روايـة «دلعـون» لنبيـل سـليمان.. الـذرى السرديـة
وفيق سليطن
تتخذ هذه المقاربة من رواية «نبيل سليمان» الأخيرة «دلعون» مادةً لبناء الموضوع المشار إليه في العنوان، وتبدأ بتقديم تعريف مقترح للذروة السردية، يفرّق بينها وبين الحبكة، ويميّز بين أنواع الذرى السردية، المركزية منها والفرعية، على قاعدة الربط بالبنية والوظيفة من جهة، وبإنتاج الدلالة الكلية للنص من جهة أخرى.
ومن هذا المنطلق تذهب المقاربة المزمع تقديمها إلى تطبيق مقترحها الموصول بالذروة السردية على الرواية، مشخصةً ذروتها المركزية في احتدام المواجهة عند قبر «شليطا» سردياً ودلالياً، وتقدم، من خلال التحليل الموضعي، فحصاً لحوافز التنامي، ولمركبات التعقيد والتنازع المشكلة للذروة الموصوفة، في منحى تحريض ممكنات التأويل والانفتاح عليها، من خلال الربط بتحولات السرد وخاصيات بناء لحظة الذروة، لرد ذلك كله على باقي الأجزاء، في تعالقها وتفاعلها، بما يهيئ لتحرير الدلالة الكلية للنص من منظور هذا التناول.
ـ نحو بناء المفهوم «محاولة تعريفية»:
إذا كانت الحبكة هي طريقة عرض الأحداث وتقديمها بكيفية تحكم شبك بعضها ببعض على نحو مخصوص، فإن مفهوم «الذروة» في العمل السردي يشير إلى لحظة ذات كثافة فائقة، يبلغ فيها التوتر أوجه، وتصل فيها الأزمة إلى حالة قصوى ترشح لمنعطف أساسي في مجرى العمل ينبئ بإمكانات التحول عما قبله، ويحوز قوة الوصل والفصل من حقيقة كونه لحظة توتر عالية، تزخر بآثار عوامل الاحتدام، وبنشاط طاقة المواجهة التي تتركز فيها، من حيث هي نقطة اختزال وصهر وتكثيف لمكونات سردية ودلالية مختلفة. ولا شك في أن هذه اللحظة، التي تتحرّض معها قوة الانقسام والانشقاق، تحمل بذاتها تلويحاً بالحلول والتوقعات، من داخل مجرى الصراع الذي تختزنه وتنطوي على ترميز عوامله وممثليه في شحنة إشارية مركبة. وهي، إلى ذلك، تتحدد بالاستجابة الانفعالية للمتلقي في مواكبة لحظة التأزّم من حيث هي، في الوقت نفسه، مكمن إشاري يعيّن نقطة التحول والانعطاف.
على هذا النحو يمكن الذهاب إلى أن الحبكة السردية الواحدة قد تتخللها لحظات ذروية متمايزة نوعياً، ومتفاوتة أهميةً في الموقع والوظيفة، وبحكم هذا التصوّر تكون الذروة المركزية مؤسسة على ذرى فرعية مفصلية تهيّئ لها وتدفع نحوها. ومن شأن تلك اللحظات، التي تمثل ذرى فرعية، أن تشد جهات السرد، وتؤمن تقاطع خطوطه، وحبك مستوياته، في لحمة تتكفل بضبط إيقاع الحركة، وتمسك بجوانب التنامي الفعلي في مختلف الأجزاء والمواقع، وتقدم، من داخلها، تسويغاً ضرورياً لهيئاته ومقاديره، ولانقطاعاته التي تغذي سبل الانتقال بين تكوينات الفضاء النصي، وتفتح بعضها على بعض عميقاً في توجه داخلي يتصعد بالتكثيف النوعي نحو ما أشير إليه، من قبل، بـ«الذروة المركزية».
ـ الذروة المركزية وتحولات السرد:
تضطلع «دلعون» «نبيل سليمان» برصد تأزمات المجتمع على شتى المستويات: السياسية، والاجتماعية، والثقافية، في ظل الاستبداد.
وهو ما تشير إليه بـ«وباء شليطا» الذي أخذ يغزو المجتمعات العربية وما إليها بعد تحقيق استقلالها الخاص. وفي التصدّي الروائي لواقع هذه المرحلة تخلق الرواية واقعها الموازي، عبر اشتباكها بالمرجعي وإحالتها عليه. ومن هنا كنا نلحظ وفرة الإشارات التي تشد المتخيَّل الروائي إلى ما يتولى دمجه وتنصيصه من وقائع التاريخ الاجتماعي ـ السياسي في المرحلة المشار إليها.
وعلى الرغم من أن هذه الإشارات لا تطفو على سطوح السرد، بل تتخلّق داخل حركته، من حيث هي انبثاقات وقرائن وإلماعات مكثفة، فإنها تتكفّل بتعيين تمفصلات الحكاية والخطاب، وتحوز أهمية تتعدى وظائفها الإحالية المباشرة إلى الإسهام في تمكين خطاب الرواية وتصليب قاعدتها وتخصيب مبناها الفني.
وإذا كانت هذه المحاولة القرائية ترى تمثيلاً للحظة الذروة في بناء مشهد مواجهة قبر «شليطا» والحلول فيه، بما يستوجبه الموقف من الإثارة والتأزم وإنتاج قوة المفارقة والتحريض الانفعالي، فإننا يمكن أن نسجل عدداً من الملاحظات نقيس بها منحى التحول السردي في تقدمه نحو لحظة الذروة المحددة بما سبق.
من ذلك أننا نعاين انحسار المؤشرات الإحالية، وتلاشي المرجعي بتقليص نتوءاته السردية تقليصاً مساوقاً لحركة الصعود نحو المرقى الذروي، وصولاً إلى تذويبها وتغييبها تحت قوة الحضور التخييلي، وبهذا نقف على ضبط تحولات السرد من التذرير إلى التبئير. فما كنا نقع عليه، من قبل، من محددات التاريخ الاجتماعي، ومعيّنات خط التنامي الحدثي بإحالاته المختلفة على توضعاتها في الزمن الكرونولوجي، من نشاط الإخوان المسلمين التصفوي، إلى أحداث المقاومة الفلسطينية في لبنان (1982)، إلى تدافع الأحزاب الشيوعية وتفاقم أزماتها في ظل وباء ما بعد الكولونيالية، إلى اتفاقية أوسلو وما آل إليه وضع السلطة الوطنية الفلسطينية بفعل ذلك الوباء الذي أصابها في الصميم، إلى غير ذلك من مظاهر تفكّك البنيان الاجتماعي، وكبح حركة المجتمع في ظل شخصنة السلطة التي تستولي عليه، على نحو ما تشير إليه ندوة الدكتور «دريد اللورقي» في الشارقة عن الدكتاتورية في الرواية العربية، حيث يحضر النص الروائي مستوى آخر في التعيين يعاضد الواقعي ويناجزه، أو يؤكده بمناجزته له، من «ذيب الأول» و«آدم الأصلي» عند مؤنس الرزاز إلى «لوياثان» حيدر حيدر، ورجل الساعة والقدر عند غازي القصيبي، وليس آخراً ما سمّاه هاني الراهب بشهريار أو الحجّاج أو دهريار بن نفيطيان.
كل هذه القرائن والموجّهات وسواها من ضروب الإحالة والتعيين يجري تذويبها، من بعد، لتبطّن النسيج الروائي وتنصهر في خط تحوّله باتجاه الذروة، التي تغدو هي تكثيفاً فنياً له، وقولاً آخر مختلفاً يمخض التفصيلات السابقة، ويحلّق فوق حدودها الكمية والزمنية، ضارباً في عمق الوجدان، ومتسعاً بدلالاتها إلى آفاق إنسانية وكونية، عبر تشخيصه الحي لها في المصائر الفردية التي تنفتح على عوالمها الداخلية، وتفتحنا على رحابتها وانقباضها في المعايشة الملموسة التي تضرب في غور الحقيقة من حيث هي صنيعة الفن.
وعلى غرار ذلك نلاحظ أن تمدد الشخصيات واتساع رقعة الأصوات فيما قبل الذروة سيشهد انحساراً وتركيزاً صاعداً في تحوله إليها. فما كان يحفل به السرد من تقديم خطاب الأقوال والأفعال في انتقاله بين المنظورات المختلفة، أو في إضاءته للخلفيات من خلال السرد الاسترجاعي، أو بإفساح المجال لتقاطع أقوال الشخصيات وتفاعلها عبر قناة أساسية يمتد بها راوٍ يتحرك بنا بين المنظورات المختلفة، ويواجهنا بأصوات الشخصيات وحضورها الذاتي، من دلعون الأم وابنها جابر العتوت الملقب بـ«شليطا» إلى حمزة ودريد، ورابية وليانة، ودلعون الثانية أو بسيمة العتعوت وزوجها الفلسطيني معاوية قدور، ومن دعاء معكعك وزوجها الدكتور محمد حلام الذي سيغدو الشيخ الدكتور إلى أختها عائشة وأخيها الشيخ ياسر بهاء الدين، ومن رحمة وحصة ويحيى وجبران إلى غير هؤلاء من الشخصيات التي يلتقيها دريد اللورقي في الشارقة. وهذا الفضاء المكتظ بحركة الشخصيات وأصواتها وأفعالها يشكل ـ فضلاً عن أهميته البنائية ووظائفه المتعددة ـ الحاضنة الضرورية ومختبر الآلة السردية، الذي سيتمخض عن توليد لحظة الذروة والنهوض بها. وفي هذا المتصل الصاعد تتخفف حركة السرد من احتدامها وترددها بين الشخصيات والأمكنة المختلفة، ويتباطأ الإيقاع السردي تدريجياً، فيتمدد الزمن، ويتراجع التسارع الحدثي في تقلّبه بين الأصوات والأماكن، لينحصر المكان في الطويبة، أو في فيلا «شليطا» حيث تحضر دلعون الأم وأختها مع الابنين بسيمة العتعوت ودريد اللورقي، اللذين سينفردان بنفسيهما، عما قليل، في مواجهة قبر «شليطا».
ما يجري من هذه التحولات يستدعي بالضرورة مصاحبات أخرى لازمة، منها ما يمسّ بتوزيع الكتلة السردية، ويفرض توجيه محورها نحو الداخل، بحيث يتاح الغوص أكثر في العوالم الذاتية ومكنونات الروح. وهنا تتدفق تيارات الرؤى والتداعيات، وينزاح مؤشر السرد من الواقعي إلى الحلمي، متواشجاً مع التصعيد الدرامي. وبناءً على ذلك يكون الانتقال من التركيز على الطوابع الخارجية الوصفية والحدثية إلى تقطير الفيوض النفسية الوجدانية، اعتماداً على تسريب المونولوجات التي تكسب السرد طاقة شعرية، وتمنحه كثافة إيحائية تخلصه، في هذه اللحظة بالذات، من شحناته الموضوعية والعملية، ومن طوابعه النظامية وقسماته الإيديولوجية، إلى غير ذلك مما يزكي حرارته الإنسانية، ويحفز توثبه نحو المطلقات الكونية، في نزوع لأسطرة اللحظة التي نحن بصددها، من خلال التحول بلغتها التي تغدو صوت الطبيعة المتفتحة والداخل الإنساني بزخمه المتوهج، أو بهواجسه وخلجاته التي تتكلم عبرها الأشياء، وتترجم عنها، وتندغم بها. ولعل ذلك كله مما يحتاج إلى قدر من التوسع والاستقصاء والإنضاج، على سبيل التبصّر النقدي والتعمق البحثي في تحولات السرد الذروي وخصائصه المائزة.
ـ الذروة السردية وانفتاح التأويل:
إذا كانت الذروة لحظة تكثيف عالية كما سبق القول، فإن هذه الخاصية، بلوازمها ومصاحباتها، هي التي تستدعي ممكنات التأويل، وتطلق آفاقها على الترقب والاحتمال؛ ذلك أنها، بتحرير طاقة المعنى وتحريض البدائل المختلفة من إنتاجية التدليل التي تنهض بها اللغة في مستواها الإيحائي، تطلق نشاط التأويل في مستوى ما اختزنته من تراكمات السرد الحاملة للتجارب والحيوات وخبرات الصراع الخاصة بمجتمع الرواية وما ينسرب من شقوقه الإحالية. وعلى الرغم من أن عوامل التأسيس والتراكم، بتفاعلاتها المختلفة، هي التي تهيئ المخاض للحظة الذروة، فإن فائض القوة في علاقات البناء ينطوي بذاته على توجيه ضمني لهذا المسار؛ أي إنه يضطلع بتحريض نوياته وتشكيل منحاه بقدر أو آخر، بحيث تكون لحظة الذروة انبثاقاً عن العلاقة لا عن الكتلة أو المجموع الكمي. لكن لحظة الذروة، بخصائصها النوعية، سترد أثرها الذاتي على أجزاء العمل وجوانب البناء، لتسهم من طرفها في إنتاج دلالة العلاقة التي تحكم اشتباك الأجزاء ونسب التفاعل. وبهذا تتعين الذروة ناتجاً نوعياً نسبياً، في الوقت الذي تكون فيه، من الجهة الأخرى، فاعلاً للإنتاج، يلقي بأثره على النص، ويسهم في تخريجه على نحو ما، وفي إكسابه دلالة كلية ممكنة. وهنا يتعين على القراءة أن تنشط وتزدوج في حركة الذهاب والإياب، دون أن يعني ذلك وجوب تطابق الحصيلة واستوائها بين الجانبين.
عند قبر «شليطا» تنعقد المواجهة الروائية في تقطير مركز بين أفقين متدافعين، وثقافتين متضادتين، وبالمحصلة بين رؤيتين متناقضتين للعالم، لا تجتمعان ولا ترتفعان.
«وحين ظهرت المنصّة الهائلة توقفت دلعون وصاحت: هذا قبر شليطا …» (ص242).
لكأن هذه الالتفاتة المفاجئة تتوضع عتبة مزدوجة، تشكل قطعاً في المكان، وفاصلةً في السرد. ومعها يجري تعليق السياق، وكبح الاسترسال، وتسلّل فجوات الصمت والوجوم الملازمة للقطع والتحول، والمهيئة لاشتغال الحوافز الداخلية، ولاستنفار عناصر الضخ الخيالي من داخل لحظة التأزّم، التي تتكشف عن قوة المواجهة الرمزية بين حضور القبر تحفةً فنية شامخة، تنتصب علامة على «تأبيد» حضور الطاغية، وشاهداً ضخماً على سلطته التي تستولي على الحياة من داخل الموت، فتؤمّن تغذية النسق الأبوي في رمزيته الأسطورية، وبين محاولة تحويل المكان، باحتلاله أو بالحلول فيه، لزرعه بوعد الحياة والمستقبل، نقضاً للســلطة القابرة، دنيوياَ وأخروياً، في مرتسـمها الواصــل بــين الأزل والأبد.
إن مكوث دلعون ودريد في القبر هو، من هذه الجهة، قبرٌ للقبر، بفعل إعادة تأثيثه بطاقات الحب والحياة، وهو قبر لماضي التسلط الحاضر في معمار الضريح الباذخ، وقطع في دلالة المكان تستوجب إعادة تعريفه في التباسه بين قوتي التنازع؛ ذلك أن مغالبة القبر بالنزول فيه هي تمكين لجذور الحياة في باطن أيقونة الموت، وغزو لها بقوة التحويل العميق الذي يحفر في قرارتها، وينالها في جذرها لا في سطوحها ومظاهرها فقط. وهنا تحتدم المواجهة، رمزياً، داخل القبر الذي يغدو محلاً للتنازع الدلالي بين مكان السلطة والموت ومكان الحب والولادة.
وإذا كان العمل على المكان مرتبطاً، على نحو ما، بالبحث عن الهوية والسعي لتحقيق الكينونة، وجب أن يتحدد وتتمايز صوره بحكم العلاقة المشار إليها. فكما أن الذات تتغيا تحويل المكان على مقياسها الخاص، ليكون صورة عنها، وحاضناً لقيمها، كذلك نجد أن المكان، على هذا الوفاق، يسقط صورته على الكائن، ويغدو مشبعاً بالقيمة، فتتعدد صوره، من منظور العلاقة الذاتية، بين الألفة والعداء، وبين الجذب والنبذ، وبين الذات وآخرها. ومن هنا نقدر أهمية التكوينات السردية في هذا المنحى، بما تنطوي عليه من قيمة في التشكيل والدلالة وبناء المنظور. فقبل مواجهة القبر يقول دريد لدلعون: «لن تنامي في فيلا شليطا، لي في بيت أمي سرير عتيق وضيّق ينتظر». (ص241).
إن التعارض المكاني يحوز القيمي ويؤسسه ويمتدّ به في نسق المواجهة. ففي وصف السرير بالعتق والضيق تحديد ضمني للمكان وللمكانة، وتوجيه طبقي يفتح على التقابل الضدي مع (فيلا شليطا)، فيشير إلى مقاومة نوعية لأبهة «الفيلا» وللنسق العلامي الذي تندرج فيه من جهة، ولوباء شليطا الحادث من جهة أخرى. وبناءً على ذلك فإن العلاقة الناهضة باتجاه المستقبل المنشود لا تتأسس، من حيث هي بديل نقضي، في رحم المكان المضاد وقيمه المسيطرة.
على أن ذلك لا يعطل إمكان ارتقاء الوعي الضدي داخل الوضعية الطباقية لينفي حدّيها. فمواجهة الوباء الحادث لا تعني، بالضرورة، الاستكانة إلى قدامة الموروث، بل هي، في الوقت ذاته، نفي لرثاثة القديم وانفكاك منها، وعلو فوق حدي التقابل بقوة الفعل الصراعي المتعيّن. ومن هنا كان الحلول في قبر شليطا أولاً، ومخاتلة السرير العتيق ثانياً، لا يخلوان من حمولة جدلية تتجاوزهما إلى الرقي نحو إعلان ولادة جديدة.
لقد سبقت الإشارة إلى ما تنطوي عليه لحظة الذروة من كثافة تتنامى فيها عوامل التحفيز، وموجهات الفعل، ونشاط الخيال، إلى غير ذلك من الإشاريات التي تنصهر في عمق هذا التركيب وتشكّل رافعة له. ومن هذه الحوافز التي يجري التركيز عليها في سرد هذه اللحظة، بقرينة التكرار اللافتة بصرياً في رقعة الكتابة، تطالعنا «الريح الشرقية» في تناوب ظهورها، وفي ترددها بين الفقرات المتقاربة خطياً. فالريح الشرقية تتدخل في طقس اجتماع العاشقين وتزكيه: «عندما أغفت القطة حقاً وعميقاً، كانت الريح الشرقية قد أخذت تعصف عصفاً. وسرعان ما أخذت قدما القطة تشعان دفئاً فيما تلامسان من بطن دريد، وسرى الدفء في نسغه رويداً». (ص240 ). وهي، بمثل ذلك توجّه الحركة نحو الداخل، إيذاناً بالفعل نفسه: «لكن الريح الشرقية قلبت زجاجة التكيلا فوق صحن الفستق الحلبي، فتناثرت حباته (…. ) وشهقت دلعون …. الخ» (ص241 ). وفي مرة ثالثة تدفع الريح الشرقية بهما نحو القبر: «لكن الريح الشرقية التي أصابت العروسين بجنونها، دفعتهما صعداً نحو بوابة الفيلا، وراح ضوء القمر يزداد سطوعاً خطوة فخطوة. وحين ظهرت المنصّة الهائلة توقفت دلعون وصاحت: هذا قبر شليطا». (242). وهكذا يتكرر فعل التحفيز، ويلاحظ أن «الريح الشرقية» تهب في أثناء التوجيه للفعل، وتخمد عند الدخول في طور الإنجاز: «لكن دلعون وسّدته ذراعاً وغطته بذراع ولفحته بأنفاسها، ففرّت الريح الشرقية». (ص244).
هذا، وقد ينطلق لحن الريح الشرقية متواشجاً مع غيره من الرموز وعوامل التحفيز، فنقع على مركب تحفيزي تنعقد الصلة بين آحاده من موجهات الحكي، لتتسع برقعة الضخ الخيالي في نشاط الرؤى والتكوينات الحلمية المتدفقة في تيار التداعي الحرّ. فمن داخل قبر شليطا «وقفت (دلعون) تتقرى رأس الطويبة في ضوء القمر الساطع، فوقف دريد ورأى شعر دلعون يعود أطول مما كان، ورأى الريح الشرقية تذروه فوق مرج من الريحان والزوفا والزعتر والشوك الأزرق». (ص243).
وإذا كانت الريح الشرقية تحمل في ذاتها دلالة الشروق والتبلّج، إيذاناً بتفتح الحياة وانطلاقتها الجديدة، فإن أعمدة المنصة ورخام القبر يتعاضد بعضها مع بعض في دلالة الإجهاز على الحياة، بصلابة أركان صناعة القبر، وتحت قوة حضوره الباذخ.
«كانت دلعون قد أقعت عند جذر عمود من أعمدة المنصّة، ومدت ساقيها فوق البلاطات السداسية الكبيرة المتباعدة، وأقعى دريد بجانبها يغالب الوجع وزئير الريح الشرقية. ورأى دلعون تداعب ما نبت بين البلاطات، واشتبه سمعه في أنها تدعوه إلى أن يسلّم على هذه الكائنات التي انتصرت على شليطا وعادت إليها الحياة بعدما قتلها بالفيلا والمنصة والقبر، وربما بالمبيدات. واشتبه بصره في أن يرى رأس الطويبة كله، وليس هذه البقعة الصغيرة فقط، وقد أحاله شليطا إلى بلقع. ثم اشتبه سمعه وبصره في أن أصابع دلعون ورموشها تبارك القشيطة والصريصيرة والكليبة بين هذه البلاطة وهذه البلاطة …». (ص243).
ومن البيّن بحكم الشاهد، ما يزخر به السرد في هذه اللحظة من احتدام المواجهة بين نسقين علاميين شديدي الكثافة، يمكن إعادة تنضيد عناصر كل منهما قبالة الآخر، لنقف على ضراوة الصراع في هذه القمة السردية، ونشهد مقاومة كائنات الطبيعة الغضة، بما فيها من قوة الحياة، لكتلة الموت المتصلبة في هيكل الضريح. وهنا تلتحم الريح الشرقية بالمكون الإشاري للطبيعة النباتية بدلالاتها الناهضة التي تخلخل رخام القبر، وتندفع بتلاوينها المختلفة بما تبطنه من علامات الصحة والعزيمة في الزوفا والزعتر والشوك الأزرق، لتجبه أضدادها المتضامة في وحدة القبر المصنّعة. وعلى هذا الغرار سنلاحظ في السرد اللاحق تماهي الحب بالكتابة في الانفتاح على الحياة والمستقبل، ولا سيما أنها كتابة على صفحة السماء، تشكل مقابلاً عمودياً لغور القبر، يحجبه ويسمو عليه، ويشير من علوه إلى سفول النظام المترسب فيه.
لكن قبر شليطا، على أية حال سيبقى فاغراً ومعلّماً بمنصته المشدودة إلى دعاماتها الراسخة. ويعني ذلك أن هذا السرد الخاص بلحظة الذروة، الذي يستثمر الأجزاء السابقة لينتجها فيه ويردّ دلالته عليها في آن معاً، يستمر بقوة المواجهة، ويبقى مفتوحاً على الاحتمال، في الوقت الذي يمتدّ بآثارها إلى المتلقي معوّلاً على مشاركته وانخراطه في هذا الأتون، ومراهناً على الوجهة التي تعيّنها نوعية الاستجابة.
(كاتب سوري)