صفحات مختارة

تجارة البشر: عبودية متجددة

خالد غزال
قد يكون مستغربا الحديث عن العبودية وتجددها في نهايات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بعدما رسخ في ذهن البشرية أن نضالات الشعوب التحررية قد أزالت من الوجود هذا النمط من العلاقات الاجتماعية.
وعندما يجري الحديث عن العبودية المتجددة، يتبادر إلى الذهن أن موطنها لايزال في بلدان أفريقيا أو غيرها من البلدان المتخلفة، لكن المثير أكثر للاستغراب أن هذه العبودية انتقلت إلى العالم المتقدم والذي قطع أشواطا بعيدة في التطور السياسي والاجتماعي والتقني، وهي تتخذ لنفسها أشكالا من «التقدم» متناسبا مع المجتمعات الحديثة.
تعود هذه العبودية بعد عقود على إقرار شرعة حقوق الإنسان التي جزمت في تحريم العبودية ووضعت لها اتفاقات دولية، من المؤسف أن ميدان انتهاكها يقع ضمن المجتمعات التي ناضلت في سبيل وضعها. فما هذه العبودية المتجددة، وما الأشكال التي تتزيّا بها، وأين موقعها من حقوق الإنسان والانتهاكات لها؟
بعيدا عن الأشكال القديمة المعروفة بالنسبة إلى العبودية في وصفها نظاما اقتصاديا واجتماعيا، وهو شكل يبدو أنه بات من النادر تجسده في صيغه التقليدية، تسود علاقات جديدة قائمة على اختطاف الأطفال والاتجار بالنساء عبر نقلهن من بلدانهن الأصلية إلى بلدان أخرى، وتهريب الشباب واستخدامهم في أعمال السخرة والأعمال الشاقة في أحوال غير إنسانية، وبأجور زهيدة، واستدعاء الرجال أيضا من بلد إلى آخر وتشغيلهم.
تقوم بهذه التجارة منظمات ومافيات تخترق جميع بلدان العالم، المتقدم منه والمتخلف، مستفيدة من وسائل التطور التكنولوجي التي تساعد في عملية النقل من مكان إلى آخر، ومن سيطرة الشركات والمافيات على الكثير من مؤسسات السلطة الرسمية، بما يتيح لهذه المافيات القيام بعملها من دون أن تكون معرضة لعقوبات قانونية، وذلك نظرا إلى علاقات هذه المنظمات بمسؤولين رسميين، غالبا ما تكون الرشوة والفساد عنصرا مقررا في نجاح الإفلات من القوانين المانعة لذلك.
يشير تقرير حديث لمنظمة العمل الدولية إلى أن حوالي ثلاثة ملايين إنسان يتعرضون سنويا للاتجار، من بينهم حوالي مليون ومئتي ألف طفل.
كما أن عدد الدول التي تمارس فيها هذه التجارة يصل الى 139 دولة، أي حوالي ثلثي بلدان العالم، من بينها سبع عشرة دولة عربية.
كما تشير التقارير الدولية الى وجود 27 مليون إنسان حتى الان تعرضوا الى هذه التجارة وعانوا من مترتباتها. تحتل تجارة النساء المركز الاول في تجارة البشر، يليها تجارة الاطفال، ويخضع قسم كبير من النساء والاطفال الى استغلال جنسي، واجبارهم على العمل في ميدان الدعارة، والسخرة كخدم في البيوت، وتمارس عليهم أشكال شتى من العنف الجسدي خصوصا، ويعيشون في احوال بعيدة عن الحد الادنى من الانسانية.
في هذا المجال تشير التقارير الدولية إلى أن تجارة النساء وحدها تحتل المركز الثالث في العالم بعد تجارة تهريب السلاح وتجارة المخدرات.
كثيرة هي الاسباب التي تجعل من تجارة البشر مزدهرة ومدرة للارباح، يقف على رأسها الاوضاع الاجتماعية السيئة التي تعبر عن نفسها بالبؤس والفقر، مما يجعل اصحابها اكثر اذعانا للاغراءت التي تقدم لهم من المافيات والمنظمات المتخصصة في هذا المجال للسفر الى بلدان تؤمن لهم العمل. احتلت في العقدين الماضيين تجارة النساء من بلدان اوروبا الشرقية، بعد انهيار انظمتها الشيوعية، موقعا مهما في انتقال عدد كبير جدا من هذه البلدان الى أوروبا واميركا ودول اخرى، واستخدم قسم واسع منهن في الدعارة والعبودية الجنسية. يضاف الى العوامل الاجتماعية والاقتصادية ضعف التشريعات المانعة لمثل هذه التجارة وسوء الرقابة على تنفيذ القوانين. يخضع الرافضون الى الانخراط في ما تقرره المافيات من اعمال الى اضطهاد جسدي ومصادرة جوازات سفرهم واتلافها بحيث يفقدون هويتهم ويتعذر عليهم الانتقال، مما يجبرهم على الخضوع لما تفرضه عليهم المافيات من قواعد وسلوكيات.
على الرغم من ان بلدانا متخلفة ومتقدمة تتشارك في هذه التجارة، الا ان الحلقة الرئيسة فيها تأتي من البلدان الاكثر تقدما في ميدان التنظيمات المافيوية والتجارية، وهو امر قد يكون مصدر استهجان بالنظر الى ان البلدان المتقدمة تحمل لواء الدفاع عن حقوق الانسان والمواطن.
ورد في «الاعلان العالمي لحقوق الانسان» المقر من الجمعية العامة للامم المتحدة بتاريخ 10كانون الاول (ديسمبر)، وفي المادة الرابعة منه ما يلي: «لا يجوز استرقاق او استعباد اي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة اوضاعهما». تشكل هذه المادة مستندا للشعوب في نضالها من اجل الحرية والغاء كل اشكال العبودية.
اذا كان من الواجب توجيه الاتهام لكل الدول المنخرطة في هذه التجارة، او التي تغض النظر عنها، الا ان مسؤولية خاصة تتحملها الدول المتقدمة التي يقوم مواطنون منها بشكل اساسي في تنظيم هذه التجارة الى البلدان المتقدمة والمتخلفة على السواء، وذلك بالعلاقة، بالتأكيد، مع تنظيمات من بلدان المصدر لهذ التجارة.
ترتفع اصوات السياسيين من بلدان «حقوق الانسان» ضد الانتهاكات التي تجري في البلدان غير المتقدمة، ويجري استغلال هذه الانتهاكات في توظيفها سياسيا من قبل هذه الدول للتدخل في شؤونها او احتلال ثرواتها والتحكم في مقدراتها.
في المقابل يجري غض النظر من الدول المتقدمة عن اشكال الانتهاكات المريعة لحقوق الانسان المتجسدة في استعباد النساء واستغلالهن جنسيا وماديا، وعدم رؤية ما يصيب الاطفال من ادخالهم في اشغال شاقة في المعامل والورش، اضافة الى سوء استغلالهم جنسيا.
وهو امر يدخل الشكوك وانعدام الصدقية في ما تطرحه هذه الدول حول قضية الحقوق. ويزداد الامر استغرابا عندما تشير التقارير الطبية الى مدى انتشار وباء الايدز الناجم اصلا عن هذه الانتهاكات الجنسية لنساء البلدان المتخلفة، وهو داء ينتشر اليوم في جميع ارجاء العالم، وتتحمل تجارة البشر مسؤولية اساسية عنه.
اخيرا، ليس امرا هينا ان يرد في التقارير الدولية عن وجود سبع عشرة دولة عربية مساهمة في هذه التجارة بشكل او بآخر، وهو ما يدعو الى التساؤل عن واقع الانسان العربي ومدى تجاوزه لمنطق العبودية التي عانى قديما من ويلاتها.
ان تجارة البشر العربية وصمة عار في وجه المجتمعات العربية وانتهاكا للقيم الدينية والاخلاقية، وهي تستوجب نضالا مكثفا من اجل استعادة الانسان حقه في الحرية والكرامة، كما تسلط الضوء على مدى التخلف العربي المضاعف ودوره في ازدهار وانتشار هذه التجارة.

كاتب من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى