أزمة عبثية في العلاقات العراقية ـ السورية
د. بشير موسى نافع
من المفترض أن تكون أزمة علاقات حكومة المالكي مع سورية قد تراجعت الآن، بعد تصعيد استمر زهاء الأسبوعين. اندلعت الأزمة، كما هو معروف، بانفجارات الأربعاء 19 آب/أغسطس، التي أوقعت دماراً واسعاً في مباني حكومية وسط العاصمة بغداد، وأودت بحياة عشرات الضحايا وجرحت ضعفهم. جاءت الانفجارات بعد يوم واحد من عودة رئيس الوزراء العراق نوري المالكي من زيارة رسمية لدمشق، وصفت بأنها زيارة ناجحة وأنها أسست لعلاقة استراتيجية بين البلدين.
ولكن حبر بيانات المسؤولين السوريين والعراقيين لم يكن قد جف بعد، عندما بدأ المالكي حملته لالقاء مسؤولية الانفجارات على عاتق تنظيم بعثي صغير، يقيم قادته في سورية.
خلال الأيام القليلة التالية، صعد المالكي وحفنة من المسؤولين العراقيين الملتفين حوله من لغتهم الاتهامية ضد سورية (وضد كل دول الجوار والدول العربية، في الحقيقة)، عرضوا اعترافات لمعتقل عراقي، وصفوه بالمخطط للهجمات، طالبوا دمشق بتسليم البعثيين المقيمين على أرضها، وهددوا برفع القضية إلى مجلس الأمن لتشكيل محكمة دولية. أعرب السوريون، من جهتهم، عن الدهشة للانقلاب المفاجئ في اللغة والموقف العراقيين، طالبوا بأن تقدم حكومة المالكي ما لديها من أدلة ضد البعثيين العراقيين المقيمين في دمشق، إلى أن علق الرئيس السوري على الموقف العراقي بأن أقل ما يقال فيه أنه غير أخلاقي.
تقدم العراقيون بالفعل بشكوى إلى مجلس الأمن؛ ولكن وساطات إيرانية وتركية، ومن الجامعة العربية، تحركت بسرعة لاحتواء الأزمة.
التدخلات، من جهة، وإحجام المسؤولين الأمنيين العراقيين كافة تقريباً، والطيف الأوسع من القوى السياسية العراقية، من سنية وشيعية وكردية، اللهم إلا بعض المقربين من أعضاء حزب الدعوة، عن دعم المالكي، بل وفتور الدعم الأمريكي لموقف رئيس الحكومة العراقية، كلها امور أدت في النهاية إلى تراجع حدة الأزمة. ولكن هذا التراجع، على أية حال، لم يوقف التساؤلات، العراقية والعربية، حول حقيقة ما جرى، وحقيقة الدوافع خلف تصعيد المالكي المفاجىء ضد الجار العربي السوري، وهو الذي كان يتحدث قبل أيام فقط عن تأسيس علاقة قوية وراسخة به. الأمريكيون، الذين هم المشتبه به التقليدي في كل ما يتعلق بما يسيء لعلاقات العراق بجواره العربي، بدا أنهم أفلتوا هذه المرة من دائرة الاتهام، بعد أن صدرت عن مسؤوليهم في العراق تصريحات متفاوتة، لم توفر للمالكي الغطاء الكافي في هجمته ضد دمشق. فهل ثمة من تفسير لهذه الأزمة؟
لنبدأ أولاً بالجهة التي يتهمها المالكي، مجموعة يونس الأحمد المنشقة عن من تبقى من حزب البعث العراقي، الذي يقوده نائب الرئيس العراقي السابق السيد عزت الدوري. مجموعة الأحمد، كما تؤكد كافة الدوائر العراقية، هي مجموعة صغيرة أصلاً، لا يعتقد أن لها من الإمكانيات أو النفوذ داخل العراق ما يؤهلها للقيام بمثل التفجيرات المتزامنة والهائلة التي شهدتها بغداد يوم الأربعاء إياه. أما المخطط المزعوم للتفجيرات، الذي ظهر على شاشات التلفزة العراقية مقراً بمسؤوليته ومشيراً بأصابع الاتهام إلى مجموعة الأحمد، فالأرجح أنه وقع في الاعتقال قبل وقوع التفجيرات؛ إضافة إلى أن سجل حكومة المالكي في إظهار متهمين وقيادات إرهابية على شاشات التلفزة لا يحفل بالمصداقية. ولكن الأكثر مدعاة للشك كان استقالة مسؤول المخابرات العراقية الجديدة على خلفية من اختلاف تقديره للتفجيرات عن تقدير المالكي، بالرغم من أن الأخير يسعى منذ زمن للتخلص من رئيس جهاز مخابراته الذي لا يدين له بالولاء. وإن كانت استقالة، أو إقالة، رئيس جهاز المخابرات لم تكن كافية لتداعي اتهامات المالكي، فقد تلاها مباشرة إقالة قائد عمليات العاصمة بغداد، الذي لم يكن بالضرورة من العسكريين الذين استهدفهم المالكي من قبل، والذي صرح علناً بأن ليس لديه من الأدلة ما يكفي لتأييد اتهامات رئيس الحكومة لسورية والبعثيين المقيمين على أرضها. هذه بعض التفسيرات لموقف المالكي من سورية:
جاء المالكي رئيساً غير متوقع للحكومة العراقية، ولكن السنوات القليلة التي قضاها في سدة الحكم علمته بعض الدروس. الأول، أن العراق لا يحكم طائفياً؛ وبالرغم من أن طائفية المالكي مسألة مؤكدة، عليها من الشواهد ما لا يحصى، فقد تعلم رئيس الحكومة أن يخدم أجندته الطائفية تحت عباءة حكم وطني. هذا، بالطبع، غير كاف للخروج بالعراق من أزمته، ولكنه على أية حال أفضل من الحكم الطائفي الصريح؛ فما يبدأ مجرد عباءة، قد يساهم بالفعل في تعزيز اللحمة الوطنية العراقية، إلى أن تستعصي هذه اللحمة على خطابات الكهوف الطائفية. الثاني، أن العراق يحتاج مركزاً قوياً، وربما يفضل أيضاً أن يكون في هذا المركز حاكم قوي أيضاً؛ وهي نظرية حكم العراق المكرسة من أبي جعفر المنصور إلى صدام حسين، إن أخذنا في الاعتبار تاريخ العراق العربي الإسلامي فقط. وقد أقام المالكي رصيده السياسي على أنه القادر على استعادة المركز القوي، سواء بمواجهة الميليشيات المسلحة، الشيعية قبل السنية، وعلى الدفاع عن وحدة العراق ضد فيدرالية جماعة الحكيم وتغول النفوذ الكردي. هذا الرصيد هو ما جاء للمالكي بانتصاره المدوي في الانتخابات المحلية، وهو الرصيد الذي احتاج إعادة بناء قبل الانتخابات البرلمانية القادمة، إن ظل المالكي عازماً (وقادراً) على خوض الانتخابات باستقلال عن الإئتلاف الشيعي سيىء السمعة. ولم تكن هناك من فرصة أفضل، بل ومن فرصة أكثر تحدياً لرصيد المالكي، للتوكيد على أن رئيس الوزراء لم يزل على تصميمه للتعامل مع الملف الأمني، ليس فقط ببعده العراقي، ولكن أيضاً فيما يتعلق بدور دول الجوار المزعوم، حتى إن كان الهدف هو سورية.
بيد أن ثمة بعداً ثانياً للنظرية الأمنية الانتخابية، يخص الأثر الفعلي لتفجيرات الأربعاء. فبخلاف تصريحات المالكي ومساعديه، وبخلاف التقديرات الأمريكية المعلنة، كشفت الهجمات عن هشاشة وضعف المؤسسة الأمنية العراقية، وليس فقط احتمال تواطؤ بعض عناصرها مع من دبروا التفجيرات. فخلال الساعات التالية لوقوع التفجيرات، أصاب الرعب عناصر القوى الأمنية وقياداتها، وبدا وكأن العاصمة العراقية تفتقد ليس لأداة الحماية وحسب، بل ولمركز التحكم والإدارة الأمنية. سواء قصد مخططو الهجمات أم لم يقصدوا، أكدت أحداث الأربعاء أن دولة ما بعد الاحتلال، وبعد كل هذه السنوات وهذا الجهد والمال الذي استثمر في بناء قدراتها الأمنية، لم تستطع بعد أن تحمي شعبها، ولا ذاتها كدولة ومؤسسة حكم. ومن هنا جاء رد الفعل الخارج عن كل طور من المنطقة الخضراء.
التفسير الآخر يتعلق بحقيقة العلاقات بين المالكي والأشقاء في دمشق. الأمور بين المالكي ودمشق لم تجر على ما يرام خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي للعاصمة السورية كما كان قد قيل. ربما اعتقد السوريون، الذين لا يخدعون بسهولة في مثل هذه المناسبات، أن نتائج الزيارة كانت إيجابية؛ ولكن المالكي على الأرجح لم يغادر دمشق راضياً. كان المالكي يحتاج دعماً سورياً قوياً لقراره خوض الانتخابات بقائمة مستقلة، دعماً أمنياً وسياسياً. وهناك تقارير تفيد بأنه لوح للرئيس الأسد باتفاقات اقتصادية وتجارية مغرية مقابل الدعم السوري، الذي شمل طلب تسليم بعض العناصر البعثية المقيمة في دمشق. ولكن الأسد رفض العرض، مذكراً المالكي بالسنوات الطويلة التي احتضنته فيها سورية، بينما هو ينشط في معارضة الحكم العراقي السابق، وبكل الوسائل؛ كما أن تصريحات المسؤولين السوريين، سواء أثناء الزيارة أو بعدها، نأت بنفسها عن الوضع السياسي العراقي الداخلي. ما عاد به المالكي من انطباع من دمشق أنه لا يستطيع أن يعول على الدعم السوري؛ وهو ما يستدعي ربما أن ينظر إلى تصعيد المالكي مع دمشق ليس باعتباره انقلاباً مفاجئاً بعد زيارة ناجحة، بل استمراراً لأجواء الزيارة كما رآها.
القول بأن التباعد والتوتر هما قدر العلاقات السورية العراقية، بغض النظر عن النظام الحاكم في كل من عاصمتي البلدين، يوحي بوجود حتمية تاريخية، وينبغي أن لا يؤخذ دائماً على عواهنه. ثمة إرادة إمبريالية حرصت منذ نشوء الدولتين في مطلع العشرينات من القرن الماضي على الوقوف أمام كل محاولة لتوحيدهما؛ وهي إرادة مسجلة في وثائق تاريخ المشرق العربي خلال فترة ما بين الحربين، ولا تحتاج لا لاجتهادات ولا نظريات مؤامرة! ولكن منذ استقلال البلدين (الاستقلال الذي لم يكن ناجزاً في الحالة العراقية)، لم تكن العلاقات بين دمشق وبغداد سيئة ومتوترة دائماً. عندما كانت العلاقات تدخل طوراً من التوتر والتباعد كان هناك دائماً أسباب واضحة، إقليمية أو دولية، أو أخرى تتعلق بتدافع القوى السياسية الداخلية. إن كان هناك ما يتطلب استبعاد الدافع الانتخابي والشك في مصداقية الرواية العراقية، فلابد من أن تكون إرادة ما قد اشتغلت لاستخدام المالكي في وضع أسس قطيعة عراقية سورية مبكرة، قبل أن يمضي النظام العراقي الجديد بعيداً في تحديد طبيعة علاقاته الخارجية بجواره العربي.
مهما كان الأمر، فالواضح أن المالكي أخطأ الحساب؛ فلا التصعيد غير العقلاني وغير المبرر عزز من موقعه ونفوذه داخل العراق، ولا هو نجح في تحقيق التفاف الطبقة السياسية العراقية الجديدة حول اتهاماته لدمشق. وإن كان للمالكي أن يوقع الهزيمة مرة أخرى بحلفائه السابقين في الإئتلاف الشيعي، فعليه أن يسرع إلى نزع فتيل الأزمة، وأن يأمل أن ينسى العراقيون خبطه العشوائي قبل موعد الانتخابات القادمة.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي