حوار طريق اليسار مع محمود عيسى
أجوبة الرفيق محمود عيسى- عضو حزب العمل الشيوعي في سوريا – على أسئلة هيئة تحرير ”طريق اليسار“، وذلك إثر الإفراج عنه مؤخراً بعد سجن دام ثلاث سنوات ، هو الثالث من نوعه .
وكانت هيئة تحرير ( طريق اليسار ) قد التقت الرفيق محمود عيسى بعد فتره من خروجه الثالث من السجن وطرحت عليه الأسئلة التالية:
الرفيق محمود أهلا” وسهلا”بك بيننا ، ونحن إذ نرحب بك نهنئ زوجتك وأطفالك لعودتك إليهم بعد افتقاد طويل. وحتى يعرفوا لماذا اعتقلت وأنت تناضل من أجل حرية الفكر والرأي ، ومن أجل الدفاع عن قضايا الكادحين والمهمشين نريد أن نطرح عليك بعض الأسئلة:
س1 : الرفيق العزيز
للمرة الثانية تدخل السجن وقد أمضيت داخله في المرتين أكثر من عشرين عاماً ، ما هي دروس السجن وماذا علمتك ؟ وهل استطاع السجن تبديل قناعاتك السياسية، أو خفف من اندفاعك للعمل السياسي عامة و اليساري خاصة؟
ج1 : “أهلاً وسهلاً بكم ، وأشكركم على الترحيب بي الآن . ما صدر في “طريق اليسار” العدد /14/ تموز 2009 ترك داخلي انطباعاً جميلاً ودافئاً..” أولاً، علمتني تجربة السجن ألا أخلط بين آلامي الشخصية ومتطلبات العمل السياسي ، وأن أكون صبوراً. فكلما سجنت مرة بعد أخرى تزداد قناعتي بضرورة التغيير ، لأن إرادة القوة لا تحل مشاكل المجتمع ، ولا تصلح لأن تكون ناظماً للعلاقة بين السلطة والمجتمع . وكما قال طاغور الشاعر الهندي الكبير: “أن تضيء شمعة في وسط الظلام خير من أن تلعن الظلمة ألف مرة” العمل السياسي بالنسبة لي ليس مجرد أمر عادي عابر في حياتي ، بل هو أسلوب حياة .. نصر على مواصلة الحلم مهما بدا النفق مظلماً. أما بالنسبة لتغير القناعات ، فلو كان السجن قادراً على ذلك لما سجنت مرة بعد أخرى . فالسجن لا يستطيع أن يغير قناعات من لا يريد أن يتغير . وما هو من مسلمات الحياة السياسية في بلدان العالم الأخرى ما يزال ممنوعا عندنا ؛ يسجن المرء على رأيه!! ما يزال العمل السياسي عندنا ينتمي إلى حقل الواجبات ، ولم يعد حقاً بعد!!
س2 كنت تشارك في الحياة السياسية وأنت خلف القضبان عبر العديد من المقالات التي نشرت في العديد من الصحف تعرض فيها رأيك في المسائل المثارة.
ما هو موقف السجّان من مساهماتك ؟ وما هي مشاعرك والسجن لم يستطع منعك من المشاركة برأيك؟
ج2 : “كان السجن السياسي مصمم على ألا يخرج من يدخله سالماً، بل أن يحطم ويخرج حاملاً خرائبه.. قد يكون السجن المكان الأكثر قدرة على دفعك للتعبير عن رأيك ، رغم ما يستتبعه من إجراءات وربما دعاوى “حبس” كما تسمى . كانت السجون السابقة عصية ومقصية في عزلة شبه تامة ، وانقطاع عن العالم . في سجن تدمر حيث اقتصر تواصلنا على جريدة محلية غير دورية . كنا من دون زيارة سنين ، وفي شروط إنسانية مجففة وشحيحة. أما الاعتقال الأخير فكان في سجن عدرا . رغم ما فيه من منغصات يومية ولحظية ، فيه بعض الإيجابيات منها وجود هاتف للاتصال بالأهل والأصدقاء .. والتواصل مع أطفالي وزوجتي تواصلاً يومياً تقريباً . إن علاقتنا أنا وأطفالي قد تم تطويرها عن طريق الهاتف؛ فالدقائق التي كانت تتاح لي للحديث معهم أحدثت الكثير في نفسي وفي نفوس أطفالي وزوجتي.. ومنها أيضاً فرصة التواصل مع العالم الخارجي – خارج السجن- والمشاركة في الحراك السياسي عبر بعض المقالات التي حاولت فيها الرد على بعض المقالات التي تناولت قضيتنا الأخيرة (التوقيع على إعلان بيروت- دمشق) . وإن إصراري على المشاركة هو جزء من استمرار ومواصلة الطريق حتى نهايته. وعندما تنشر المقالات كانت تأتي التعليمات من الجهات الوصائية لتكثيف المراقبة والتلصص
والاستفزاز أحياناً للبعض . كنت مصراً على استغلال كل لحظة في السجن حيث استطعت انجاز السنة الثالثة والرابعة ثم التخرج من كلية الحقوق جامعة دمشق. أما ما يخص السجان فأعتقد أن السجان مشروع ضحية أو قد يكون آخر الضحايا ، فهو في النهاية ينفذ ما أوكل إليه من مهمات
س3 : ” لمرتين دخلت السجن بصفتك شيوعي، ورغم الاهتزازات التي تعرضت لها الاشتراكية المحققة بقيت مرتبطا” بقناعاتك تعمل من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية و الاشتراكية، ما هو تطلعك للمستقبل في الظروف السياسية الحالية؟
ج3 : “دخلت السجن في المرة الأولى لأنني كنت عضواً في حزب العمل الشيوعي بعد ملاحقة دامت أكثر من ست سنوات.. كان الشيوعيون السوريون الرسميون يسقطون عنا [في حزب العمل ] صفة الشيوعية ، لأننا تجرأنا بالنقد للتجربة الاشتراكية السوفياتية ؛ كعبة الشيوعيين . كنا نبحث في جدالاتنا ونناقش مآلات تناقضات الاشتراكية ؛ اشتراكية الاتحاد السوفياتي ، والتي يمكن أن تؤدي إلى ظهور عدد من الاحتمالات : تطوير الاشتراكية ، إدخال إصلاحات على النظام ، أو سقوط النظام . وجاءت الممارسة الاجتماعية ومجمل العوامل المحيطة لتجعل من سقوط النموذج ضرورة تاريخية، بينما الفهم الميكانيكي للحتمية التاريخية كان يؤكد أن النظام ينتقل إلى الشيوعية! سقوط التجربة السوفياتية ومعه أوربا الشرقية أعاد السؤال إلى الواجهة : هل ما زالت الاشتراكية أفقاً إنسانياً مفتوحاً لنضال الشعوب وطموحاتها؟ التاريخ البشري ليس عملية تلقائية أو مجردة ، بل هو عملية ممكنة بين عدة ممكنات .. وتظل قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والإخاء .. الخ قيم إنسانية عليا .كان انجلز يؤكد على ضرورة إعادة النظر في النظرية عند كل اكتشاف علمي جديد . فكيف الأمر والقفزات للثورة الرقمية .. والتطورات النوعية .. ونحن كماركسيين نفهم أن الحرية كقيمة إنسانية عليا في الماركسية تقوم على حرية الفكر وتتجلى بإعادة النظر الدائمة الفلسفية بالنظرية ، والالتزام وتجديده في ضوء الواقع والتجربة الحية . وليس في ضوء قناعات إيمانية ثابتة وتصورات بعيدة عن الواقع ، وأحيانا لا علاقة لها به . وبدون هذا الفهم للحرية تفقد الماركسية الحيوية والقدرة على التجدد ، وعلى التعبير عن أسمى المشاعر الإنسانية في الحرية والعدالة في العصر الرأسمالي وأنظمته. يجب ألا يغيب عن بالنا كم كان غياب الحرية [السياسية والفكرية] مؤثراً في تآكل التجربة السوفياتية وسقوطها والحرية بكل تأكيد هي حرية التعبير عن العوز والجوع والحرمان والقمع. والتحرر من الخوف أيضاً .. الخ ونحن ندرك أيضاً أن التوصل إلى صيغة أعلى من الحرية والديمقراطية لا بد أن يقوم على التناقض الرئيسي بين العمل المأجور من جهة ورأس المال من الجهة الأخرى. وأن التغير لا بد أن ينطلق من تغيير التصورات دون أن يعني أسبقية للفكر على الواقع . وأن مواجهة الاستحقاقات الراهنة والمستقبلية تنطلق من المهمات التي نستطيع حلها . يقول ماركس: “لهذا لا تطرح الإنسانية على نفسها سوى المهمات التي تستطيع حلها لأنه بالنظر إليها عن قرب ، سوف يتضح دائماً أن المهمة ذاتها لا تبرز إلا عندما تكون الشروط المادية لحلها موجودة أصلاً، أو على الأقل في طريق التكون ” (ماركس ، انجلز ، الأعمال الفلسفية ، مأخوذ عن لوسيان سيف ص 213) . بالتالي فإن الديمقراطية هي مشروع داخلي من مهمات الشعب وخياراته ونضالاته من أجل الحرية .. وهي قضية راهنة وكبيرة ومهمة بالنسبة للمجتمع السوري ويتوقف على حلها الكثير..”
س4 وأنت في السجن أعلن عن تشكيل (تجمع اليسار الماركسي في سوريا (تيم )) من مجموعه من الأحزاب الماركسية والشيوعية, كيف تلقيت الخبر وخصوصاً في ظروف بعثرة القوى السياسية وتأثيراتها الكارثية على مجمل العمل السياسي في سوريا ؟
ج 4
“أولاً، أبارك لكم تشكيل هذا “التجمع” وأتمنى أن يقف على رجليه ويتصدى للمهمات المطروحة في الدفاع عن الطبقات والفئات الأكثر تظلماً واضطهاداً في المجتمع . ومن أجل تخليص الشعب من الفقر والحرمان والمعاناة والتمييز .. الخ إلا أن العمل السياسي في ظل الأحكام العرفية المستمرة منذ حوالي نصف قرن ، وفي ظل غياب قانون للأحزاب ، رغم التأكيدات المتكررة بقرب إصداره يُصعّب المهمة إلى حد كبير. مهما يكن فإن قيام التجمعات السياسية وتجميع القوى المعارضة السلمية اليسارية أمر مهم على المستوى السياسي والوطني ، رغم أنه من الصعوبة بمكان تحقيق مكاسب للمحرومين والمهمشين طالما هناك منع للأحزاب السياسية ، وطالما النقابات ملحقة بالسلطة .. وتضيق السلطة بالمعارضة لعدم احتمالها أن يكون هناك إمكانية للتعدد والاختلاف ، بالتالي يؤدي كما هو واقع حالياً ، إلى تقلص أو إلغاء العمل السياسي بمعناه الحقيقي ، أي إلغاء الاعتراف بالآخر . أدى ذلك إلى تقوقع الأحزاب وغيابها بالمعنى الفعلي ، وتراجع مشاركة الناس فيها. أما الأحزاب المسموح بها فهي كما تعرفونها جيداً ، هزيلة مهمتها تأييد السلطة لتأبيد ذاتها وامتيازاتها البائسة إذن ، ما هو المخرج من حالة الاستعصاء الطويلة؟ الحرية هي المخرج؛ فالصيغة العملية للحرية هي الديمقراطية التي من شانها أن تكسر حالة الاستعصاء القائمة الآن .. فالحرية ليست شعاراً بل هي ممارسة يومية ضمن قواعد وعلاقات تلتزم الأطراف بها ينظمها القانون وتعني أولاً: حرية التعبير والتمثيل والمشاركة في اتخاذ القرارات ؛ أي الاعتراف بالتعدد وإمكانية الاختلاف وتداول السلطة سلمياً.. ينص عليها القانون وتخضع لرقابة فعلية يمارسها المجتمع من خلال مؤسساته .. ”
نعم إننا نخسر أيامنا في السجن لكننا نربح كرامتنا..
هيئة التحرير