو ماركس؟ وكيف تمكن هذا الدكتور سليل الحاخامات، والذي تزوج من أجمل فتاة في «تريف» أن يلد في الألم العمل الذي سيهز العالم؟
ماركس الذي قضى حياته مطروداً مداورة بين معظم البلدان الاوروبية، الدكتور الأحمر الشهير الذي عانى من مشكلات مالية معظم حياته، والذي أنجب طفلا غير شرعي من مربية أطفاله، والمحب إلى حد التفاني لأطفاله، ومؤلف «رأس المال» الذي قضى معظم حياته في مكتبة المتحف البريطاني وفي دخان الاجتماعات النقابية حيث كان يتم اختراع شيوعية تتلمس طريقها..
ولد في 15 أيار 1818 لأسرة برجوازية ميسورة من بروسيا. لكن والده، وهو سليل نسب طويل من الحاخامات، والمتزوج من سليلة أسرة كان ابنها البكر دائما يصبح حاخاما ولقرون عدة في هولندا. غيّر فجأة ديانته اليهودية مخلاً بتقاليد الاسرة. فعل ذلك بعد صدور قرار بروسي يمنع اليهود من تولي مهام عامة، وهو إذ رفض أن يكون مواطنا من الدرجة الثانية، تحول إلى مسيحي لوثري ومواطن ألماني.
ربما هذا ما دفع ماركس لكي يصبح المفكر الذي سيتسبب بانهيار عدد من الممالك العريقة، والذي سيتسبب بظاهرة التفاف هذا العدد من الناس حوله، وتفانيهم تجاهه، بشكل لم يعرف التاريخ له مثيلاً، منذ ظهور المسيح على ما ترتئيه مجلة النوفيل ابسرفاتور.
سيحتفظ ماركس خلال حياته بمشاعر مختلطة تجاه الكنيس اليهودي، مناضلا في كتاباته من أجل المساواة في جميع الحقوق، سامحا لنفسه في الوقت نفسه بنعت منافسه الاشتراكي فرديناند لاسال باليهودي «الزنجي».
ولم يطمئن والده من طيشه تجاه الكحول، إلا عندما انتسب إلى جامعة برلين، صرح المعرفة، لكي يحصل على درجة علمية صلبة في الحقوق.
كان هيغل قد توفي منذ 5 سنوات بالكاد عند وصول ماركس إليها، ولم يكن نجمه قد خبا. وغرق ماركس في قراءات نهمة من كل نوع، مهملا مساره الحقوقي. وسرعان ما تخلى عن أوهامه الأدبية وتحول من ناظم شعر تقريبي إلى العمل الشاق، وشعر فجأة بوجوب العمل على إيجاد آلهة جديدة.
وفي سن 23 عاما دافع عن أطروحة دكتوراة لامعة حول «اختلاف الفلسفة الطبيعية لدى ديموقريط وابيقور». لم يكن ممكنا له الحصول على أية وظيفة جامعية لمفكر خارج الأطر الرسمية مثله. لذا اتجه نحو الصحافة المعارضة، تاركا الكراسي الرسمية «للمثقفين الخسعين».
تركت بداياته أثراً كبيراً، ما جعل رئيس تحرير الجريدة التي عمل فيها، موشيه هيس، يكتب لصديق له: «يمكنك أن تتهيأ للقاء أحد أكبر، إذا لم نقل ربما الفيلسوف الوحيد للجيل الحالي. إنه يجمع بين الجدية الفلسفية الأكثر عمقا، إلى الفكر الأشد لذعاً. تخيل روسو وفولتير وهولباخ وليسينغ وهيغل مجتمعين في شخص واحد. انه الدكتور ماركس.
مارس ماركس المتهور والمتمتع بثقة فكرية من دون حدود، فتنة لا تقاوم على حقبته، يشهد عليها حتى أعداؤه؛ فمظهره الخارجي نفسه كان مهيباً. الجميع يصفون شعره الكث الذي كان يغطي جميع مسام جسمه ما جعله يستحق لقب «المور» (العربي)، مظهر جهنمي يجمع بين النبي التوراتي ورجل الغاب، والذي أغوى أجمل فتاة في تريف. البارونة الشابة جوانا فون ويستفالين، ارستقراطية متحدرة من الطبقة الحاكمة، وتكبره بـ 4 سنوات، والتي تزوجها بشعور كبير بالفخر. وتشهد مراسلاتهما بعد 15 عاماً، على عمق الشغف الذي كان يكنه لزوجته التي اختارت أن تتبعه في مساره الصعب بين حياة بوهيمية وتهجير من مكان إلى آخر، وموت مأسوي للعديد من أطفالهما.
في بداية العام 1840 كانت الشيوعية لاتزال نوعاً من «التجريد الدوغمائي» بالنسبة لماركس. كان يسخر من مبالغات الفرق الاشتراكية حول «الاخوّة العالمية»، وينفر بشدة من طوباويات فورييه الجماعية، ويجادل برودون الفوضوي. كان ينفر من كل ما يذيب صراع الطبقات في موجة إنسانوية محبة للبشر. لكنه لم يكن قد وجد بعد المثال الإيجابي الذي يدافع عنه. ومعرفته العميقة بفيورباخ تتصاحب مع حداثة عهد بالاقتصاد السياسي. أما معرفته بالمعاش العمالي فهو صفر تقريباً. شكل الاحتكاك المباشر بالطبقة العمالية الباريسية وتعرفه على انغلز في ربيع 1844 تحوله السياسي الحاسم. وقع هذان الاثنان في أحضان بعضهما البعض حرفياً. بقيا سويا خلال عشرة أيام يتبادلان النقاش في منزل ماركس في باريس. «حان وقت إخافة الطبقة البورجوازية» أطلق انغلز، ابن الرأسمالي الصناعي الكبير وصاحب الثروة من صناعة غزل القطن في لانكشاير. انغلز المتمتع بحس الشراب الرفيع، هاوي الشعر والاكزوتيكية، الفارس الذي لا مثيل له والمحب لصيد الثعالب فوق ذلك، كان التجسيد الحي للجاذبية. وجماله الأشقر الذي تشهد عليه حتى تقارير البوليس، كانت تدوخ الفتيات. وإلى ذلك كله، تضاف ثقافة موسوعية ومعرفة عميقة للشروط العمالية الانجليزية تم تحصيلها في مصانع الوالد. لقد سلّم انغلز مفاتيح انكلترا، أول قوة مالية في العالم، والبلد الذي حول بلداناً بأكملها إلى عماله الخاصين، إلى ماركس.
وقّعا سويا البيان الشيوعي في العام 1848، رسالة الهجاء السياسي الأكثر قراءة في التاريخ. ارتجفا سويا عند كل أزمة بورصة، واشتعلا حماسة لكومونة باريس.
كما حصل بينهما اتفاق ضمني أن المجد بعد موتهما سوف يكون لماركس. ولم يظهر انغلز، صاحب «الضحكة الأزلية»، كما كانت تطلق عليه جيني ماركس، أي شعور بالغيرة تجاه صديقه العبقري، قابلا أن يلعب دور النصير والشقيق والمدرب. ولقد بلغت تضحيته أنه قبل أن يتوظف في مصنع والده من أجل تمويل أبحاث ماركس وكتابته لرأس المال الذي قال عنه ماركس:«لن يحمل لي كتاب «رأس المال» أبدا ثمن كمية السيجار التي دخنتها لدى كتابته».
كاتبة من لبنان
أوان