إيران وإلغاء الدرع
حازم صاغيّة
يتوقّف أصحاب التحليل التقنيّ عند المعنى العسكريّ البحت لتخلّي باراك أوباما عن الدرع الصاروخيّ وخطط تركيزه في بولندا وتشيكيا. والمنطق، هنا، يتسلسل على النحو الآتي: كان الهدف الأساسيّ لإدارة بوش الراحلة، من وراء الدرع، ردع إيران وباقي «الدول المارقة»، ولم يكن الهدف روسيا نفسها. لكنّ موسكو خافت وتصلّبت في مناهضتها الولايات المتّحدة، فيما اكتشفت إدارة أوباما أن الصواريخ الإيرانيّة المحتملة ستكون أقصر مدى من أن تطاول الولايات المتّحدة. هكذا، يستنتج أصحاب هذا المنطق، جاءت الخطوة الأخيرة تنازلاً مزدوجاً للروس والإيرانيّين.
والتحليل أعلاه صحيح في وجه، خاطئ في وجه آخر: أمّا الصحيح فإن إدارة أوباما تحاول، مع روسيا كما مع سواها، إحلال السياسة والديبلوماسيّة محلّ العنف والتوتّر وإمكان إفضائهما إلى حروب. وتتويجاً منها لرفض السياسات البوشيّة، جاءت الخطوة الأخرى التي قد ترقى أهميّتها إلى مستوى أهميّة اتّفاقات «سالت».
لكنّ الخيار هذا، المترافق مع الانسحاب الممرحَل من العراق، تواكبه معطيات أهمّها:
أوّلاً، أنّ الولايات المتّحدة تتخوّف من إيران، وتعتبر أن أحد عناصر القوة الايرانية يكمن في الموقف الروسيّ المائع حيال فرض العقوبات عليها.
ثانياً، أنّ الروس، المنزعجين من الدرع الصاروخيّة، يسعّرون سباق تسلّح حطّ رحاله مؤخّراً في فنزويلاّ. وهذا ليس في صالح أحد، لا سيّما اليوم في ظلّ الأزمة الماليّة الراهنة.
ثالثاً، أنّ الحرب في أفغانستان تواجه الولايات المتّحدة بصعوبات جدّيّة. فإذا ما تزايد أعداد القتلى الأميركيّين، صار أوباما مضطرّاً إلى دعم خصومه الجمهوريّين لإبقاء جنوده هناك. في المقابل، تستطيع روسيا، في حال طمأنها الأميركيّون، أن تساعد واشنطن في البلد الآسيويّ العاصي والمنكوب.
رابعاً، حتّى بولندا وتشيكيا اللتان سينزعج سياسيّوهما المحافظون الذين ربطوا أنفسهم ورصيدهم باستقبال الدرع، فإن في وسع الولايات المتّحدة أن تستبدل التحالف معهم بالتحالف مع معارضيهم الذين دافعوا عن بقاء بلديهم خارج دائرة التوتّر والتوتير.
بلغة أخرى، فإن القرار الأخير يمكن أن يتحوّل ربحاً صافياً يحرزه الرصيدان الأميركيّ والروسيّ معاً. وهنا، تحديداً، يكمن وجه الخطأ في التحليل التقنيّ. ذاك أن القرار المذكور يفتح الباب أمام تجديد التسوية الكونيّة التي نشأت بعد انتهاء الحرب الباردة، وهي إنّما نشأت يومها بالغة الاختلال لأنّ الكرملين، في ظلّ بوريس يلتسن، كان يتربّع فوق بلد فقير وعاجز ومستكين، فيما الإدارات الأميركيّة المتعاقبة، لا سيّما مع بوش الابن، شاءت أن «تنتصر حتّى آخر قطرة روسيّة».
بمعنى آخر، هناك اليوم أساس موضوعيّ لإعادة تنظيم التسوية عبر أخذ روسيا القويّة في الاعتبار وإعادة إدراجها، من موقعها الجديد هذا، في سياق الإقرار بالزعامة الأميركيّة للعالم.
بطبيعة الحال، يتواكب المسار هذا مع غضّ النظر عن مسائل الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، في روسيا وفي البلدان المجاورة لها، أو مع اعتبار الديموقراطيّة مسؤوليّة مباشرة لشعوب البلدان المعنيّة. لكنْ حتّى هنا يمكن الاستدراك: ذاك أن طمأنة روسيا تنزع من يد ميدفيديف وبوتين سلاح التخويف والعسكرة والتشدّد «تطويقاً لمؤامرة الغرب». وتبديد ذاك التشنّج قد يخدم، على المدى المتوسّط، في إعادة إطلاق الحيويّة والمبادرة النقديّتين داخل المجتمع الروسيّ. في المقابل، فإنّ البلدان التي تدلّ على حيويّة رافضة للاستبداد، وفي طليعتها إيران (التي أكّدت هذا، للمرّة الألف في تظاهرة الأمس)، يمكن أن تفرض نفسها على واشنطن وعلى موسكو معاً، فكيف ومتى كانت الصواريخ المحتملة، التي لا تصل إلى الولايات المتّحدة، قادرة على الوصول إلى… أوروبا؟.
إن التطوّر «الإيجابيّ» الأخير، حسب وصف ميدفيديف، تطوّر سلبيّ لحكّام إيران، وأغلب الظنّ أن هؤلاء قلقون جدّاً ولن تتأخّر كلمات «صفقة» و»مؤامرة» في احتلال موقعها إلى جانب «المقاومة» و»الممانعة»
الحياة