تمدين «الانترنت» وانقاذ الذاكرة
إيمانويل هوغ *
ثمة بليون حاسوب في العالم، اليوم، وكل مستخدم حاسوب هو منتج محتمل للذاكرة. فالثورة الرقمية أدخلت الذاكرة في عصر السوق، وأخضعتها الى قانون العرض والطلب. ومن قبل، كانت الذاكرة، الفردية والجماعية على حد سواء، موضوعاً ثقافياً ومعرفياً، فكانت نادرة وقيِّمة. ولمئة سنة خلت، كانت عشرات الصور تفي بغرض وصف العائلة الفرنسية، والإحاطة بحالها. وترانا، بعد الثورة الرقمية، يعود واحدنا من عطلته الصيفية وفي جعبته، أي في حاسوبه المحمول، مئات الصور. وعلى هذا المثال، لا شك في أن الأجيال القادمة سترث مخزوناً من الذاكرة لم يسبق لجيل من الأجيال الخالية أن عرف نظيراً له.
وهذا ثمرة تخلي المجتمعات الغربية المعاصرة عن الاضطلاع بترتيب المعارف وتنظيمها، واستبقاء بعضها وإطراح بعضها الآخر، وذلك من طريق المتاحف وهيئات المحفوظات والتوثيق والجامعات والمكتبات. ورجع المجتمع عن تولي هذا، والقيام به. ودعا الى هذا المراكمة الكمية، من وجه، وانصراف الواحد الى «انتاج» ذاكرته الخاصة. فالواحد الفرد يرى أنه في مستطاعه وحده رصف ذاكرته، وصوغها تاريخاً. والوهم الديموقراطي والثقافي الجديد هو وليد الثورة الرقمية. ويترتب على الأخذ به وتصديقه التقليل من طاقتنا على رسم مصائرنا الجماعية والمشتركة.
وامتلاك القدرة على مباشرة ما تبحث عنه الذاكرة فوراً في مخزون رقمي تحت اليد وبتصرفها، لا يصطدم بتشبع، ولا يقيده قيد تقني. فلا حدود للتخزين ولا قيد عليه. وتجاه كتلة المعلومات المتعاظمة، والمتاحة على الدوام على الانترنت، ينبغي أن يكون الرهان على التحكم في فرز ما نريده عن تلك الكتلة، وتمييز مفيده من غئه وسمينه. وأولت السلطات الرسمية عنايتها واهتمامها مسألة احصاء المضمون الهائل، وحفظ المحتويات من التهديد، وجعلها في متناول أكبر عدد من المستعلمين المحتملين. وأحسب أن الحاجة تلح الى صوغ معايير الاستعمال، وترتيب المعلومات والمعارف على الشبكة.
وفي الدائرتين، الفرنسية والأوروبية، تركت المسائل هذه الى القائمين على محركات البحث، ومعايير هؤلاء غامضة. فليست غايتهم تمكين الباحث من مفاتيح معرفة أوسع، بل احتكار سبل بلوغ المعلومات. وتسوقهم الى هذا مصلحة اقتصادية في المرتبة الأولى. ولا مناص من تولي السلطات العامة انشاء أطر أو فضاءات معرفية حقيقية ومنفتحة على الانترنت.
ويلاحظ أن أنظمة الذاكرة التقليدية ومبانيها تصدعت تحت وطأة الثورة الرقمية. فنحن صار في وسعنا انشاء ذاكرة عن كل شيء، ولكل شيء. والى أمس قريب، كان ثمة تعاقب منطقي بين الذكريات والذاكرة والتاريخ. وكانت هذه مراحل متصلة تمهد الواحدة منها الى التالية. وأما اليوم، فالذكريات والذاكرة تتقدم التاريخ و «حبله». والحق أن انتفاخ الذاكرة الرقمية يؤدي الى قتل الذاكرة الحقيقية. وبعبارة أدق، تطفئ الذاكرة الرقمية المتورمة التاريخ، وتقصيه وبناء سياقاته.
و «فقاعة الذاكرة» قد تكون سبباً بارزاً في أزمة الهوية التي نشكو منها، وانفجار الفقاعة، قد يلد حروب ذاكرة تتعمد الأقليات شنها باسم دعاوى هوية وتاريخ. وقد يتجلى الانفجار نفسه في فقدان الذاكرة وضمور المثاقفة الجماعية. فالسؤال الملح على الأجيال الفتية هو: لماذا نتعلم، ونتعهد ذاكرتنا ما دام الحاسوب يتذكر عوضاً عنا؟ ومن غير بناء الذاكرة النقدي يغلب وهم ذاكرة أبدية وثابتة و «موضوعية»، ينجم عنه وهن الروح النقدية القائمة على الحرية الديموقراطية.
* رئيس المعهد الوطني للمرئي والمسموع ومديره العام منذ 2001 وكاتب «عام الذاكرة الصفر»، عن «لونوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية، 3-9/9/2009، إعداد غيدا نصار
الحياة