الماركسيون العرب فشلوا في انتاج ماركسية راهنة بعد 5 عقود من التعاطي مع الآيديولوجيا الماركسية
بيروت: وليد شميط
كريم مروة: في كتبي تحررت من ارتباطي بالماركسية كفكر
يحمل آخر كتبه عنوان «في البحث عن المستقبل»، غير أن الحديث مع المفكر اللبناني كريم مروة لا يستقيم إلا في العودة إلى البحث عن الماضي أيضا.
فكريم مروة الذي يجمع بين الفكر والممارسة غاص طيلة خمسة عقود في الآيديولوجيا، وتوسع في الفكر السياسي، وكتب الكثير في الماركسية وعنها وحولها، وتوقف عند حركة التحرير الوطني العربية، وتطرق إلى هموم واهتمامات العرب الفكرية والثقافية والاجتماعية وتحمل، في الوقت نفسه مسؤوليات قيادية كبيرة في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، ولعب دورا طليعيا في اليسار الماركسي اللبناني والعربي عموما.
يتحلى كريم مروة بما يكفي من النزاهة الفكرية والشجاعة الأدبية لكي يتخذ مواقف نقدية جريئة من تجربته الفنية مع الماركسية والشيوعية.
ومن هنا أهمية كتاباته، والمسألة، في كل حال، لا تتعلق بشخص فحسب، على أهمية هذا الشخص وأهمية مساهمته الفكرية، وإنما هي تتعلق خصوصا بآيديولوجيا شغلت العالم، ومنه العالم العربي، طيلة عقود، ووعدت الناس بالجنة على الأرض، ثم انهارت كما لو أنها لم تكن. وتبخرت مع انهيارها الأوهام والأحلام والوعود…
* منذ نحو خمسة عقود وأنت تتعاطى مع الآيديولوجيا ممارسة وفكرا وكتابة ونهجا. ألم تتعب من الآيديولوجيا؟ ألا ترى أن الآيديولوجيا كثيرا ما ارتبطت بعقائد وأنظمة شمولية تواجه أزمة حادة؟
– في ممارستي للانتماء الذي وجدت نفسي فيه بشكل شبه عفوي، أواخر أربعينات القرن الماضي، دخلت في ما كان سائدا من فهم للآيديولوجيا. وكانت الآيديولوجيا أشبه بالعقيدة، وأكاد أقول أشبه بالعقيدة الدينية. والارتباط بالآيدبولوجيا بهذا المعنى، من موقع فكر علمي ماركسي، حولنا جميعا نحن الماركسيين إلى ارتباط بما اعتبرناه، بمعنى من المعاني وليس بمعنى التهمة التي توجه إلينا، أننا أمام حتمية تاريخية. أقول هذا لأن ماركس لم يتحدث عن حتمية تاريخية. الحتمية التاريخية تجسدت في رؤيتنا بمقولة ربما كان طرحها لينين بعد ثورة أكتوبر، مفادها أن انتصار ثورة أكتوبر والبدء بالتجربة الاشتراكية يُدخل التاريخ في حقبة جديدة غير مسبوقة، وهي الحقبة التي ينتقل فيها العالم بالتدريج من الرأسمالية إلى الاشتراكية. واستمر اقتناعنا بهذه المقولة بعد الحرب العالمية الثانية التي تشكلت في أعقابها منظومة اشتراكية عالمية. لكن، مع مرور الوقت، بدأ خلل بنيوي ينخر جسم وروح التجربة الاشتراكية، أو ما اعتُبر أنه اشتراكية انتماء إلى فكر ماركس. أخذ هذا الخلل يقود التجربة تدريجيا إلى نهايتها. وفي الثمانينات، في عهد غورباتشوف، جرى تسريع هذه العملية التي انتهت إلى ما انتهت إليه. وهو ما نعرفه جميعا.
* قبل ذلك كانت «الحتمية التاريخية» عندكم حتمية فعلا؟
– الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية كان، بالنسبة إلينا، حتمية تاريخية. وكانت هذه حتمية الماركسيين وليست حتمية ماركس، حتى لا نظلمه. أنا شخصيا لم أكن أرى، حتى آخر لحظة، أن هذا الخلل البنيوي سيقود إلى نهاية التجربة الاشتراكية، على الرغم من قناعتي المطلقة بأنه كان عميقا جدا، علما بأنني كنت أحد الذين أخذوا يفكرون بضرورة إعادة صياغة انتمائنا إلى الماركسية، وذلك منذ ستينات القرن الماضي عندما بدأت ثورة الجيل الجديد في الحزب الشيوعي اللبناني. فقد اعتبرنا أن النموذج السوفياتي غير صالح للاتباع وللتعميم، ورأينا أن نمط هذا النموذج يشكل ارتدادا، إذا صح التعبير، على فكر ماركس. وأطلقنا مجموعة أفكار منها فكرة أن لكل حقبة من التاريخ أفكارها وتجاربها. فكرنا الماركسي ذاته هو فكر تاريخي. لذلك ينبغي ألا يجري تعميم أن الفكر، أي فكر، هو مسألة ثابتة. وبدأنا ورشة فكرية جديدة شملت كل القضايا، الخاصة ببلداننا، وذات الصلة بالاشتراكية ذاتها، واختلفنا مع السوفيات في شأن الديمقراطية والتعددية معتبرين أنهما من سمات الاشتراكية. وفي فترة زمنية قصيرة وصلنا إلى استنتاج واضح مفاده أن الفكر بعامة هو فكر تاريخي. الفكر الديني نفسه هو فكر تاريخي، فكيف يمكن ألا يكون الفكر العلمي مثل فكر ماركس فكرا تاريخيا؟ بمجرد ما اعتبرنا أن الفكر هو فكر تاريخي، صار لزاما علينا أن نتحرر من هذا الطابع الآيديولوجي العقائدي في انتمائنا إلى الماركسية.
* تقول عن نفسك إنك كاتب سياسي يساري مستقل، تجتهد في الفكر، وفي الفكر الاشتراكي أو اليساري في شكل خاص. في كتاباتك أكثر من مجرد اجتهاد في الفكر. فيها تنظير. نظرت إلى الماركسية، ونظرت إلى المعركة ضد الإمبريالية… انطلاقا من آيديولوجيا انهارت ووصلت إلى طريق مسدود. هل أنت نادم على ما فعلت؟
– إذا ما تحدثت عن تجربتي فهي تقسم إلى ثلاث مراحل: المرحلة التي كنت فيها أسوة بآخرين غيري في بلادنا وفي العالم، تابعا بالكامل إلى ما كان يأتينا من المركز السوفياتي، فكرا وأنموذج حكم وحزب وسوى ذلك. وهي مرحلة امتدت من الأربعينات واستمرت لغاية أواسط ستينات القرن الماضي. المرحلة الثانية هي مرحلة بداية التحرر من هذا النموذج السوفياتي ومن التلقي. ولكن هذه المرحلة كانت لا تزال مرحلة أولية. المرحلة الثالثة هي التي بدأت عشية سقوط التجربة السوفياتية، أي بدءا من منتصف ثمانينات القرن الماضي حتى عام 1990، عندما أصدرت كتابي «حوارات» الذي وضعت فيه الأسس للمرحلة التي أنا فيها الآن. وهذه الأسس الفكرية، التي تسميها أنت تنظيرا، هي محاولة متواضعة من شخص مثلي في حدود إمكاناته لقراءة ماركس نقديا، وأخذ ما يمكن اعتباره صالحا بالكامل أو صالحا نسبيا، والتخلي عما أصبح خارج التاريخ، خارج العصر. بهذا المعنى تحررت من بقايا ارتباطي العضوي بالماركسية كفكر، من دون أن أتنكر للدور التاريخي العظيم لماركس. وبهذا المعنى أيضا صرت أكثر حرية في رؤية الأشياء والأمور. وقد قلت في أحد كتاباتي إنني لا أعتبر أن الماركسية وحدها تشكل مرجعيتي الفكرية، رغم أنها هي الأساس.
مرجعيتي في التفكير هي تجارب شعوبنا وتجارب العالم، وما أنتجه الفكر الإنساني بأكمله وبصوره المختلفة. النجاح في بعض الأفكار والفشل فيها ينبغي هو أيضا أن يكون مرجعا. وبالتالي، بهذا المعنى، صرت أبحث عن كل الأمكنة التي يمكن أن أستند إليها لكي أصوغ فكري الراهن. وأعني بفكري الراهن الفكر الذي أستند إليه لقراءة الواقع من جهة، وللبحث عن إمكانية تغييره في الاتجاه الأفضل والأدق من جهة ثانية. ولذلك أقول لك، ردا على سؤالك حول ما إذا كنت نادما، إنني أعتقد أن السؤال ليس في محله، لأنه ليس صحيحا أن على المرء أن يتخلى عن تجاربه أو أن يتنكر لها. التجارب تكون شخصية المرء بصرف النظر ما إذا كانت ناجحة أو فاشلة.
* إلى أين وصلت في قراءتك النقدية للماركسية؟
– أكرر ما قلته قبل قليل، ما يؤكد تقديري لدور ماركس التاريخي، بصفته عبقري الألفية الثانية. وهذا رأي يحظى بإجماع عالمي. في كل الاستفتاءات التي تحدثت عن عباقرة التاريخ في الألفية الأولى والثانية كان ماركس يحتل المرتبة الأولى، بمعزل عن الاتفاق معه أو الاختلاف. أنا أرى في ماركس إنسانا فذا لأنه اختصر في أفكاره مجموعة أمور: العلم كعلم، علم الاقتصاد، علم الاجتماع، علم التاريخ، ووضع على قاعدة هذه العلوم جميعها كتبه، ولا سيما كتابه الأساسي «الرأسمال» الذي وضع كل جهده فيه لكي يقرأ الواقع القائم في تاريخ البشرية، ويحدد بدقة أساس الاستغلال، والظلم والقهر في النظام الرأسمالي، وأساس التفاوت الهائل بين البشر. ويستخلص من ذلك نظريته للمستقبل، نظريته لتغيير العالم، وإلغاء استغلال الإنسان للإنسان.
* هل أفاد الماركسيون العرب من هذه التجربة، وإلى أي حد هناك ماركسية عربية بالفعل؟
– أشك بذلك من دون أن أقلل من أهمية الدور الذي مارسه بعض الماركسيين الكبار مثل سمير أمين ومهدي عامل وياسين الحافظ إلى حد ما وإلياس مرقص وإسماعيل صبري عبد الله وفؤاد مرسي وغيرهم من الذين حاولوا تجديد فكرهم الماركسي، ولكني أعتقد أنهم جميعا لم يتمكنوا من إنتاج ماركسية راهنة، ولا أقول عربية. عندما أقول راهنة أقصد أمرين: راهنة في بلداننا وراهنة في العصر.
بلداننا ليست خارج العصر، وبالتالي ينبغي لأي فكر أن يأخذ في الاعتبار الواقع الراهن في بلد معين والواقع الراهن في العصر. وبهذا المعنى، في رأيي، نحن نعاني من فقر.
* قلت إن مقياس الفكر هو في كيفية ممارسته. لنأخذ بعض الشعارات التي كانت سائدة في الفكر الماركسي: العنف الثوري، الكفاح المسلح، دكتاتورية البروليتاريا، حركة التحرر الوطني، الحتمية التاريخية، الواقعية الاشتراكية، المركزية الديمقراطية، كلمات وشعارات كبيرة. أنت تقف في كتاباتك اليوم، لا سيما في كتابك الأخير «في البحث عن المستقبل»، موقفا نقديا من هذه الشعارات، حتى لا أقول إنك تتنكر لها.
– أولا أنا ضد العنف بالمطلق، وضد العنف الثوري تحديدا، لأن النتائج التي ترتبت على هذا العنف بالذات، الهادف إلى تحقيق التقدم، قد أدى إلى تدمير هذا التقدم. أنا أيضا ضد الكفاح المسلح، لكن ليس بالمطلق. ضده كشعار للتغيير، كوسيلة للتغيير. فالتغيير إنما يتم بشكل تدريجي، لأن التسريع في التغيير يؤدي إلى نتيجة عكسية. أما دكتاتورية البروليتاريا فهذه مقولة ماركسية. وقفنا في أواسط الستينات ضدها بالمطلق. علما بأن ماركس كان يرى في دكتاتورية البروليتاريا ديمقراطية الأكثرية ضد دكتاتورية الأقلية. وفي رأيي فقد كانت هذه خطيئة، إذ ترتبت عليها جرائم فكرية وسياسية فيما بعد. حركة التحرر الوطني شعار صحيح والتحرر الوطني حق، وهو يتحقق على مستويين: الأول، التحرر المباشر من السيطرة الاستعمارية الخارجية. شعوب كثيرة مرت بهذه التجربة، بما في ذلك شعوبنا العربية التي ناضلت بأشكال مختلفة: بالسلاح، بالانتفاضات، بالمظاهرات، الخ… وانتهت إلى التحرر. الجانب الآخر من التحرر هو التحرر الاقتصادي والاجتماعي. البلدان النامية وبلداننا جزء منها يحتاج إلى النضال من أجل تحرير المجتمع من التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وبهذا المعنى أعطيت لهذه المهمة وظيفة تتصل بالتحرر الوطني.
الواقعية الاشتراكية في الأدب تعود إلى مرحلة معينة هي مرحلة خمسينات القرن الماضي. ومع أني لست ناقدا أدبيا ولست أديبا، فإنني أعتقد أن هذه المدرسة في الأدب والفن كانت تتضمن نوعا من النسف، لأنها وضعت للأدب آيديولوجيا معينة لوت عنق التاريخ وعنق الأدب معا.
أما المركزية الديمقراطية فقد كانت الأخطر في تاريخ الأحزاب، لأنها الدكتاتورية بعينها. إذ هي تفرض طاعة أعضاء الحزب للقائد ولقيادة الحزب. إذ يتحول القائد والقيادة إلى نوع من المرجعية الدينية. بدأت هذه المدرسة مع لينين، وطبقها ستالين بعنف. وصارت قاعدة عامة في حياة الأحزاب، تلغي حق الناس في حريتهم في التفكير.
* نعود إلى طروحاتك. أنت تدعو في ما تدعو إليه إلى بناء حضارة جديدة وتقول إنه لا بد من التغيير الديمقراطي، أي أنك ضد الثورة. وتقول إنك تكتب لجيل الشباب، الخ… وتطرح في عناوين كتبك ومقالاتك أسئلة من نوع: كيف نواجه الأزمة؟ كيف نساهم في تحقيق التغيير؟ كيف نواجه الاستبداد والاحتلال؟… ألا ترى شيئا من الطوباوية واليفينية في مثل هذه الطروحات؟
– لا، أنا أطرح أسئلة حقيقية. كتابي «كيف نواجه الأزمة» صدر عام 1974، وقد طرحت فيه سؤالا حقيقيا حول حركة التحرر الوطني العربية. فقد وصلنا في تلك الفترة، وخصوصا بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، إلى ارتداد وتراجع في حركة التحرر الوطني العربية في تلك المرحلة. هناك أسئلة تعود إلى تلك المرحلة، وعلينا أن نبحث عن إجابات عليها. وهذه ليست سهلة. ولكن علينا ألا نعتبر أن عدم الإجابة على الأسئلة يفرض علينا التراجع. بالعكس، علينا المضي في البحث، إذ إن عملية التغيير ليست عملية سهلة، وبالتالي عندما أطرح هذه الأسئلة إنما أطرحها كي تكون موضع بحث على الصعيد العام. ولكن المؤسف أنه حتى الآن لم نستطع أن نجيب على تلك الأسئلة، بدليل أننا نزداد تخلفا، وتزداد دولنا ومجتمعاتنا تفككا، ويعم الاستبداد، ونجد أنفسنا على الدوام عرضة للتدخل الأجنبي…
* طبعا هذه أسئلة مشروعة ومطروحة ومهمة. ولكن سؤالي يتعلق بالأسلوب، بنوعية الطرح، وبنوعية الإجابة على هذه الأسئلة. في تقديري هناك نوع من الطوباوية واليفينية في الإجابات…
– لا، لا أعتقد ذلك. أعتقد أنك تظلمني إذا ما قرأت في كتاباتي ما يشير إلى أنني طوباوي في هذا الأمر. عندي تقدير دقيق للعلاقة بين مهمات اللحظة التي أعيشها وبين اليوتوبيا. كنا في السابق في زمن الحتمية التاريخية أسرى اليوتوبيا، كنا نتصور أن اليوتوبيا حقيقة. وهي ليست كذلك. إنها الحلم لتحقيق الأفضل، وهذا الحلم يجب أن يرافق الإنسان في حياته ونضاله. لكن على المناضلين من أجل التغيير أن يكونوا واقعيين وألا يكونوا أسرى اليوتوبيا. أعتبر أن مجرد ارتباطنا بهذه اليوتوبيا يجعلنا على الدوام في حالة سعي للوصول إليها. وبهذا المعنى أنا واقعي جدا وأحلم، أحلم لكي أستمر في النضال من أجل المستقبل. عندما أتحدث عن المرحلية في النضال فإنني أستند إلى أن لكل مرحلة مهمات وأولويات. وعندما نتجاوز في طرح شعارات هذه المرحلة ونقفز إلى مرحلة لاحقة، عندئذ نكون طوباويين. فكل مرحلة لها مهماتها وأولوياتها، ولذلك أركز في كتاباتي على الالتزام بتحقيق المهمات المتعلقة بمرحلة محددة.
الشرق الأوسط