رأي في أزمة اليسار
جمال القرى
إن اليسار هو الحركة السياسية الضرورية الوجود في كافة المجتمعات وفي ظل كافة أشكال الحكم القائمة في الدول.
فهو مستنبط للأفكار المدافعة عن حقوق ” المواطنة” السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفاعل في أحزاب ونقابات وجمعيات ومؤسسات مدنية بهدف شرح هذه الأفكار وبلورتها وتفعيلها لانتزاع الحقوق المدنية والسياسية للأفراد والمجموعات المهمّشة والفقيرة من السلطات الحاكمة، إن بشكلها الاستبدادي الديني القائم على مفهوم الحاكمية الإلهية، أو العسكري القائم على تسلط العسكر وأجهزة الأمن والمخابرات، أو الليبيرالي القائم على أساس الاقتصاد الحر المتفلّت من الرقابة، وعلى استغلال موارد الدول وقوى شعوبها المنتجة لصالح الطبقة الحاكمة وحاشياتها. وهو الساعي إلى تحقيق العدالة والمساواة، مستخدماً كافة أنواع النضال الديموقراطي والسلمي ومطوّراً أدواته تبعاً لتطور قوانين المعرفة وتطور المجتمعات.
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أدى انفتاح لبنان الثقافي على الغرب إلى قيامه بدور ريادي في عصر النهضة، عبر بروز مفكرين وكتّاب فاعلين ومتاثرين بأفكار عصر التنوير الاوروبي وشعارات الثورة الفرنسية، وإلى تشريع الأبواب لاحقا للتأثر بأفكار الثورة البولشيفية المنجزة عام 1917.
افتتن عدد لا بأس به من اللبنانيين، من مختلف الطوائف، بالأفكار الماركسية اللينينية الجديدة الوافدة والمصّدرة نحو الشرق والغرب، لاسيما أنها حملت إلى شعوب العالم شعار التحرر من الاستعمار وحق الشعوب تلك في تقرير مصيرها، في وقت كانت معظم دول المشرق ترزح تحت نير الاحتلالات الغربية وتسعى لتحقيق استقلالها، وحملت كذلك شعار تحرير العمال والفلاحين والأجراء من ربق الاستغلال الذي طالما عانت منه غالبية الشعوب، ومنها الشعب اللبناني في ظل السلطنة العثمانية والانتداب الفرنسي والإقطاع السياسي المحلي التابع لهما.
حينها أنشىء أول حزب سياسي يساري لبناني هو حزب الشعب ( لاحقاً الشيوعي) والذي ضم في صفوفه أعداداً لابأس بها من مختلف الطوائف والمناطق اللبنانية، وارتبط ارتباطاً عضوياً ومعنوياً ببلد منشأ الثورة، الاتحاد السوفياتي، وتأثر به إيديولوجياً وتنظيمياً وسياسياً إلى حد التماهي.
لعب الحزب دوراً مهماً في نشر وعي لاطائفي، وفي تحقيق مكتسبات مهمة وعديدة للطبقة العاملة والمهمشة، ونشط في اوساط المثقفين، وكان رائداً في تحرير الوطن من الاحتلالات.
في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي برزت عللى الساحة السياسية قوى يسارية أُخرى تعددّت واختلفت فيما بينها لارتباطها بتعدّد أنماط فهم المنهج الماركسي وتطبيقه في دول العالم الاشتراكي، وكانت القوة والغلبة والشرعية للحزب الشيوعي المنتمي للاتحاد السوفياتي الأقوى حينها على الساحة الدولية، وأحد قطبيّ الحرب الباردة.
نشطت هذه القوى اليسارية بشكل فاعل في الحياة السياسية اللبنانية من خلال أحزاب ونقابات وجمعيات واتحادات، وحققت مكاسب مهمة وكثيرة للطبقة العاملة وللمزارعين والأجراء، وساهمت في تطوير الحياة الفكرية والثقافية، وفي وضع البرنامج الاصلاحي المرحلي للحركة الوطنية مع الشهيد الوطني كمال جنبلاط، وشاركت بفعالية في الحرب الأهلية، وأسست بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان حتى بيروت لاحقاً مع قوى أُخرى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي كانت السبّاقة في نشر ثقافة المقاومة وفي إعلان الحرب ضد العدو، واستطاعت دحره جنوباً بفعل عملياتها النوعية وبأس مقاتليها.
تعرض اليسار خلال مسيرته إلى أزمات سياسية وتنظيمية متعددة، استطاع تخطيها منتصراً حيناً ومترنحاً أحيانا، إلى أن تلقّى في بداية التسعينات من القرن الماضي ضربتين متتاليين، نتيجة اتفاق الطائف وسقوط نظام الاتحاد السوفياتي، أدخلتاه في أزمة كيانية عميقة ازدادت اتساعاً مع الزمن إلى أن أصابت منه مقتلاً.
فموضوعياً، أُقصي اليسار تماماً عن الحياة السياسية العامة، بعد انتهاء الحرب الاهلية وبعد محاولات تحجيمه وتهشيمه في السنوات العشر السابقة لانتهائها، عبر تهجير قسري لمحازبيه ومناصريه من أماكن سكنهم وعملهم (تطهير مذهبي وإيديولوجي)، واغتيال كوادره السياسية والفكرية والثقافية، وإقصائه بالتالي عن محاربة العدو الاسرائيلي بأساليب شتّى لا يتسع ذكرها الآن، ممّا أدى إلى تراجعه من الساحة السياسية والمقاوِمة وملئها لاحقاً من قوى وأحزاب مذهبية ناشئة، تمكنت من أن تربو على أنقاضه. وللمفارقة فقد تزامن تبديل المواقع الحاصل بين القوى اليسارية العلمانية وبين القوى المذهبية الفئوية مع انهيار نظام المنظومة الاشتراكية، وانتصار الثورة الاسلامية الإيرانية وبدء تصديرها إلى الخارج.
أما ذاتياً، فإن تراجعه وانهياره (بعد صفحات مضيئة من تاريخه، وجنوح احياناً نحو الاستقلالية)، ارتبط بأسباب سياسية وثقافية. فمن أهم الاسباب السياسية عدم إجرائه دراسة نقدية جدية وشاملة لتاريخ نشاطه وخاصة في مرحلة الحرب الأهلية (ما عدا النقد الفردي الذي قدمه الشهيد جورج حاوي ولاحقاً محسن ابراهيم)، من أجل تقويم أدائه حينها في جدوى وصوابية خياراته، واعتماده الثورة المسلحة من أجل تحقيق الإصلاح السياسي، واستقوائه بالبندقية الفلسطينية لبلوغه، واستعدائه أفرقاء الداخل دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصيتهم وهواجسهم، وكذلك استمراره بالمشاركة مع مجموعات زواريب الميليشيات الطائفية في الحرب الاهلية، بعدما تحولت من معركة وطنية إصلاحية بعد دخول الوصاية السياسية والعسكرية السورية إلى لبنان، وفشل تحقيق الاصلاح، إلى معركة طائفية ومذهبية (شاركت فيها كل الطوائف والمذاهب والقوى دون استثناء).
أدى هذا الواقع إلى شرذمة اليسار وضياعه، وخسارته لمحازبيه ومناصريه الذين إما اعتكفوا، وإما التحقوا بقوى الأمر الواقع، وإما طُردوا واستقالوا ليأسسوا حركات يسارية عديدة، كالت لبعضها التهم والعداء، واعتبرت كل واحدة منها أنها الفرقة اليسارية الناجية.
هذا ويُسجل عدم نجاح أي تجربة منها حتى الآن، وبخاصة تلك التي شاركت في الحياة السياسية العامة من خلال الندوة النيابية، بسبب تخليها عن مشروعها اليساري المتمايز، ورهن قرارها للقوى التي أوصلتها.
أما من أهم الاسباب الثقافية لانهياره، فهو أن تركيبته السياسية والفكرية والسلوكية استلهمت بنيتها من نمطين ثقافيين: الأول من الثقافة المجتمعية والسياسية العربية، القائمة على سلطة ابوية، قبلية وعشائرية، تنهل من التراث الفكري الديني والفكري الجامد، دون الوجه الاجتهادي والتنويري لكليهما، مما يحولها إلى قلاع أصولية (دينية وسياسية) مستعصية على أي تجديد وتغيير وتطوير.
والثاني، من ثقافة اشتراكية سوفياتية بصيغتيها اللينينية والستالينية، مبنية على الروح الجماعية، تحولت بتبنيها تفسيرا جامداً ومجتزأً للمادية التاريخية الماركسية ولحتمياتها المطلقة، بما يخدم مصالحها كسلطة حاكمة وإن باسم البروليتاريا، تحولت إلى أصولية لا تختلف عن الاصوليات الفاشية والدينية. فهي تنتهج الديكتاتورية مبدأً للحكم، وتلغي الحريات والقدرات الذاتية الفردية لصالح روح الحزب وقياداته، وتستعدي المختلفين والمجتهدين والرافضين، وتعاقبهم بالسجن أو النفي أو القتل.
إن وجود يسار جديد في لبنان، في ظل التجاذبات والاصطفافات المذهبية والتدخل الإقليمي والدولي العلني والفاضح في كل شؤونه الداخلية، يحمل مشروعاً سياسياً وطنياً تحت شعار مركزي هو السعي إلى تغيير النظام السياسي بالوسائل الديموقراطية من أجل قيام دولة مدنية، لهو حاجة ملحة. ولكنه صعب التحقق إن لم تجر عملية نقد للتجربة اليسارية السابقة، وورشة إصلاح ثقافي، تخرجه من الجمود العقائدي، وتجعله يساراً حراً وديموقراطياً، متواصلاً مع التطورات الفكرية والمعرفية الجديدة، لمواكبة تطورات المعسكر الليبيرالي بسياساته المتفلتة، وانعكاساتها على مجتمعنا، ليستحق بالتالي أن يكون في المعسكر المواجه.
نشرة الأفق